Loading ...

الإسلام والوطنية- د. محمد السعيدي

                                           بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه إلى يوم الدين، وبعد:

فهذه مقالة عن معنى الوطنية وأقسامها والحكم فيها كما بَدَا لي بعد التأمُّل، الذي أسأل الله تعالى أن أكون قد وُفِّقت فيه إلى الصَّواب، وقد دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع أمور:

أولها: أنني من خلال حواراتي الكثيرة مع أبنائنا الطلاب وجدت أن لديهم شعورًا بالتعارض بين الاهتمام بالوطن وبين حمل الهم الإسلامي، وأيضًا بين الانتماء للوطن والانتماء للأمة، إذ رسخ في مخيلة كثير منهم أن الانتماء للدين ولأمة الإسلام لا يتوافق مع مع الانتماء للوطن والولاء له. هذا التصور يستغله كل منظر للحركات الفكرية المتطرفة لدفع الشباب والتغرير بهم للتفكير بعيدًا عن مصالح أوطانهم.

ويمكن أن يقال: إن تغلغل هذا الشعور كان في فترة مضت من أبرز الدواعي إلى تسرب الفكر الضال الذي يعد الوطن والعناية به من أبعد الأمور عن عناية منظريه؛ وكثيرًا ما عد الحديث عن الوطن ومنجزاته إحدى الكبائر الكبار التي تتناقض مع أصل الدين!

الأمر الثاني: وجدت مما يساعد منظري الفكر التكفيري على الانقضاض على الشعور الوطني تاريخ الحركات الوطنية في العالم العربي، حيث توصف تلك الحركات بأنها علمانية محاربة للإسلام، وصَدَّقَ ذلك أن بعض هذه الحركات بعد نجاحها في تولي الحكم في بلادها قامت بمحاربة التوجهات الإسلامية، وبعضها الآخر الذي فشل في الوصول إلى السلطة شاعت أنباء تؤكد علاقاتها المشبوهة مع أعداء الأمة من المستعمرين والصهاينة والدول الماركسية التوسعية، الأمر الذي تسبب في الربط الذهني بين الوطنية والعداء للدين.

الأمر الثالث: ما يُعرَفُ إعلاميًّا بجماعات الإسلام السياسي، فإن أنشطتها السياسية وإن كانت داخل أوطانها إلا أن أدبياتها المؤسِّسَة لها يغلب عليها عدم الاعتراف بالحدود الوطنية، وقد استطاعت هذه الحركات نشر مفهومها بشكل أدى كثيرًا إلى إلباس المفهوم الوطني الصحيح لباس المفهوم الوطني الخاطئ مما أسهم في النفور منه.

الأمر الرابع: وَجَدتُ عددًا من الكتب النافعة تحدثت عن حكم الوطنية في الإسلام، لكنني شعرت بعدم وضوح مقصدها لكثير من الشباب الذين يطلبون الحق في المسألة.

لهذا فإن الحديث عن الجانب الوطني وربطه بالإسلام للوصول إلى قناعة ووعي بضرورة تقديم مصلحة الوطن على أي اعتبار آخر، وأن هذا التقديم هو من صميم الدين ولا يتعارض مع كون الإسلام هو المبدأ الأعظم والغاية المثلى التي نحيا ونموت من أجلها، وأن تعارض مصلحة الدين ومصلحة الوطن من الأمور المتعذرة إذا قسنا المصلحة بالمقاييس الشرعية، أقول: إن كل ذلك من الأهمية بمكان لإبراز حكم المسألة فقهيًّا، وأيضًا لمحاربة الفكر الضال وضربه في نقاط ارتكازه.

معنى الوطنية وتاريخ هذا المصطلح:

الوطن في اللغة: تتوافق كتب اللغة في تعريف الوطن ولا تكاد تخرج عباراتهم في ذلك عمَّا لخَّصه صاحب كتاب (الكليات) حين قال: (الوطن هو منزل الإقامة، والوطن الأصلي مولد الإنسان أو البلدة التي تأهل فيها ووطن الإقامة هو البلدة أو القرية التي ليس للمسافر فيها أهل ونوى أن يقيم فيه خمسة عشر يومًا فصاعدًا، ووطن السكنى هو المكان الذي ينوي المسافر أن يقيم فيه أقل من خمسة عشر يومًا)([1])، ويلحظ أن هذه الكلمة رغم كونها صحيحة النسبة إلى اللغة العربية وأهلها، عريقة النسب من حيث أصولها الاشتقاقية، إلا أن استخدامها في المعنى اللغوي الذي أشار إليه أهل اللغة كان قليلًا، فلا تكاد تراها في الشعر الجاهلي أو شعر صدر الإسلام إلا قليلًا، كقول رؤبة بن العجاج:

أوطنْت وطْنا لم يكن من وطَني *** لو لم تكن عاملها لم أسكن([2])

ولعل قلة استخدامها عند العرب بهذا المعنى هو السر في التعبير في القرآن عن الوطن بالديار والبيت؛ كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة:84]، وقوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5]. ذكر أبو حيان أن المراد ببيته: المدينة([3]).

