Loading ...

أثر المحكمات على العمل التربوي

إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات 

بسم الله الرحمن الرحيم

العمل التربويُّ لا شكَّ أنَّه عمل عظيم؛ لارتباطه الوثيق بالجيل الناشئ الصاعد، فإنَّ قوام أيِّ أمَّة هو الشباب والنشء، ومتى ما أتيحت لهم الفرصة وتم بناؤهم دينيا وفكريا وعلميًّا بشكل جيد تقدَّمت الأمَّة في شتى المجالات.

وقد قلت: لارتباطه الوثيق بالجيل الصاعد؛ لأنَّ العمل التربوي غير مختص بالجيل الصاعد أو الشباب فحسب لكن ارتباطه بهم ارتباط وثيق، والمربِّي الجيد يدرك ثقل العمل التربوي وأهميته، وأنه عمل شرعي تعبُّدي لله، وضرورة ملحَّة لا تستغني عنها المجتمعات، فكان لابد أن يحاط بسياجٍ من الشريعة، وتضبط بضوابطها، وتنطلق من أصولها، وذلك حتى لا تكون الغاية التي هي التربية مبررة لوسائل خاطئة قد نراها في بعض الأعمال التربوية.

وإن من أكثر ما يضبط العمل التربوي ويجعله محقِّقا لمقاصد الشريعة ومراد الشرع هو: المحكمات.

فلا ريب أنَّ المحكمات تضبط الدين كله، ولذلك جعل الله أصول الدين محكمات يتمسك بها الناس ويرجعون إليها عند التشابه وتباين الآراء واختلاف وجهات النظر؛ سواء كان ذلك في فروع مسائل العقيدة والفقه، أو في الأخلاق والسلوك والتعبد، أو في التربية والدعوة وغير ذلك.

وللرجوع إلى المحكمات والاستناد عليها في العمل التربوي آثار كبيرة على العمل التربوي واستمراره ومواكبته لمتطلبات الواقع والعصر، ومن تلك الآثار:

جمع الناس وتأليفهم

إنَّ من أهم مقاصد الشريعة: جمع الناس، وتأليف قلوبهم، والنهي عن تفرقهم، ووأد أسباب التفرق وذمها، وقد بين القرآن الكريم أهمية اجتماع الكلمة؛ فكان يدعو إلى الاجتماع، وينهى عن التفرق، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ) رحمه الله: "تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جِماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البَيْن، فإن الله تعالى يقول: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [الأنفال: 1]"([1]).

والنصوص في ذلك كثيرة، منها:

قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]

وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِي} [الشورى: 13]

وقوله تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]

وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]

وليس الغرض هنا التأصيل لمحكمة الاجتماع ونبذ التفرق، ولكن بيان أن الرجوع إلى المحكمات والانطلاق منها في العمل التربوي يحقِّق مراد الشرع في اجتماع الكلمة ونبذ التفرق، فإنَّ عامَّة الناس إنما ينضبطون بالأصول والمحكمات الواضحة البينة للجميع، فالمحكمات واضحات كما قال ابن كثير رحمه الله (ت: 774هـ) في تعريفها: "بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس"([2])، فهي واضحة للناس لا تلتبس عليهم ويسهل جمعهم عليها، وقد تخفى عليهم المصالح والمفاسد المترتبة على اجتهادات بعض العلماء، فعدم الاعتماد على المحكمات يورث الاختلاف والتنازع والتباين المذموم للآراء، أما الرجوع إلى المحكمات فإنه العاصم من هذا الاختلاف، والجامع للناس تحت مظلة واحدة منضبطة.

المحافظة على الشريعة

جاء الشارع الحكيم بدبين كامل كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقد أمر بالتمسك بالكتاب والسنة، وهي الحاوية على محكمات الدين، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، منها:

قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]

والمحافظة على المحكمات في العمل التربوي هي محافظة على الدين؛ لأن الخروج عنها خروج عن الدين الإسلامي، فالعمل التربوي لا بد أن ينبني على هذه المحكمات، وق قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"([3])، وهذا عام وشامل لكل الأعمال، فينبغي على المربين أن لا يهدموا أصول الدين ومحكماته باختيارهم للوسائل الخاطئة التي حذَّرت الشريعة منها، أو التي تكون مصادمة للمحكمات، أو مشككة فيها.

والحفاظ على المحكمات والاستناد عليها حفاظ على الدين، وسيرٌ على الطريق الصحيح المقبول، وعاصم من تضييع شيءٍ من الدين.

ضبط العمل التربوي من التجاوزات

لا شك أن التمسك بمحكمات الدين والرجوع إليها يحفظ الإنسان من الوقوع في كثير من الأخطاء التي هي من سبيل الوسائل، فإن غاية العمل التربوي غاية نبيلة، وقد تقع بعض التجاوزات في الوسائل والأدوات بسبب خطأ في تقدير مصلحة أو مفسدة أو غير ذلك، والعاصم من الزلل في الوسائل ومعرفة تحقيقه للمقاصد هو التمسك بالمحكمات، وإرجاع أي فعل أو وسيلة إليها حتى ندرك خدمة الوسيلة لهذه المحكمات وحفاظها عليها، فيُتمسك بما يخدم المحكمات وينبني عليها وينطلق منها، ويترك ما يرجع إلى المحكمات بالهدم أو التهوين.

