إعداد الفريق لعلمي لبرنامج محكمات . 13 أكتوبر, 2022, 4:51 AM
إعداد الفريق لعلمي لبرنامج محكمات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن مِن أُسُس الدِّين ومحكماته ومعالمه العظيمة: وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- واتباعه في أقواله وأفعاله؛ وقد بيَّن الله -عز وجل- أن السُّنة النبوية وحيٌ من عند الله، فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 3-4]، والوحي الرباني يجب اتباعه والالتزام بهداه.
وقد أمَر الله بطاعة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[النور: 56]، واشترط لتحقيق الهداية طاعة الرسول؛ فقال: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[النور:54]، وجعل طاعته من طاعة الله -تعالى-، فقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[النساء:80].
ومما يدلّ على وجوب طاعة الرسول في حياته، والاحتكام إلى سُنّته بعد موته أن الله -جل وعلا- نفى الإيمان عمَّن لم يلتزم بسُنَّة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال -تعالى-: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)[النساء: 65]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "يُقْسِم -تعالى- بنفسه الكريمة المقدَّسة أنه لا يؤمن أحدٌ حتى يُحَكِّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع الأمور، فما حَكَم به فهو الحقّ الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال –تعالى-: (ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)؛ أي إذا حكّموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمتَ به، وينقادون في الظاهر والباطن، فيُسلّمون لك تسليمًا كليًّا من غير ممانعة، ولا مدافعة ولا منازعة"(تفسير ابن كثير:1/520).
كما حذر الله -تبارك وتعالى- من مخالفة سُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهديه، فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي -يخالفون- عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسُنّته وشريعته، فتُوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِلَ وما خالفه فهو مردود على قائله كائنًا من كان"(تفسير ابن كثير: 3/318).
ومما هو معلوم من الدين بالضرورة وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واتباعه والالتزام بسُنّته والاهتداء بهديه، والوقوف عند ما شرعه، وعدم الابتداع في الدين؛ فقد أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتمّ عليها نعمته، قال الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)[المائدة:3]، وقال -سبحانه-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ)[الشورى: 21].
وقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من البدع، وصرّح بأن كل بدعة ضلالة، وأنها مردودة على صاحبها، فقال: «مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ»([1])، وفي رواية: «مَن عَمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»([2]).
ولذا اشتد تحذير السلف الصالح من البدع؛ لأنها زيادة في الدين بعد اكتماله، وتشريع ما لم يأذن به الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتشبُّه باليهود والنصارى في زياداتهم في دينهم.
تعريف البدعة:
البدعة في اللغة هي الإحداث في الدين بعد الإكمال، أو ما استُحْدِثَ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأهواء والأعمال([3]).
أما البدعة في الاصطلاح فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «البدعة في الدين هي: ما لم يشرعْه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب، ولا استحباب»([4])، وهذا الضابط مهم يوضّح الفرق بين الابتداع في الدين المرفوض، وبين الابتداع في العادات والأمور الدنيوية فهو مباح بحسب حاجة البشر إليه.
وقال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: «البدعة طريقة في الدِّين مخترعةٌ، تُضاهي الشَّرعيَّة، يُقصَد بالسلوك عليها ما يُقصَد بالطريقة الشرعية»([5]).
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: «والمراد بالبدعة ما أُحْدِثَ مِمَّا لا أصلَ له في الشريعة يدلُّ عليه.. فكل مَن أحدَث شيئًا ونسَبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدِّين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه»([6]).
ذمّ البِدَع والتحذير منها:
نظرًا لخطورة البدع وآثارها القبيحة على الأمة المسلمة فقد تواتر النهي عنها والتحذير من الابتداع في الدين، قال الله -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)[الأنعام:153]، قال الإمام الشاطبي: "فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السُّنَّة، والسُّبُل هي سُبُل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط وهم أهل البدع"([7])، وأضاف -رحمه الله-: "فهذه الآية تشمل النهي عن جميع طرق أهل البدع"([8]).
وقد حذَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُمّته من البدع والابتداع في الدين، فقال: «مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدُّ»([9]).
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "الردّ هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير مُعتدٍّ به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كَلِمه -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه صريح في ردِّ كل البدع"([10]).
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر في مطلع كل خطبه من البدع فيقول: "إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور مُحدَثاتُها، وكل مُحدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»([11]).
وقال عبد الله بن مسعود t: «اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم، كل بدعة ضلالة»([12]).
وحذَّر أئمة أهل السنة والجماعة من البدعة، وبالغوا في النَّكير على المبتدعة؛ قال الإمام مالك -رحمه الله-: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خانَ الرسالة؛ لأن الله يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا»([13]).
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: «أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والاقتداء وترك البدع، وكل بدعة ضلالة»([14]).