أما الموطن فقد جاء في القرآن مجموعًا على مواطن في قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، والمراد بها مقامات الحرب ومواقفها، مأخوذٌ من توطين النفس أي تهيئتها على مثل هذه المواقف كما أفاد أبو حيان في البحر المحيط([4]).

وفي عصرنا الحاضر: لم يخرج معنى الوطن عن دلالته في أصل اللغة، لكنه أصبح أوسع دلالة في عرف الناس، والعرف القانوني، حيث يختص الوطن بمن يحمل شهادة تابعية لدولةٍ ما. وإن كان علماء اللغة في العصر الحاضر يأبون الاعتراف بهذا المدلول الواسع، فنجد واضعي المعجم الوسيط يستمرون في نقل كلام الأوائل في تفسير هذه الكلمة، قالوا: (الوطن مكان إقامة الإنسان، و مقره، وإليه انتماؤه، ولد به أو لم يولد)([5]).

وقد عرَّف الشيخ محمد عبده الوطن بمعناه القانوني والعرف المعاصر، فقال: (المكان الذي للمرء فيه حقوق وواجبات سياسية)، وذكر الشيخ: أن هذا حده عند الرومان([6]).

ويمكن تعريفه أيضًا: بأنه: المكان الذي ينتمي إليه الإنسان في حدوده السياسية، وإن تعددت أقاليمه واختلفت انتماءات أهله العرقية والدينية والمذهبية.

فهذا التعريف لا يلغي التعريف اللغوي، وهو أوسع منه حيث يجعل كل ما تضمه الحدود السياسية من الأراضي وطنًا للإنسان وليس الوطن مقصورًا على مكان الولادة أو النشأة أو الإقامة.

الوطنية كمصطلح:

هذا بالنسبة للوطن، أما الوطنية: فقد قال عبد العزيز جاويش وهو من أعلام الحركة الوطنية في مصر (١٢٩٣-١٣٤٧) في مقال له عن أصل الفكرة الوطنية: "إن الشعور بالوطنية اصطلاح أفرنكي –أي: إفرنجي – انتقلت بذوره إلى الشرق من مطاوي العلوم العصرية وأصول المدنية الحديثة التي اهتدى إليها الغرب"([7]).

ونجد بالتتبع أن دلالتها انتقلت من النسبة إلى الوطن أو مؤنث الوطني إلى الدلالة على معنيين متغايرين، الأول: اتجاه عقدي سياسي، أو ما يسَمى بالمصطلحات المعاصرة (آيديولوجي سياسي) وغالبًا ما يَفر أصحاب هذا الاتجاه من وصفه بالأيديولوجي، ويختصرون على وصفه بالجيوسياسي، أي الاتجاه الفكري للوطنية الذي تؤثر فيه الجغرافيا (جيو باليونانية) على السياسة، والحقيقة أن العقيدة لدى أصحاب هذا الاتجاه يصعب إخفاؤها؛ إذ إن الجغرافيا يصل بها الأمر عند بعضهم إلى حد التأليه.

والمعنى الآخر للوطنية: قيمة خُلُقِيَّة، فالوطنية هنا، هي مجموعة من الأخلاق النبيلة والعواطف باعثها الأول: الانتماء للأرض. وفي تقديري أن الخلط بين هاتين الدلالتين وعدم تمييز إحداهما عن الأخرى أدى إلى الخلط أيضًا في الحكم عليهما من زاوية فقهية.

فالاتجاه العقدي السياسي: نشأ في أوربا مصاحبًا للاتجاه القومي هناك، وكانت الدعوة في هذا التوجه إلى الثورة على الإمبراطوريات الأوربية التي يجتمع في ظلها عدد من الأقاليم التي لم يك بينها من جامع سوى في انتمائها إلى الدين المسيحي، وكان الدين الكَنَسي الكاثوليكي يُستغل لتعبيد الناس للأباطرة، والنبلاء، ورجال الدين، وتسخير كامل جهودهم لمنفعة هذه الطبقة؛ وبالتالي كانت إحدى دوافع المشاعر الوطنية في أوروبا النقمة على الكنيسة وعلى الرابطة الدينية.

ولهذا تجاوزت الوطنية حدود كونها مشاعر انتماء إلى كونها بديلاً عن الدين كسقف سياسي ورابطة اجتماعية، ومعيار ومحرك للأخلاق والقيم، والاقتصاد والسياسات ومفسر للتاريخ، أي أنها في كثير من صُوَرها أصبحت بديلاً عن الدين.

وانتقلت هذه الفكرة الاستقلالية من أوروبا إلى العالم الإسلامي ولا سيما تركيا حيث عاصمة الدولة العثمانية، التي لقَّب سلاطينها أنفسهم بالخلافة، ومصر التي كانت محط أنظار المثقفين العرب حيث تُعتَبَر المحط الأول للثقافة الغربية الوافدة، وكان رفاعة الطهطاوي من أوائل رُواد ما سُمي بالنهضة الحديثة، ولعله أول من نقل كلمة الوطن بمفهومها الغربي إلى اللغة العربية؛ وكانت السيادة فيها للعثمانيين، ثُمَّ محمد علي باشا وأبنائه، ثم خضعت لحكم ثلاثي غريب، حين تقاسمت الأدوارَ فيها كلٌّ من بريطانيا، وأسرة محمد علي، والدولة العثمانية.

