Loading ...

الإصلاح الدعوي في ضوء المحكمات

     إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات 

                                                       بسم الله الرحمن الرحيم

مرَّت الأُمَّة الإسلاميَّة بفترات ضَعْف ومراحل تقهقر في تاريخها، وأصابها الوَهَن والتأخُّر في مجالات عدَّة، علميًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، وفي غيرها من المجالات، وهي سُنَّة كونيَّة ألَّا شيء يدوم إلى الأبد على هيئة واحدة وحالة واحدة، فقد جعل الله الأيام دُوَلًا، والأُمَم بين صعود وهبوط، وتقدُّم وتأخُّر، وهزيمة ونصر. وشاء الله أن يجعل سرعة استرداد الأُمَم لمكانتها وعزّها منوطًا بجهود وتضحيات أبنائها المخلصين.

والمتأمل في التاريخ الإسلامي والسنن الكونية يتيقن أن هذه الأمة تَمْرض ولا تَمُوت، وأنها وَلادَّة، وأنَّ عزّها في تمسُّكها بمُحْكَمات دينها وأصول شريعتها، وأنَّ انتصارها وتقدُّمها مرتبطٌ باعتزازها بدينها وتمسُّكها بشرائعه المحكمة، وحرصها على سلامة عقيدتها واستقامة منهجها في العبادة والأخلاق والسلوك على مُحكَمات الشريعة.

وفي هذه المقالة الموجزة نُلقي الضوء على عالِمٍ جليلٍ مِن روّاد الصحوة الإسلامية المعاصرة، نتعرَّف خلالها على نشأته، وأبرز معالم منهجه الدعوي والإصلاحي والتربوي.

 

نشأة ابن باديس وتأثيرها على شخصيته الإصلاحية

وُلد الشيخ عبد الحميد بن باديس عام 1308ه/ 1889م في مدينة قسنطينة شرق الجزائر، وترعرع في أسرة عريقة في العِلْم والمجد والثراء، فهو ينتسب إلى الأسرة الباديسية المشهورة بجهادها ضد العبيديين؛ فجدّه المعز بن باديس (406-453هـ) قاوم علميًّا وحركيًّا النفوذ العُبيدي في المغرب العربي، وحارب الشيعة الروافض، وحثّ المسلمين على لزوم المذهب السُّنيّ.

أما والده محمد المصطفى فقد كان من كبار الموظفين والوجهاء في قسنطينة، وعضو المجلس الجزائري الأعلى، ورغم وظيفته فقد عُرف دائمًا بدفاعه عن مطالب المسلمين في قسنطينة، يقول عنه ابنه: «إن الفضل يرجع أولًا إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشربًا أَرِدُه، وقاتني وأعاشني وبراني كالسهم وراشني وحماني من المكاره صغيرًا وكبيرًا..»([2]).

من هذه الذرية المباركة وامتدادًا لهذه الأسرة الطيبة، واقتداءً بهديها، نشأ الشيخ عبد الحميد بن باديس داعيًا إلى لزوم هدايات القرآن الكريم واتباع السُّنَّة النبويَّة بفهم سلف الأمة، وتجنُّب كافة صُوَر الغلو، والتمسك بمحكمات وأصول الشريعة في غير جفاء ولا غلوّ، ودون إفراط ولا تفريط.

والمتأمل في النشأة الأولى للعلامة ابن باديس يجد أن والده لم يُدْخِلْه المدارس الفرنسية كأقرانه من أبناء العائلات الكبيرة في ذلك الزمن، التماسًا للوظائف الكبيرة وحرصًا على رضا المحتلين، بل حرص على إلحاقه بمدارس العلم الشرعي في الزيتونة، وكذلك لم يحاول الأب إبعاد ابنه عن أيّ عمل دعويّ كعادة الآباء ممن هم في مثل وظيفته ووجاهته.

وقد نشأ ابن باديس في بيئة علمية، فقد حفظ القرآن وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ثم تتلمذ على طريقة السلف في تلقي محكمات الدين على الشيخ أحمد أبو حمدان الونيسي، فكان من أوائل الشيوخ الذين لهم أثر طيب في اتجاهه الديني، ولا ينسى ابن باديس أبدًا وصية هذا الشيخ له: «اقرأ العِلْم للعلم لا للوظيفة»، بل أخذ عليه عهدًا ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا([3]).

تخرج الشيخ ابن باديس من جامعة الزيتونة عام 1912م، وبقي عامًا آخر للتدريس بالجامعة حسب ما تقتضيه تقاليدها.