فقه الأولويات

اهتمت الشريعة بالأولويات ومراعاتها، ومعرفة درجات الأعمال وتقديم الأنفع منها، كما قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19]، فبين الله سبحانه وتعالى أن الإيمان أهم الأعمال وأنه لا يوازيه عملٌ مهما كان، وبين الله أن العملين لا يستويان عند الله، ومن تلك الآيات قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] فبين الله الفرق بين العالم بالله والجاهل وأنهما لا يستويان، ومثلها قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]، وقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 19 - 22].

والآيات في هذا الباب كثيرة، والمراد هو: أن العمل بالمحكمات والرجوع إليها في العمل التربوي، يجعل المربي بصيرًا بالواجب الآنيِّ عليه، وبما يحقق للناس مصلحة أعظم من مصلحة أخرى، أو يدرأ عنهم مفسدة أعظم من مفسدة أخرى.

فالاستناد إلى المحكمات يجعل المربي أولا على بصيرة بما يجب عليه أن يبدأ به، وأن يقدمه، وقد يختلف ذلك من زمان إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، إلا أن المربي يكون على بصيرة دائمة في تقديم ما هو الأولى والأنفع للمجتمع والزمان، ولا يمكن أن يُعمل هذه الموازنة إلا بمعرفة المحكمات والرجوع إليها، وإننا نجد ذلك في فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذًا إلى اليمن، فقال: إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها، فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس"([4])، فبين النبي صلى الله عليه وسلم واقع الناس وحالهم، ثم أمره بالتدرج في الدعوة بدءًا بالأولويات.

الموازنة بين المصالح والمفاسد

من أهم آثار المحكمات في العمل التربوي، أنها تجعل الإنسان بصيرًا بالموازنة بين المصالح والمفاسد.

فالموازنة بين المصالح والمفاسد من أهم ما ينبغي على القائمين على العمل التربوي الالتفات إليه وتحقيقه، بعد أن يعلموا أن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، يقول الشاطبي رحمه الله (ت: 790هـ): "المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد؛ فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معا"([5]).

وبناء عليه، فإن المحكمات هي التي يُرجع إليها في موازنة المصالح والمفاسد، أو في الموازنة بين مصلحتين، او مفسدتين، فإنه إذا تزاحمت مصلحتان في أي عمل تربوي لا يقدم أحدهما إلا بعد معرفة منزلتها من المحكمات وقربها منها وتحقيقها لها؛ خاصة إذا ازدحمت مصالح ومفاسد في العمل التربوي الواحد، فقد يقدم أحدهم العمل لما فيه من مصلحة وإن كانت المفسدة أعظم، وقد يترك آخر العمل لما فيه من مفسدة وإن كانت المصلحة أعظم، فمعرفة المحكمات والرجوع إليها يجعل المربي وعامة الناس يدركون ما يصلح المجتمع، وما ينبغي له أن يقدم وما ينبغي له أن يؤخر، وهي مفتاح التعامل مع كل المشاكل التربوية المعاصرة؛ سواء ما يتعلق منها بالمربي، او يتعلق بمجموع الأمة.

فقه التعامل مع الناس

العمل التربوي متعلق بمجموع الأمة، فالأمانة على المربي ثقيلة؛ خاصة وأن العمل التربوي يجعله يتعامل مع أصناف مختلفة من الناس، وقد تتباين الآراء والشخصيات والأعمال، ومعرفة المحكمات وضبطها يدعو المربي إلى التعامل الأمثل مع الناس من حوله.

ومن ذلك: أن يقدم حسن الظن بالآخرين، فإنَّه يحفظ سلامة الصدور ويبقي على أواصر المحبَّة بين المسلمين، وهو مقصدٌ شرعيٌّ عظيم، ولذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظَّن فإن الظن أكذب الحديث"([6]) ربطَ ذلك بالألفة والمودَّة حيث قال في آخر الحديث: "وكونوا عباد الله إخوانًا"([7])، فدلَّ على أن سوء الظَّن يؤدِّي إلى قطع هذه الأخوَّة بين المسلمين.

ومن ذلك: اللين والرفق بهم، فإن المربي إذا عرف المحكمات وضبطها عرف كيف يتعامل مع الناس في الدعوة، أوو في درء المخالفات، فليست كل المخالفات على درجة واحدة، ولا تستدعي كلها التعامل بأسلوب واحد، فمخالفة المحكم ليس مثل مخالفة الاجتهاد، وما يبطل الأصول ليس مثل ما يبطل الفروع، والشاهد: أن معرفة المحكمات يجعل المربي موازنا بين أعمال الناس، عارفًا بسبل التعامل معهم وفق المحكمات الشرعية.

وأخيرا: العمل التربوي يحتاج إلى كثيرٍ من ضبط النفس، وسعة الصدر، والتعامل مع المتغيرات، والمحكمات هي التي تقدم للمربي كل هذا، فينبغي الاهتمام بها، وتأصيلها في نفوس المربين أولا ثم في نفوس عامة الناس، لأنها تئد الخلافات، وتقرب وجهات النظر، وتفعِّل دور التربية في المجتمع، وتنمى اجتماع الناس على الكلمة الواحدة.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 



([1])             مجموع الفتاوى (28/50).

([2]) تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 6).

([3]) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (1718)

([4]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (1458).

([5]) الموافقات (1/ 318)

([6])             أخرجه البخاري برقم (5143) ومسلم برقم (2563).

([7])             الحديث السابق نفسه.


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...