ففي تركيا، كان حزب تركيا الفتاة يعادي فكرة الجامعة الإسلامية التي كان ينادي بها السلطان عبد الحميد ويسعى -أي: الحزب- إلى رابطة طورانية تعزل الشعب التركي عن الشعوب الإسلامية التي لا يقترب منها في العنصر، وتتقرب من الشعوب التي تقاربها في الأصول العرقية وإن كانت تُباينها من جهة الديانة كالعرق الجرماني.

ونتج عن تَسَيُّدِ هذه الدعوة خلع السلطان عبد الحميد، وحكم حزب الاتحاد والترقي القومي، ثم انقلاب الوطنيين على الدولة العثمانية، وإعلان تركيا الحديثة، في إطار معادي للتدين ولأي شيء يربط الأتراك بالدين، كاللغة العربية واللباس التراثي؛ فإضافة إلى اختلاط القومي بالوطني في التوجه التركي، كان التطرف العلماني الذي كان له الأثر البالغ بارتباط الوطنية بمعاداة الدين.

وفي مصر مرَّ مفهوم الوطنية بمراحل من التطور، منها المفهوم العاطفي الذي يجمع بين الانتماء للدين والانتماء للوطن، على اختلاف يسير بين تنظيرات مفكريه، كرافعة الطهطاوي وعبدالعزيز جاويش ومصطفى كامل.

 ومنها المفهوم المتطرف، فقد كان من دعاة الوطنية في مصر مَنْ هم شديدو العداء للرابطة الدينية التي تذكرهم دائمًا بالاستبداد التركي، وقدموا رابطة الوطن على رِباط الدين ودعوا إلى مصر مستقلة سياسيًّا وفكريًّا عن أي رابطة أخرى؛ بل إن منهم من فَضَّل الاحتلال البريطاني على الرابطة الإسلامية، وصرح بعداوة الاتجاه الإسلامي، ثُمَّ تجاوز إلى ربط مصر بتاريخها الفرعوني، وعَزَلَها عن التاريخ الإسلامي، وكانت تمثلهم صحف: المقطم، ومجلة المقتطف، والجريدة، والتجارة. ومن الأحزاب: مصر الفتاة، وحزب الأمة الذي قاده فكريًّا أحمد لطفي السيد.

وهذا النوع من الوطنية لا يقره الإسلام لعدة اعتبارات:

١-كونه يُقَدَّم كَبديل للدين، فهو مصدر التشريعات والعلاقات المصلحية والعاطفية؛ ولذا فالوطنية بهذا المفهوم دعوة تقدم مصلحة الإقليم والترابط فيه على مصلحة الدين ورابطته، ونحن وإن كنا نوقن بأنه لا يمكن أن تتعارض مصلحة الدين ومصلحة الوطن في الحقيقة، إلا أن اعتقاد تعارِضهما ظاهرٌ في أذهان أصحاب هذا الاتجاه، حيث لا يعدون الدين معيارًا لتمييز المصالح والمفاسد، وقد أمرنا الله تعالى بتقديم الدين على الوطن عندما نقع فيهما بين خيارين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، كما قدم الله تعالى المحبة في الدين والتآخي فيه على جميع العلاقات الإنسانية، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].

2- الوطنية بهذا المفهوم فكرة انفصال سياسي، مع أن الأكثرين يتصورون أنها فكرة توحيدية، وهذا ما أثبتت التجارب عكسه، لأنها في أصلها دعوة للتكتل على أساس الإقليم، وهذا يجعلها دعوة تحجيمية إضعافية مآلها إلى ضعف دائم غير متناه، إذ إن كل إقليم يتحد تحت شعار الوطنية، في داخله أقاليم، أو نواح، وبذلك لا يُؤمَن أن يطالب أهل كل ناحية منه بالانفصال رافعين الدعوى نفسها التي انفصل بها إقليمهم عن محيطه الكبير، والإسلام دعوة للقوة بكل معاييرها ومن معايير القوة الاجتماع وعدم التفرق.

والإسلام دين اجتماع وليس دين تفرق، ويَعُد الإسلام الاجتماع مكسبًا؛ ولذلك فهو ينبذ أي فكرة انفصالية، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، كما جاء الأمر بالالتزام بجماعة المسلمين في أحاديث كثيرة، منها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ على رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أو يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ)([8]).

الوطنية كقيمة خلقية:

تلتقي الوطنية بوصفها قيمة خلقية والوطنية بوصفها توجهًا آيدلوجيًّا سياسيًّا في أمر واحد لا غير، وهو توجههما إلى الوطن بمفهومه الواسع، أي حيث تنتهي الحدود السياسية لا بمفهومه التراثي الضيق.

فليس الوطن منحصرًا في محل الإقامة أو النشأة أو الولادة؛ بل يمتد إلى كل شبر من أراضي الدولة، فحيث تنتهي الحدود السياسية فذلك الوطن؛ وذلك لأن تلك الحدود تفرض لمن ينتهي إليها حقوقًا ليست له في أي بقعة أُخرى من الأرض، كما تفرض عليه واجبات ليست عليه تجاه أي بقعة من الأرض، وهذا يُعيدنا إلى التعريف الذي نقلناه في البداية عن الشيخ محمد عبده: "المكان الذي للمرء فيه حقوق وواجبات سياسية".