وعندما عاد إلى الجزائر سلك طريق الدعاة على بصيرة من دينه، وشرع في إلقاء دروس علمية في الجامع الكبير في قسنطينة، ولكن خصوم الدعوة الإصلاحية تحرّكوا لمنعه، فقرر القيام برحلة ثانية لزيارة أقطار المشرق العربي.

مكث الشيخ ابن باديس بعد أداء فريضة الحج ثلاثة أشهر في المدينة المنورة، وقضايا الدعوة في قلبه، فألقى خلال هذه المدة دروسًا في المسجد النبوي، والتقى بشيخه السابق أحمد الونيسي، وتعرف خلال هذه الفترة على رفيق دربه ونضاله الدعوي الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي -رحمهما الله رحمة واسعة-.

وكان هذا اللقاء والتعارف بين الشيخين مثمرًا، فقد تحادثا طويلًا عن طرق الإصلاح في الجزائر، وكيفية إعادة الأمة إلى محكمات الدين، وإنقاذ الجزائر والمغرب العربي من هجمات التغريب والفرنسة، واتفقا على خطة عمل واضحة.

وفي المدينة النبوية عرض الونيسي على ابن باديس الإقامة بها وعدم العودة إلى الجزائر، لكن الشيخ حسين أحمد الهندي نصحه بالعودة للجزائر لحاجة الناس هناك إليه. وفي طريق عودته زار ابن باديس بلاد الشام ومصر، واجتمع برجال العلم والأدب وأعلام الدعوة السلفية، وزار الجامع الأزهر، واتصل بالشيخ بخيت المطيعي ناقلاً له رسالة الشيخ الونيسي.

وكان لهذه البيئة العلمية التي نشأ فيها الشيخ ابن باديس دور كبير في صقل شخصيته، وخاصةً الفترة التي قضاها في جامعة الزيتونة، ورحلته الثانية إلى الحجاز والشام؛ حيث تعرَّف على العلماء والمفكرين والمصلحين الذين تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- الإصلاحية في الحجاز، وما دعا إليه الشيخ من نقاء العقيدة وصفائها والبعد عن البدع والخرافات.

وكذلك كان لمجلة «المنار» التي كان يُصدرها العلامة محمد رشيد رضا -رحمه الله- في مصر، وتصل إصداراتها إلى ربوع العالم الإسلامي، أثر قويّ على الشيخ ابن باديس في تأصيل المنهج السلفي والاهتمام بمشكلات المسلمين المعاصرة وبحث الحلول المطروحة.

وصل ابن باديس إلى الجزائر عام 1913م، واستقر في مدينة قسنطينة، وشرع في الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، منطلقًا من المسجد كمنارة للهدى ومشعل للهداية، ونهض للقيام بجهود دؤوبة للإصلاح الدعوي والتربوي، وسعى لإنقاذ الأطفال والشباب من هوة الجهل والتخلف والفرنسة والتغريب، فبدأ بتعليم الأطفال والفتيان، وخصَّص جلسات أخرى للكبار، واتخذ من المسجد مركزًا رئيسيًّا لأنشطته الدعوية والتربوية والتوعوية.

 وخلال رحلته الدعوية والإصلاحية المباركة تبلورت لديه فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين لجمع جهود العلماء ومناقشة المستجدات ووضع خطط العمل الدعوي والتربوي.

ولم يكتفِ العلامة ابن باديس بذلك، بل لجأ في جهده الدعوي والتربوي إلى استخدام الأدوات والوسائل العصرية، وخاصةً الصحافة؛ اغتنامًا منه لقوة تأثيرها وسرعة انتشارها، ولذا أصدر جريدة «المنتقد» عام 1925م، ولكن ما لبثت أن توقف إصدارها بعد العدد الثامن عشر؛ فأصدر الشيخ جريدة «الشهاب» الأسبوعية، التي بثَّ فيها آراءه في الإصلاح والدعوة والتربية والتعليم، وخاصة إصلاح عقائد الناس، ودعوتهم إلى التمسك بمحكمات الشريعة وصفاء العقيدة وسلامة المنهج القويم المنطلق في العقائد والسلوك من القرآن الكريم وهدايات السُّنة النبوية، وتحذير الناس من الجهل والبدع والخرافات والدجل وانحرافات الطرق الصوفية.