من هذا كله يتضح أن الابتداع في الدين أخطر من الذنوب والمعاصي؛ ولذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله حَجَب التوبة عن صاحب كل بدعة حتى يَدَع بدعته»([15])، وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يُتَاب منها، والبدعة لا يُتاب منها»([16]).
ولا شك أن النصوص يُفسّر بعضها بعضًا، والله سبحانه بيّن لعباده أنه يقبل توبة التائبين إذا أقلعوا عن جرائمهم، وندموا وعزموا على أن لا يعودوا، وردّوا الحقوق إلى أهلها، وكذا يتوب الله على المبتدع إذا ترك بدعته وندم عليها ورجع إلى التمسك بالسُّنَّة النبوية.
أثر البدع في هدم محكمات الشريعة:
عانت الأُمَّة على مرّ عصورها من ظلمات الابتداع في الدين، وأثَّر بعض البدع على محكمات الدِّين وثوابته، وحَرَف الأمة عن الصراط المستقيم، وأصابت البدع أصل المحكمات وهي العقيدة الصافية، فدخل على الأمة من الانحرافات من بدع الاعتقاد ما أثر على قوام الأمة وأسس بنائها، ولذلك أصاب صرحها العظيم الوهن، وابتعدت عن الصراط المستقيم.
فمن أوائل البدع ظهورًا والتي أثرت على محكمات الشريعة: بدعة الخوارج، الذين ظهر قرنهم الأول في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخاطبه مخاطبة الأجلاف، ثم تكاثروا في زمن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حتى اشتركوا في عزله واستشهاده، ولذلك قاتلهم عليّ -رضي الله عنه- عندما استفحل خطرهم، وألحقوا الأذى بالمسلمين؛ وتقوم أصل بدعتهم على إخراج كل من ارتكب كبيرة من الكبائر من دائرة الدين، ويستحلون الخروج على أئمة المسلمين وجماعتهم ويستحلون قتالهم، مع ما في ذلك من تشتيت الأمة وتفرقها، وانتشار الغلو واستحلال الدماء، وهذا الفكر الهدّام رفضه الصحابة وناظرهم عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وبَيَّن لهم مواضع الخلل في أفهامهم.
ثم ظهرت بدعة أخرى أثرت على محكمات الأمة وثوابتها ولا تزال تؤثر بقوة ألا وهي بدعة التشيع لآل البيت والمغالاة فيهم، وجعلهم معقد الولاء والبراء، وما تبع ذلك من سبّ الصحابة وتخوينهم، وتكفيرهم، واستحلال دمائهم أحياء ولعنهم أموات، هذه البدعة غرس أسسها ورعاها عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي ادَّعى عصمة عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- وآل البيت، بل تعدَّى ذلك إلى تأليهه، وسبّ الصحابة علنًا، فتَّصدَّى لهذه الظاهرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقمعها فظلت مغمورة لفترة، ثم انتشر الروافض بعد ذلك وصارت لهم دُوَل وشِيَع تقوم على عداء السُّنة وسبّ الصحابة، والعكوف على قبور آل البيت، والاعتقاد بالإمام الغائب، وموالاة أعداء المسلمين في حربهم على أهل السُّنة، وما ترتب على ذلك مِن بدع كثيرة فَرَّقت وحدة الأمة وضربت ثوابتها.
ومن البدع التي أثرت على محكمات الشريعة: بدعة القدرية، وهم الذين يُكذّبون بالقدر، وبما سبق في اللوح المحفوظ، فأنكروا أن يكون الله -تعالى- قد قدَّر أفعال العباد، أو شاء وقوعها منهم، وترتب على ذلك التشكيل في ركن من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وبسببه انحرفت طوائف من المسلمين عن مسلك الهداية والرشاد.
ومن البدع المضادة لثوابت ومحكمات الدين، بدعة الإرجاء التي أصابت الأمة المسلمة في مقتل منذ ظهورها وحتى يومنا هذا، فقد ظهرت فتنة المرجئة في نهايات القرن الهجري الأول؛ حيث خرجوا المرجئة على الناس بفكر ضال مفاده إخراج العمل عن مسمى الإيمان، فصار الإيمان عند المرجئة مقتصرًا على التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وبناء على ذلك المعتقد الباطل صار إيمان المسلم العاصي كإيمان أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-.
والإيمان عند أهل السنة والجماعة اعتقاد وقول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويشمل الاعتقاد بالقلب، والنطق باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، فجاء هؤلاء المبتدعة ليخرجوا العمل من مسمى الإيمان؛ فجعلوا الإيمان مجرد التصديق القلبي بدون أي عمل بالأركان، وبالتالي فإن العمل ليس له تأثير في زيادة الإيمان ونقصه، فكان من عواقب هذا المذهب المبتدع على الأمة: تزهيد الناس في العمل الصالح، والتقليل من أهميته، ولا يزال لهذا الانحراف آثار وعواقب وخيمة امتدت إلى عصرنا الحاضر.