وبذلك يمكن تعريف الوطنية كقيمة خُلُقِيَّة بـ: محبة خاصة للبلد سببها الولادة والنشأة في أكنافها والحقوق والواجبات التي يفرضها الانتماء إليه، يظهر أثرها في مدى ما تُحَقِّقُه لدى المرء من غَيْرَةٍ على وطنه، وحرصٍ على الرقي به، والحفاظ على مكتسباته ومودة أهله ومودة مَن يُنَاصِره، وبغض من يُعَاديه.

وهذه المحبة مركوزة في الطبائع لا يكاد ينفك عنها قلب امرئ، سوى من كان في نفسه مرض يحرف فطرته عن طبعها السوي، ونحن نعرف الأخلاق الفطرية من أنفسنا ومن سبرنا لمن حولنا ونظرنا في تاريخ الإنسانية، فإذا وجدنا ثَمَّ خلقًا لا ينفك عن الإنسان أنَّى وجد في الزمان والمكان علمنا أنه مما فطر الله الناس عليه ولا تبديل لخلق الله.

ولسنا لإثبات فطرة من الفطر بحاجة إلى كتاب فلسفي أو نقل عن عالم ما، فما نعلمه من أنفسنا لا نحتاج إلى تعلمه من غيرنا.

ومن حكمة المولى عز وجل أن غرس هذه الفطرة في النفوس، ليتحقق إعمار الكون الذي أمر الله بعمارته، فسُكنت الصحاري والقفار وأعالي الجبال وأحبها أهلها وتناسلوا فيها آلاف السنين بالقدر نفسه من الحب الذي أفاضه أهل الأودية والأنهار ومنابت الغابات على ديارهم، بل وقاتل أهل القفار وقتلوا دون ديارهم كما قاتل أهل الغابات وقتلوا.

ودين الله الذي ارتضاه لخلقه لا تُعارض أحكامه ما فطرهم عليه من سجايا وأخلاق، وإلا نكون قد زعمنا في الشرع عدم الحكمة أو التكليف بما لا يطاق، وهذا كما لا يخفى من الممتنع شرعًا، ولله الحمد والمنة.

بل جاء الشرع مؤيدًا للفطر ومهذبًا إياها وحاميًا لها بالشريعة من أن تنزلق بها الأهواء إلى ما لاتحمد عقباه.

فمما يُعْرف به تأييد الشرع لمحبة الأوطان: ما جعله الله تعالى من الثواب العظيم على هجرتها إليه سبحانه عندما تتوفر شروط الهجرة وموجباتها، ولعله لم يكن للهجرة هذا الفضل لولا ما لمحبتها من التأثير في النفوس السوية، وتمسك الأحرار بأوطانهم وتحملهم في سبيلها مغبات كل شيء.

قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كثيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 100].

وقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قرينة للإسلام والحج في تكفيرها لما قبلها من الآثام، حيث قال: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ ما كان قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كان قَبْلهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ ما كان قَبْلَهُ)([9]).

وقرن الله تعالى قتل النفس بالإخراج من الوطن في ميثاقه سبحانه على بني إسرائل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام سادة من أحبوا أوطانهم، فقد روى ابن حبان في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)([10]).

وكان صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه يشتكون الشعور بالغربة، حتى كان بلال ينشد إذا ارتفع عنه الوباء:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة *** وهل يبدون لي شامة وطفيل

فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أو أَشَدَّ)([11]).

وروى أصحاب السير([12]) حديث أُصَيْل الغفاري حين قدم من مكة فسألته عائشة كيف تركت مكة يا أُصَيْل؟ فقال: تَرَكْتهَا حِينَ ابْيَضّتْ أَبَاطِحُهَا، وَأَحْجَن ثُمَامُهَا، وَأَغْدَقَ إذْخِرَهَا، وَأَمْشَرَ سَلَمُهَا، فاغرورقت عينا رسول الله وقال: (لا تُشَوِّفْنا يا أُصَيل)، ويروى أنه قال له: (دع القلوب تَقَر)([13]).

ويُمكن أن يَعترض مُعترِض، بأن الأدلة المتقدمة جاءت بخصوص مكان الانتماء بالولادة والنشأة، لا غير، ولم تأت بالانتماء للدولة، وهي مجموع الأراضي التي تشملها حدود سياسية، وقد تتجاوز هذه الحدود مكان النشأة والولادة بكثير؛ بل قد تكون الدولة ليست محلًّا للولادة والنشأة أصلًا كما في حال بعض أصناف الحاصلين على جنسيات بلاد غير بلاد ولادتهم ونشأتهم، وكذلك هناك من يولدون وينشؤون في بلاد لا يحملون جنسياتها، فلا يكون لهم فيها حقوق المواطنة المُشار إليها في تعريف محمد عبده، وبذلك تكون الأدلة أعم بكثير من محل الاستدلال؟

والجواب: أن الاستدلال كان على فطرية عاطفة الانتماء إلى الوطن، وهذا ثَبَت إقراره شرعًا من خلال تلك الأدلة، فإذا كانت هذه العاطفة مقَرَّةً شرعًا في حق مكان ليس للمرء فيه إلا الولادة والنشأة، وقد لا يكون له فيه حقوق أو واجبات؛ بل قد يكون مضطهدًا فيه مسلوب الحقوق فيه كحال المهاجرين رضي الله عنهم حين كانوا مسلوبي الحقوق في مكة، ومع ذلك أقر الشارع عواطفهم تجاه مكة، وأثابهم شرف أجر الهجرة لِما في مفارقتهم موطنهم من الآلام.