واستمر الشيخ ابن باديس في إصدار جريدة الشهاب أسبوعيًّا حتى عام 1929م، ثم تحولت إلى مجلة شهرية، وحرصًا من الشيخ على إيضاح وجهتها وهدفها المنشود والمتمثل في تعبيد الناس لربهم وتمسيكهم بأصول دينهم الحق، والنأي بهم عن كافة دعوات الضلال؛ وضع الشيخ شعارًا لجريدة الشهاب ينصُّ على ذلك صراحةً: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها). وتوقفت المجلة في شهر شعبان 1328هـ / أيلول عام 1939م؛ بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وحتى لا يُكتب فيها أي شيء تريده الإدارة الفرنسية تأييدًا لها.

 وانطلاقًا من أهمية التجمعات الكبرى التي تجمع علماء الأمة وقادتها في مكان واحد لمناقشة نوازل العصر والبحث عن حلول لها، وعدم تفرُّد عالِم واحد بمناقشة قضايا مصيرية تمسّ جموع الأمة مهما بلغ عِلْمه؛ دعا الشيخ ابن باديس في سنة 1936م إلى عقد مؤتمر إسلامي يضم التنظيمات السياسية كافة من أجل دراسة قضية الجزائر، في خطوة تنمُّ عن رؤية قويمة للشيخ، وأن العالِم مشغولٌ بكافة قضايا أُمّته السياسية والاجتماعية وغيرها، ولا يعتكف في مسجده فقط معتزلاً لأحوال أُمّته؛ لعلمه بأن السياسة تؤثر على توجُّهات المواطنين، وأسفر المؤتمر عن المطالبة بحقوق الجزائر وحريتها واستقلالها، والتحذير من الفرنسة والتغريب.

وظل العلامة ابن باديس في قيادة جمعية العلماء منذ تأسيسها عام 1931م حتى تُوفي عام 1940م. وقد فقدت الجزائر والأمة الإسلامية بفقده عالمًا ومصلحًا ومجددًا، قدَّم لأُمّته جهودًا علميَّة مباركة، وترك بصمات دعوية كبيرة أثمرت جيلاً من الطلاب والدعاة الذين ساروا على نهجه واقتفوا أثره، فرحمه الله رحمة واسعة.

 

انطلاق العلامة ابن باديس من محكمات الدين في منهجه الإصلاحي:

لا شك أن العلامة ابن باديس أحد المجددين والمصلحين الكبار في تاريخ الأمة، كان ذا شخصية عظيمة ومؤثرة؛ عمل على إعادة الأمة إلى دينها القويم، ودعا إلى نهضة المسلمين في كافة المجالات انطلاقًا من عودتهم إلى محكمات دينهم؛ فقال الشيخ: «إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإذا كانت لهم جماعة منظمة تفكّر وتدبّر وتتشاور وتتأثر، وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة»([4]).

وكان الشيخ ابن باديس في دعوته ومنهجه الإصلاحي ينطلق من محكمات الشريعة وأصولها؛ فبدأ بإصلاح العقائد، وكان الشيخ متمسكًا بمذهب السلف الصالح في الاعتقاد والسلوك، يقول عنه زميله الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: «كان ينكر بذوقه ما كان يبني عليه مشايخه من تربية تلاميذهم على طريقة المتكلمين في العقائد الإسلامية، ويتمنى أن يخرجهم على الطريقة القرآنية السلفية في العقائد يوم يصبح معلمًا»([5]).

كما أنكر ابن باديس الشطح الباطني والغلو الصوفي، وشنّ حملة نقد شديدة على أتباع عقيدة وحدة الوجود وأنصارها، وهي العقيدة التي روّجها الحلاج وأمثاله، وحاول المستشرقون الفرنسيون أن يرسخوها عميقًا في الوعي الشعبي الجزائري.

وثنَّى الشيخ بتفسير القرآن الكريم، وبيان هدايته، وظل الشيخ يفسِّر القرآن خلال خمس وعشرين سنة في دروسه اليومية، وكان في تفسيره لآيات القرآن الكريم ينطلق من محكمات القرآن ويرفض التقليد وإدخال الجدل والتأويلات الباطلة في التفسير، يقول الشيخ: "كنت متبرمًا بأساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية، واصطلاحاتهم المذهبية، في كلام الله، ضَيِّقَ الصدر من اختلافاتهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن، وكانت على ذهني بقيَّةُ غشاوة من التقليد، واحترام آراء الرجال، حتى في دين الله، فذاكرت يومًا الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق فقال لي: «اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط، ويبقى الصحيح، وتستريح»، فوالله لقد فتح بهذه الكلمة عن ذهني آفاقًا واسعة لا عهد له بها»([6]).