ومن البدع التي حرفت مسار الأمة عن الجادة ولوثت على الناس صفاء العقيدة: بدعة الجهميّة؛ الذين نفوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وزعموا أن العاصي مُجْبَر على فعل معصيته، مع ما يلزم من هذا من استشراء المنكرات وانحراف الناس عن سبل الهداية والرشاد إلى سبل الغي والفساد.
ومن البدع التي أدت إلى انحراف المسلمين عن ثوابت الشريعة: بدعة المعتزلة الذين جعلوا مرتكب الكبيرة في منزلة بين الكفر والإيمان، فلا هو مسلم أو كافر، بل هو في منزلةٍ بينهما، ووضعوا قواعد عامة في الشريعة من نواتج فهمهم المنحرف.
ومن البدع التي تخالف ثوابت الشريعة الإسلامية: بدعة الباطنية الذين يزعمون أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، وأن ظاهر القرآن هو ما يَفهمه العوام، وباطن القرآن هو ما يفهمه الخواص، ثم يأتون بأمور مما يسمونه الباطن يخالف مخالفة أساسية لقواعد اللغة وأسس الشريعة، مثل قوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] قالوا: علي وفاطمة، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: الحسن والحسين. وهكذا يفسّرون النصوص الشرعية تفسيرًا مخالفًا لقواعد اللغة؛ فقالوا في قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة:67]؛ قالوا: إن المراد بالبقرة عائشة -قبحهم الله-، وهكذا يغيّرون معاني النصوص، ويأتون بمعاني بعيدة كل البعد عن ظاهر اللفظ، فليس هناك أيّ ارتباط ولو بخيط ضعيف، ويقولون: إن للقرآن ظاهرًا وباطنًا([17])، وهذا المسلك مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة في فهم القرآن العظيم.
ومن البدع التي حاولت هدم محكمات وثوابت الشريعة: القول بخلق القرآن، حيث فتح الخليفة المأمون بمؤازرة ابن أبي دؤاد على الأمة فتنةً عظيمةً، ودخل على الناس شرّ مستطير، وأُوذي فيها وامتُحِنَ واستُشهد علماء كثيرون، ولم يكتفِ المأمون بما فعل فامتحن الناس في قضيّة خلق القرآن، وتلاه الخليفة المعتصم في ذلك، وحدثت الفتن بين المسلمين، وتطاول الخلفاء على أئمة الدين، وظهر الاختلاف في الآراء، ومال أهل الزيغ إلى البدع والأهواء. وتصدى لهذه البدعة وفنَّد عوارها الإمام المبجل أحمد بن حنبل -رحمه الله ورضي عنه- وثبت لهذه المحنة حتى كشفها الله ورفع أغلالها عن الأمة.
ومن البدع التي حادَّت ثوابت الشريعة: تعظيم القبور وشدّ الرِّحال إليها، والطواف بها، والنذر لها، والتعلق بها، وسؤال الموتى من دون الله تعالى، وهذه البدع انتشرت وعمَّت وطمَّت حتى أصابت لوثتها عددًا كبيرًا من المسلمين، وهذه البدع تخالف محكمات الدين وتهدم أسسه في وحدانية الله وتصرُّفه وحده في الكون وأنه ليس بحاجة إلى وسطاء بينه وبين خلقه.
وإذا كانت البدع السابقة بغلب عليها البدع العقدية، فهناك بدع عمليَّة كثيرة انتشرت بين المسلمين، مثل زخرفة المساجد، أو في أحوال الموتى والدفن، ورفع القبور وتجصيصها، والعزاء، أو في النكاح، أو في الذكر الجماعي، بل وصل بعضها إلى الصلاة المفروضة، أو في الوضوء، وفي غيرها من أبواب العبادات المتنوعة.
إلا أن أشد البدع العملية ما يُوصِّل صاحبه إلى الكفر والانحلال عن ربقة الشريعة وربما هو لا يدري، مثل البدع التي يكون فيها عبادة لغير الله -عز وجل- كالسجود للقبور، ودعاء الموتى، والاحتماء بهم والاعتماد عليهم، واعتقاد أنهم ينفعون أو يضرون.
ومؤخرًا ظهرت بِدَع كثيرة تُؤثِّر على محكمات الشريعة؛ ومنها: التَّشبُّه بالكفار وموالاتهم والاستنصار بهم على المؤمنين، وتعظيم شعائرهم والاحتفال بأعيادهم الدينية، وتولّي أفكارهم، والإعجاب بمناهجهم ونُظُمهم، واستيراد فلسفاتهم وأفكارهم التي تصادم المعلوم من الدين بالضرورة.