ولهذا فإقرار هذه العاطفة تجاه مكان فيه للمرء حقوق، وعليه تجاهه واجبات إضافة إلى الانتماء التاريخي والنشأة والولادة، مِنْ بآبِ أولى، وليس ثَمَّ فارق مؤثر يمنع صحة هذا القياس الجَلِي، واستحداث الحدود السياسية وإن اتسعت ليس فارقًا مؤثرًا يمنع القياس؛ بل فارق يثبت أولويته بالحكم؛ لأن عاطفة الإنسان ومحبته للمكان الذي يُرزق فيه قد تفوق محبته للمكان الذي نشأ فيه وَوُلِد.

وأمَّا مَنْ أعطي جنسية بلاد ليس له فيها ولادة ولا نشأة، فقد حصل له سَبَبٌ لإيجاد هذه العاطفة في نفسه، وهو أَنْ يُمنح حقوقَ المواطنين ويقبل بواجباتهم، فإن نشأت لديه تلك العاطفة بهذا السبب فذلك هو الأصل، وهو مقتضى المروءة وسلامة الصدر، وإن لم تنشأ لديه هذه العاطفة، فهذا عيب في جبلته وليس قادحًا في أصل الشعور وحُكْمِه.

وأما الصنف الآخر: وهم من وُلِدوا في بلد أو نشأوا فيها أو حصل لهم الأمران معًا، ولم يحصلوا على جنسيتها، فهؤلاء حَصَل لهم السبب الأهم لنشوء تلك العاطفة، والأصل أنها تتحقق في نفوسهم، وهذا واقع مشاهد، وإن كان حرمانهم من الانتماء الرسمي بحمل الجنسية والحصول على الحقوق يُشْعِرُهُم بشيء من البخس والهضم، وقد يُشَكِّل عند بعضهم كراهية للكيان السياسي باعتباره السبب في عدم حصولهم على ما يعتبرونه حقهم في التجنس، إلا أن ذلك ليس خارمًا لصحة قاعدة الشعور الوطني ولا مشروعيتها.

  الوطنية والأخوة الإسلامية:

إن الأخوة في الله سبحانه وتعالى على دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه إحدى المُسَلَّمات التي لا يمكن الجدال فيها، وتقتضي هذه المُسَلَّمة أن يكون بين المسلمين من التواصي والتراحم والتآخي كما بين الإخوة في النسب: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، وفيما جاء عن أَنَس بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَبَاغَضُوا، ولا تَحَاسَدُوا، ولا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)([14]).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كان في حَاجَةِ أَخِيهِ كان الله في حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ الله عنه كُرْبَةً من كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله يوم الْقِيَامَةِ)([15]).

وعن النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إن اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى له سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)([16]).

وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ويمس ناصحًا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم)([17]).

وهذه النصوص الرائعة في ترسيخ مبدأ الأخوة الإسلامية، هي عينها النصوص التي ينبغي أن يترسخ بها مبدأ الشعور الوطني بكل جوانبه.

ذلك أن المسلمين وإن ثبتت الأخوة لكل منهم أينما كان إلا أنهم لا يمكن أن يكونوا في درجة واحدة من الأولوية في الحقوق؛ كما أننا لا نطالبهم في كل مكان بدرجة واحدة من الواجبات نحونا.

فالأولية في الاستحقاق من قِبَلِنا هي لمن لنا عليهم الأولية في الواجبات نحونا، وهؤلاء بلا شك هم الأقربون الذين يعولوننا ونعولهم بحكم تساوينا في الاستحقاق من هذا الوطن، كما أن لنا بهم صلات أخر غير الإسلام والمشاركة في الاستحقاق من هذا الوطن، ألا وهي صلة النسب والمساكنة في الدار المعتبرتان شرعًا.

والعمل بالأوليات في مجال أخذ الحقوق وإعطائها مبدأ لم تغفله الشريعة، ومن أمثلته: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَيْرُ الصَّدَقَةِ ما كان عن ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ)([18])، وفي رواية أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يا بن آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لك، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لك، ولا تُلَامُ على كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ من الْيَدِ السُّفْلَى)([19]).

وانظر إلى هذا الحشد من الروايات التي يسوقها البخاري رحمه الله دالة على فقه الأوليات:

قال رحمه الله([20]): بَاب لَا صَدَقَةَ إلا عن ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ تَصَدَّقَ وهو مُحْتَاجٌ أو أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أو عليه دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى من الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ، وهو رَدٌّ عليه ليس له أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ الناس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أَخَذَ أَمْوَالَ الناس يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ الله، إلا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ على نَفْسِهِ وَلَوْ كان بِهِ خَصَاصَةٌ كَفِعْلِ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه حين تَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ آثَرَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ، وَنَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عن إِضَاعَةِ الْمَالِ فَلَيْسَ له أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ الناس بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ، وقال كَعْبُ رضي الله عنه: قلت يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ من تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ من مَالِي صَدَقَةً إلى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ صلى الله عليه وسلم، قال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لك، قلت: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الذي بِخَيْبَرَ.