لقد أولى ابن باديس القضايا الاعتقادية اهتمامًا بَيِّنَا في تفسيره للقرآن؛ فعلى الرغم من قلة المادة التفسيرية التي وقفنا عليها نجد أنه تطرَّق إلى مسائل متعددة من مسائل العقيدة؛ فقد تكلم عن التوحيد، وأنه أساس الدين كله عند قوله تعالى: ﴿لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذمومًا مخذولا﴾؛ وتكلم عن أقسام التوحيد؛ توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، والتوحيد العلمي والتوحيد العملي، وعن أقسام الكفر، وتكلم عن الأحكام الشرعية والأحكام القدرية تحت قوله تعالى: ﴿وإن من قرية إلا نحن مهلكوها … ..﴾؛ ثم قال: فما حكم من أحكامه القدرية إلا وله سببه وعلته لا لوجوب أو إيجاب عليه بل بمحض مشيئته ومقتضى عدله وحكمته. وتطرق للرياء الذي هو شرك أصغر عند قوله تعالى: ﴿ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها﴾؛ فقال: إن قصد الثواب والجزاء على العمل لا ينافي الإخلاص فيه لله. وتكلم عن العامل الذي لا يريد الآخرة أصلاً وإنما أراد الرياء أو منفعة دنيوية وفصل في ذلك تفصيلاً جيدًا([7]).

وأما موقفه من البدع: فقد تطرَّق من ذلك إلى الإنكار على المبتدعة من المشركين الأوائل الذين اخترعوا الرقص والزمر والطواف حول القبور والذبح عندها دعاء أصحابها … إلخ، وذكر فساد ذلك، وحث المسلمين على أن يقتصروا في العبادة على ما ثبت عن رسول الله .

ومن ردوده على الصوفية قوله: "زعم قوم أن أكمل أحوال العابد أن يعبد الله تعالى لا طمعًا في جنته ولا خوفًا من ناره، وهذه الآية، وغيرها ردّ قاطع عليهم.. إلخ يعني قوله ﴿والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم﴾.

وهو يرفض تفاسير الصوفية التي ليس لها معاني صحيحة في نفسها، ولم تُؤخذ من التركيب القرآني أخذًا عربيًّا صحيحًا، وليس لها ما يشهد من أدلة الشرع؛ فيقول: … أما ما لم تتوفر فيه الشروط المذكورة -وخصوصًا الأول والثاني- فهو الذي لا يجوز في تفسير كلام الله، وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية؛ كتفسير أبي عبد الرحمن السلمي من المتقدمين والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين([8]).

ويتميز تفسير ابن باديس بانتقائه للأحاديث في الجملة فغالب أحاديثه صحيحة أو حسنة، وهو يعزو الأحاديث لمخرجيها في معظم المواضع. وهذه ظاهرة عزيزة لا تكاد توجد في أي من التفاسير، فهي حسنة من حسنات ابن باديس([9]).

ومن كلامه: وما أحسن التفسير عندما تعضده الأحاديث الصحاح([10]).

ويقول: عندما يختلف عليك الرعاة الذين يدعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى فانظر من يدعوك بالقرآن إلى القرآن ومثله ما صح من السنة؛ لأنها تفسيره وبيانه فاتبعه([11]).

إن الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس مفسِّر للقرآن تفسيرًا سلفيًّا يراعي فيه مقتضيات العصر، معتمدًا على بيان القرآن للقرآن، وبيان السُّنة له، وأقوال الصحابة والتابعين، وعلى أصول البيان العربي وسننه، والنفاذ إلى لغة العرب وآدابها، وقوانين النفس البشرية وسنن المجتمع الإنساني، وتطور التاريخ والأمم، وهو محدِّث من الطراز العالي لا يستشهد إلا بالأحاديث الصحيحة المسندة،.. إلى البخاري أو مسلم أو الموطأ الذي اهتم به واعتبر منهجه في الاستدلال خير المناهج، فدرسه وختمه كما ختم القرآن في ربع قرن.

ويرفض المذاهب المخالفة للسُّنة فالظاهرة الواضحة في الحياة العلمية التي نهض بها هي: الناحية النقدية المنهجية التي تردُّ الفروع لأصولها، والأصول لمستنداتها، فأذهب ذلك الجوَّ القاتم الساكن المستسلم الذي يسمع فيه الطالب ويسلِّم معتقدًا أن «سلِّم تسلم»، وأن «سلِّم للرجال على كل حال» مبدأ لا ينبغي تحديه، ولا تجاوزه، وهو ما كان سائدًا قبل حركته.