ولما ظهرت هذه البدع وغيرها تصدّى علماء الأمة وأئمة الهدى لهذه البدع الخبيثة، وأوضحوا الحق لكل ذي بصيرة، لكن من الأمور المحزنة أن هذه البدع الخبيثة وغيرها وعلى الرغم من أنها تهدم محكمات الشريعة وتُبدّل أُسُس الدين الحنيف؛ إلا أن لها أشياعًا وسَدَنة يؤيدونها ويَدْعُمون نشرها في الأمة لمصالحهم ومآرب أسيادهم، لحَرْف الأُمَّة عن الصراط المستقيم، ولإخراج أجيال من الأُمَّة لا تعرف دينه وثوابته، فتصرف الاحتياج الفطري للعبادة في أوجه فاسدة وبدع فارغة، ولذلك لا تزال هذه البدع تتوالى على مرّ العصور ويحرص سدنتها على نَشْرها، ولا تزال جولات المعركة بين الحق والباطل قائمة إلى يوم القيامة.
لكنَّ هذا الدين له رب يحميه، فيُقيِّض الله -سبحانه وتعالى- علماء ربانيّين يُضحُّون بالغالي والنفيس في سبيل بيان الحق، وردّ البدع والضلالات، ويقفون أمام جحافل المبتدعة، حتى يستبين الحقّ للأمة، وتبقى العقيدة ومحكمات الشريعة صافية نقية كما كانت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ ليحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، نسأل الله السلامة والعافية.
المصادر والمراجع
1. القرآن الكريم
2. الاعتصام، للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي، ت 790 هـ، تحقيق سليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية.
3. تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 315 هـ، تحقيق محمود وأحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار المعارف بمصر.
4. تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، للإمام أبي الفداء إسماعيل بن الخطيب عمر بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774 هـ، طبعة 1407 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان.
5. جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، الطبعة الأولى 1414 هـ، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.
6. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ت 795 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1411 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
7. سلسلة الأحاديث الصحيحة، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، 1399هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
8. سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، ت 279 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، 1398 هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، مصر.
9. سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت 255 هـ، طبعة 1404 هـ، تحقيق عبد الله بن هاشم اليماني، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية.
10. سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث السجستاني، ت 275 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بدون تاريخ، دار الفكر، بيروت، لبنان.
11. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام أبي القاسم هبة الله بن حسن الطبري اللالكائى، ت 418 هـ، تحقيق د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، الطبعة الرابعة، 1416 هـ، دار طيبة، الرياض، المملكة العربية السعودية.
12. شرح السنة، للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، ت 519 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1396 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
13. شرح صحيح مسلم للنووي، لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت 676 هـ، تحقيق لجنة من العلماء بإشراف الناشر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ، دار القلم، بيروت، لبنان.
14. صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ، طبعة 1414 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. وطبعة 1315 هـ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا، والنسخة المطبوعة مع فتح الباري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية.
15. صحيح الترغيب والترهيب، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1412 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
16. صحيح سنن الترمذي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1408 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
17. صحيح سنن أبي داود باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
18. صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت 261 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
19. الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري، ت 235 هـ، تحقيق محمد عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
20. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية.
21. القاموس المحيط، للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ت 817 هـ الطبعة الأولى، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان.
22. لسان العرب، للإمام أبي الفضل جمال الدين بن مكرم بن علي بن منظور، ت 711 هـ، الطبعة الثالثة، 1414 هـ، دار صادر، بيروت، لبنان.
23. مجموع فتاوى ابن تيمية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، ت 728 هـ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، بدون تاريخ، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب.
24. أصول العقيدة، عبد الرحيم السلمي، المكتبة الشاملة الحديثة، ص17.
([1]) صحيح البخاري (2697)، ومسلم، (1718).
([3]) القاموس المحيط، باب العين، فصل الدال، ص 906، ولسان العرب، 8/6.
([6]) جامع العلوم والحكم: 2/127.
([9]) صحيح البخاري (2697)، ومسلم، (1718).
([10]) شرح النووي على صحيح مسلم (14/257).
([11]) أخرجه النسائي (1578) وصححه الألباني في صحيح النسائي (١٥٧٧).
([12]) أخرجه ابن وضاح فيما جاء في البدع (14)، وصححه الألباني في إصلاح المساجد ١٢.
([14]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي 1/176.
([15]) أخرجه الطبراني في الأوسط (4202) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (٥٤) وفي السلسلة الصحيحة (1620).
([16]) شرح السنة، للبغوي: 1/216.
([17]) أصول العقيدة، عبد الرحيم السلمي، المكتبة الشاملة الحديثة، ص17.