فحق من يجمعك وإياه الدين والمساكنة أوجب عليك من حق من يلزمك بأحدهما.

ويقاس على هذه الحقوق سائر أنواع الحقوق من النصرة والحفاظ؛ فمن يشاركك في الوطن أولى بهذه الحقوق ممن يليه.

وكيف لا يكون كذلك وبينك وإياه شراكة في الكفالة الاجتماعية التي يضمنها لك تساويك معه في الاستحقاق من خير هذا الوطن، فما تأخذه من راتب إن كنت موظفًا، هو من أعطاك إياه، وما تجنيه من مكاسب إن كنت غير ذلك، إنما أخذتها منه، وما يصيبك من خير هو أول منتفع به بعدك، وما ينزل عليك من ضر هو من يليك في تحمل مشاقه.

وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون نصرتك لأخيك في الإسلام النازح عنك في الوطن طريقها جسد أخيك الأقرب أو ماله أو أمنه، ومن اعتقد ذلك فقد قرأ في تعاليم هواه الأعوج ولم يقرأ في تعاليم الإسلام، وشر الهوى ما كان على علم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].

وهذا كحال جماعات الغلو والتطرف التي جعلت تدمير أوطانها واستباحة دماء أهلها،  خطوة بزعمهم نحو تحقيق وحدة الأمة.

وحين نقول: إن مصلحة الوطن لا يمكن أن تتعارض مع مصالح الدين إذا نظرنا إلى قياس المصلحة بمنظور ديني، فإننا نكرر ذلك، في نصرة إخواننا المسلمين، حيث لا يمكن أن تكون نصرتهم بإضعافنا وتفكيك جماعتنا وإنهاك دولتنا، لأن من نزعم نصره لا يريد نصيرًا ضعيفًا منهكًا منشغلًا بخلله منكفئًا على جراحه، بل يريد مناصرًا قويًّا مجتمعًا ملتفتًا إلى عدوهما بِكُلِّه لا ببعضه.

وكيف يكون لنا أن نتفرغ إلى عدو مشترك ونحن نعالج ضعفنا أو نضع يدًا في المعركة ويدًا نشد بها خواصرنا من الألم؟ إن ذلك لشيء عجاب.

إن المسلم النازح إذا وقع في مصيبة فله منا كل شيء إلا شيئًا يلحق بنا ضررًا لا يرضاه هو لنا، ويجزع لنا هو من أن يلم بنا كما ألم به.

وليس هذا من باب شح النفس في شيء، كما أن إفساد النفس بما لا يصلح به الغير ليس من الإيثار في شيء أيضًا.

فالإيثار خلق رائع حين أتحمل المشقة من أجل أن يرتاح أخي، لكنها أبعد ما تكون عن مقاصد الشريعة والعقل والطبع السليم حين أظن أن صلاحه في هلاك نفسي وإفساد أرضي، إذ كيف يكون صلاح غيري في ضياعي وهلاك مكسبي، وقد قال الله في الثناء على المؤثرين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9 فجعل الله الإيثار في تحمل الخصاصة وهي شدة الحاجة ولم يجعله في تحمل الضرر والفساد في الدين والبدن، كما جعل الإيثار مرتبة عليا ليس مكلفًا بها كل أحد، بل ليس مكلفًا بها أحد، وإنما هي من عظيم الأعمال التي تبلغ بصاحبها ويبلغ بها مراتب الكمال، وقد أشار البخاري رحمه الله في النص المتقدم إلى ذلك، ومن حمل الناس قسرًا على نوافل العبادات مما لا يطيقه سوى أصحاب المقامات فقد شرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله.

ومن يريد أن يفسد أرضًا من بقاع المسلمين من أجل صلاح أخرى فقد طلب الشفاء بما حرم الله، وقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إِنَّ اللَّهَ لم يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)([21]). وقد حرم الله الإفساد في الأرض مطلقًا، ولم يستثن حالًا دون حال، {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85]، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].

وجاء التفسير العملي لهذه الآيات من صحابة رسول الله الكرام رضي الله عنهم، حين مشوا لفتح الدنيا وهم يحملون وصية قائدهم: (انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنوا إن الله يحب المحسنين)([22]).

الوطنية والحدود السياسية:

الحدود السياسية معروفة مذ كانت الدول، وفي التاريخ الإسلامي عُرِفَت الحدود السياسية بين المسلمين مع أول حدث انفصالي في التاريخ الإسلامي حيث كانت الدولة الأموية في الأندلس أولَ دولَةٍ قُطْرِيَّة سنة ١٣٨هـ، ولكن سلطة هذه الحدود على الأفراد وإلزام الناس بالتابعية للدولة هو من خصائص هذا العصر التي لا يشركه فيها غيره من العصور فيما أحسب، وهذه الحدود هي نقطة الارتكاز لدى كثير ممن رد على الوطنية واعتبرها منافية للإسلام بالكلية، فذكروا أن هذه الحدود قد وضعها العدو للتفريق بين أبناء الأمة الواحدة، ونجح في ذلك حيث أصبح التمايز بين أبناء المسلمين على أساس هذا الشريط الوهمي الذي لم يعد كما كان في السابق حدًّا لسلطات الحاكم على الأرض؛ بل أصبح أيضًا حدًّا لسلطاته على الأفراد.