وهو فقيه مطلّع على مدارك المذاهب، وخاصة مذهب الإمام مالك، جامع بين الأصول والفروع، وبين المآخذ الكلية وجزئيّاتها، يفتي ويربط الحوادث بأحكامها.

وهو مصلح ديني واجتماعي يحارب التقليد والبدع، ويدعو للنهضة والحضارة، ويغرس الحب وأصول الأخلاق التي هي جوهر المدنية.

كان يناقش ويكتب في أصول السياسة الإسلامية، وهو مؤرخ يحلل الحضارة، وينقد مقدمة ابن خلدون، ويدرس آيات القرآن وما تنطوي عليه من الدعوة إلى النظر في تجارب الأمم وتطورات الأحداث، وما تخضع له من سنن وقوانين لا تبديل لها ولا تحويل، تأثر بأبي بكر بن العربي وكتابه «العواصم من القواصم»؛ فاستنسخه وحققه وطبعه. ويظهر تأثير أبي بكر بن العربي في كتابه «العقائد الإسلامية» الذي لم يسلك فيه مسلك الفلاسفة ولا منهج المتكلمين وإنما نهج طريق القرآن في الاستدلال، وأساليبه في الرد والحِجَاج، ذلك المنهج الذي يتلاءم مع الفطرة الإنسانية فتستجيب له وتطمئن إليه وتميل نحوه وتركن([12]).

وكان هو المربي الذي أخذ على عاتقه تربية الأجيال في المدارس والمساجد، فأنشأ المدارس واهتم بها، بل كانت من أهم أعماله، وكان هو الذي يتولى تسيير شؤون جمعية العلماء، ويسهر على إدارة مجلة الشهاب، ويتفقد القاعدة الشعبية باتصالاته المستمرة.

ونظرًا لأهمية وعي العالِم بمحيطه الجغرافي وقضايا الأمة السياسية، كان الشيخ واعيًا بالقضايا السياسية، فهو سياسي متميز يشرح أصول السياسة الشرعية الإسلامية، ويكتب في المجلات والجرائد التي أصدرها عن واقع المسلمين وخاصة في الجزائر ويهاجم فرنسا ويحذر من أساليبها الاستعمارية التغريبية.

إن آثار ابن باديس آثار عملية قبل أن تكون نظرية في كتاب أو مؤلَّف، والأجيال التي رباها كانت وقود معركة تحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي، وقليل من المصلحين في العصر الحديث من أتيحت لهم فرص التطبيق العملي لمبادئهم كما أتيحت لابن باديس؛ فالشيخ رشيد رضا كان يحلم بمدرسة للدعاة، ولكن حلمه لم يتحقق، ونظرية ابن باديس في التربية أنها لا بد أن تبدأ من الفرد، فإصلاح الفرد هو الأساس([13]).

وطريقته في التربية هي توعية هذا النشء بالفكرة الصحيحة كما ذكر الإبراهيمي عن اتفاقهما في المدينة : «كانت الطريقة التي اتفقنا عليها سنة 1913 في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة»([14]).

وينتقد ابن باديس مناهج التعليم التي كانت سائدة حين تلقّيه العلم والتي كانت تهتم بالفروع والألفاظ؛ فيقول: «واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية، مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفني الأعمار قبل الوصول إليها»([15]).

يقول الدكتور بركات محمد مراد: «لقد كان ابن باديس مَعِينًا لا ينضب من الذكاء والقدرة على الصبر والجَلَد في مواصلة الدرس والبحث، وقد كانت دروسه في مساجد قسنطينة تتجاوز في اليوم عشر ساعات، عامرة بمختلف علوم الدين، كما أن طريقته في الحياة منذ بداية شبابه، واختياره البساطة كقاعدة للحياة، هما اللذان دعما مركزه الديني والاجتماعي.

لقد اهتم ابن باديس بتوضيح المنهج الذي ينبغي اتباعه في فهم العقائد الدينية وفي الاستدلال عليها، وطبق هذا في تفسيره وفي دروسه، وهذا المنهج يمكن اعتباره منهجًا قرآنيًّا؛ لأنه يحث على العودة إلى النبع الأول للإسلام؛ وهو القرآن الكريم الذي بدوره يحث على العلم وطلبه، ويدعو إلى نبذ التقليد. ومن هنا كان العلم عند ابن باديس، ليس مجرد قيمة من قيم الحياة؛ بل هو فريضة وعبادة ووسيلة أساسية من وسائل الدعوة إلى الله. والعلم الذي يعنيه الإسلام في نظره علم شامل للدنيا والآخرة، وهو ما تعلق بعالم المادة أو الظواهر، أو ما كان مرتبطًا بالنفس الإنسانية والشعور الإنساني، أو ما تعلق بأمور العقيدة الدينية والأخلاقية.