وهذا الكلام صحيح في الدول التي أنشأها الاحتلال الأوروبي،  حيث لم تكن قبله سوى ولايات أو أجزاء من ولايات لدول سابقة، وغير صحيح في تلك الدول التي لم تنشأ في ظل الاستعمار ولم تطأها قدما مستعمر، ولكنه رغم صحته في كثير أو في أكثر الدول الإسلامية المعاصرة، لا يصح مُتَعَلَّقًا لتحريم الشعور الوطني، إذ إن هذه الحدود موجودة واقعًا مُعَاشًا أيا كان القول في سبب وجودها، كما أن القول بتحريمه لن يؤدي إلى محوه من الصدور على وجهه الذي وصفت أولًا؛ بل سيشعر الناس بالتناقض بين مشاعرهم الفطرية التي لا حيلة لهم فيها وبين أحكام دينهم. ولا يخفى ما في ذلك من المفسدة على نفس الإنسان وبدنه وعلاقته بمن حوله وعلاقته بتعاليم دينه.

ولا أظنني أذهب بعيدًا إذا قلت: إن ما يحدث من بعض المتشربين لأفكار جماعات الإفساد في الأرض باسم الدين من قَتلٍ وتخريب داخل بلدانهم، وإتلاف لمنشأتها، جزء كبيرٌ منه منطلِقٌ من شعور بالحقد على بلدانهم أوجده الإحساس بالتناقض بين تعلقهم الفطري ببلادهم وأهلها، وبين ما يفتيهم به شيوخ جماعاتهم من كون هذا الإحساس كُفر بالله تعالى.

ولم يكن للعلماء المسلمين موقف مناوئ للحدود السياسية، فلا نعرف عالمًا أفتى ببطلانها؛ بل لا أعلم أنها شكَّلَت فيما مضى أزمة فقهية لدى العلماء، وربما كان وجود الخلافة العباسية الرمزي سببًا لعدم إثارة هذه القضية، وأيًّا كان السبب فإن عدم إثارتها مع وجود جهابذة الفقهاء في كل عصر،  يدل على أنها لم تكن مما يُستنكر شرعًا.

وقد تناقش العلماء في إمكانية أن يتولى إمامان وأكثر، والذي استقر أهل الشأن عليه جواز ذلك، وقد ذكره القرطبي([23])، وابن كثير والشنقيطي  في أضواء البيان([24])، في مباحث تفسير قوله تعالى: {إني جاهل في الأرض خليفة} وهم يعنون به الإمامة العظمى، فإذا كان هذا هو القول في الإمامة العظمى، فلاشك أن جواز تعدد الأمراء من باب أولى، وهذا ما حرَّره الإمام الشوكاني، وقال بعد تقريره لجواز تعدد السلاطين وحرمة الخروج عليهم في بلدانهم ما نصه: "فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها"([25]).

ثم إن الحدود السياسية المعاصرة، وإن قلنا بأن الاستعمار هو من وضع أكثرها، فبعد أن أصبحت واقعًا مُعاشًا فليس وضع المستعمر لها مناطًا للتحريم؛ لأن وجودها ليس هو الحائل بين قيام الحُكَّام والمحكومين بالشرع كما أنها ليست حائلاً دون حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض؛ بل إن حفظ هذه المقاصد متيسر مع وجود هذه الحدود إذا عدل الحكام وأصلحوا، وراجع الناس دينهم كما أمرهم ربهم، كما أن ما نتج عن هذه الحدود من أخطاء يمكن معالجته بغير النهوض على الواقع ومعاندته وتحريم ما لم يأت كتاب ولا سنة بتحريمه، وقد فعلت دول السوق الأوربية ما ينبغي أن يكون فيه عبرة للمسلمين إذ وصلت من التقارب بينها إلى ما فيه مصلحة شعوبها ما يقوم مقام الوحدة السياسية مع بقاء هذه الحدود، مع عدم تأثيرها على التنقل والتجارة، وهو ما كان عليه الأمر في الدول الإسلامية فيما قبل العصر الحديث.

ونحن نتحدث عن الوطنية باعتبارها قيمة أخلاقية، وبهذا الاعتبار ليست الحدود السياسية أسوارًا عالية لا يمكن تجاوزها، كما أنها ليست خطوطًا وهمية لا اعتبار لها، بل هي نقاط البداية ونقاط النهاية لجهات من الأرض يضمن فيها الإنسان حقوقًا أصيلة على الراعي والرعية يستوجبها انتماؤه لهذه الأرض، بحيث إذا تجاوزها تصبح حقوقه مرتهنة بما يقدمه للبلد المضيف من فروض وواجبات.

ويمكن لهذه الحدود أن تتسع كما يمكن لها أن تضيق حسب ما يَجِدُّ في داخلها وفي محيطها من عوامل الضيق والاتساع التي عرفناها في تاريخ الدول، وتضيق معها حدود الانتماء وتتسع أيضًا، لكن وفقًا للحقوق الأصيلة المصاحبة دومًا للحدود السياسية.

وهذا المفهوم يخالف ما عليه المنادون بالوطنية باعتبارها توجها عقديًّا سياسيًّا، فالحدود عندهم يمكن أن تضيق ولا يمكن أن تتسع، إذ إن الوطن لديهم مرتبط باسم الإقليم الذي ينتمون إليه لا بالحدود السياسية التي تضمه، لذلك نرى في الدولة الواحدة مطالب انفصالية على أساس وطني ويندر أن نجد مطالب وحدوية إلا على أسس قومية أودينية، ولهذا قَدَّمْتُ أن الوطنية كتوجه سياسي غير مقرة شرعًا، وذلك لاعتبارها نزعات انفصالية غير متناهية.

الوطنية وحقوق الإمام:

يرى البعض أننا في غير حاجة للقول بالوطنية على أي أساس من الأسس، وذلك أن ما ننشده من الانضباط والطاعة مكفول في الإسلام بإيجاب طاعة الإمام، فإذا أوردنا على المتمرد ما يلزمه من الحقوق لولي الأمر فقد قطعنا عليه الطريق بحكمٍ أصيل في الشرع لا لبس فيه، وصريح العبارة ممتنع على التأويل، وحققنا بذلك ما نرجوا أن نصل إليه دون أن نلجأ إلى تكلف تشريع مصطلح دخيل علينا ثقافة وتاريخًا.

والجواب: أن مسألة الوطنية ليست من المسائل الافتراضية التي تعد مناقشة الفقهاء لها تكلفًا أو ترفًا فكريًّا، بل هو مصطلح ينادى به في كل مكان وتقوم على أساسه حركات وتنظيمات وتهراق في سبيله دماء وأموال، وعليه فلا يصح أن يترك دون أن يدرس ويبين الوجه الصحيح فيه.

ولا شك أن ما ورد في الكتاب والسنة من وجوب الطاعة لولي الأمر والحث على لزوم الجماعة له أبلغ الأثر في كبح كثير من الأنفس الجامحة إلى الفرقة وإثارة الفتن، ولكن ذلك لا يعني بحال أن نجعل طاعة الإمام ملغية لسواها من القِيَم؛ بل الطاعة بالمعروف حكم شرعي لازم يتفق عليه علماء أهل السنة، ومحبة الأوطان خُلُق وقِيمَة، وكلاهما تتضافران لتحقيق ما نرومه من غايات المنعة والقوة والاستقرار والبناء، والشعور الوطني ينتج إخلاصًا في العمل والحدَب على البلاد والحرص على صورتها بين الخلائق والدفاع عنها بقوة ربما لا تحققها مشروعية الطاعة وحدها؛ تضافر الدليلين على مدلول واحد مما يحقق صحته ويؤكد الثقة بثباته.

الوطنية كما نشرحها هنا حب، ولا يكون الحب صحيحًا حتى تظهر آثاره في تصرفات المحب نحو محبوبه، وإذا صدق القلب في محبة الوطن أثمر رفقًا وتهذيبًا في تعامل الجوارح مع أجزاء هذا الوطن ومكوناته، كما يثمر إخلاصًا وصدقًا في العمل من أجل نمائه وتقدمه، وغيرةً على أهله ومكتسباته.

وفي الختام أخلص إلى أن الوطنية بالمفهوم الذي شرحت ليست مما ينافي الإسلام، وإنما هي مما يؤكده الإسلام؛ لأنه شعور فطري،  والإسلام لا يعارض الفِطَر،  وإنما يُهَذِّبُها.

وختاما: أسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 



([1]) الكليات (1/ 940).

([2]) ديوان رؤبة (ص: 163)، الصحاح (6/2214- 2215).

([3]) البحر المحيط (4/458).

([4]) البحر المحيط (5/24).

([5]) المعجم الوسيط (2/1042).

([6]) تاريخ الأستاذ الإمام (2/194).

([7]) من مقال له نشر في صحيفة (العَلَم) سنة (1910م).

([8]) أخرجه مسلم (1852).

([9]) أخرجه مسلم (121).

([10]) صحيح ابن حبان (9/23).

([11]) أخرجه البخاري (5654).

([12]) الروض الأنف (3/25).

([13]) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة (2/ 155)، والخطابي فى غريبه (1/278)، وأبو موسى فى الذيل، والجاحظ فى كتاب البيان.

([14]) أخرجه البخاري (6065).

([15]) أخرجه البخاري (2442).

([16]) أخرجه البخاري (2586).

([17]) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (7/270).

([18]) أخرجه البخاري (5356).

([19]) أخرجه مسلم (1036).

([20]) صحيح البخاري (2/518).

([21]) صحيح البخاري (7/110)، وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٦٥٢)، والطبراني (٩/٤٠٣) (٩٧١٦)، والبيهقي (٢٠١٧٢).

([22]) أخرجه أبو داود (٢٦١٤)، والبيهقي (١٨٦١٧) مطولاً، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٣٧٩٠).

([23]) الجامع لأحكام القرآن (١/ ٢٧٣).

([24]) أضواء البيان (١/ ٨٣). 

([25]) السيل الجرار (٤/ ٥١٢).


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...