ولكن هذا النهج القرآني لا يلغي مهمة العقل؛ بل يعطيه دورًا فعالًا في البحث والتأمل والاستنباط والاجتهاد. وقد طبّق هذا المنهج فيما يتصل بالتوحيد؛ حيث كان يدلل على وجوب تطور علم التوحيد بوجه عام بأن يجدد في أساليبه وأدلته ومشكلاته، وبالاعتماد أساسًا على المصادر الأساسية له، وتجنب استخدام أساليب الكلام القديمة التي أصبحت لا تواكب العصر، ولا يستسيغها عامة المسلمين، والتي أضرت بالعقل المسلم أكثر من إفادتها له. والعقل السليم في العصر الحديث يحتاج إلى الصدق المبشر، والبداهة الضرورية التي لا يمكن توفرهما إلا في نصوص القرآن الكريم مباشرة؛ لأن فيه إقناع العقل وإرضاء الوجدان دون أن يستخدم الأساليب الجدلية؛ حيث اعتبر التجربة الدينية تجربة حية، تفيدها متابعة القرآن الكريم ومباشرة آياته، دون وسيط من منطق أو فلسفة»([16]).

ولم يقتصر الشيخ على العلم فقط، بل كان قدوة لطلابه في الجمع بين العلم النافع والعمل الصالح؛ فكانت العبادة عند ابن باديس منهجًا قويمًا يشمل جميع مجالات الحياة، ولا تنحصر في الصلاة والتسبيح والتهليل فقط؛ بل كان قدوة للعالِم العامِل الذي يكون خاضعًا لمولاه، مخلصًا لربه وفيًا لدينه، لا يكتفي بمجرد الأقوال دون العمل، ولا يستغني عن مظاهر العبادة دون بواطنها.

 

جهود ابن باديس في الإصلاح الدعوي:

يُعدّ الشيخ عبد الحميد بن باديس واحدًا من أبرز العلماء الذين حرصوا على الإصلاح الدعوي، والدعوة إلى الله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة، انطلاقًا من القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية.

وقد كان للعلامة ابن باديس منهج في الإصلاح الدعوي جدير بالاهتمام؛ فقد أمعن النظر في الطرق المتبعة لتدريس مادة الفقه الإسلامي، وفي الوسائل الشاملة لتطبيق الأحكام الإسلامية في الحياة العامة؛ فوجد انحرافًا منشؤه الاعتماد بشكل أساسي على الفروع المقطوعة عن أصولها، والإعراض عن الاستدلال والتعليل والقياس والنظر، مما اعتبره هجرًا لكتاب الله وبعدًا عنه. وكان يرى أن التخلف الذي لحق بالفقه وبعلوم الدين عامة سببه غياب المنهج العلمي الذي أخذ به العلماء والفقهاء.

وهذا يؤدي إلى تخبطهم في الفروع، وكثرة اختلافهم فيما تشعب عنها، وإلا فيمكن تلافي ذلك الاختلاف بالعودة إلى المنابع الأولى من القرآن والسنة، ثم استخدام النظر والاستدلال اعتمادًا على القياس والاستنباط، وإعمال الفكر والنظر في حدود شروط الاجتهاد الصحيح والذي كفله الدين للفقهاء والعلماء.

ومن هنا كان اهتمام ابن باديس بالاجتهاد ودعوته إليه، ومحاربته التقليد ومهاجمته المقلدين، وعلى الرغم من اعتزازه بمذهبه المالكي وقد كان مذهبًا سائدًا في المغرب العربي فقد كان يعود إلى كثير من المذاهب الفقهية الأخرى؛ كمؤلفات المذهب الشافعي وعلى رأسها كتاب (الأم)، ومؤلفات جلال الدين السيوطي، وابن العربي والقرطبي، ويستحسن كثيرًا من توجيهاتهم، وكان يرى في بعضها ثروة فقهية هائلة يمكننا الاستفادة منها في إيجاد الحلول الكفيلة لمواجهة التحديات التي تفرض نفسها علينا. من هنا كان إرشاده إلى إمكانية الاستعانة بمختلف المذاهب الفقهية، وتخير ما نراه مناسبًا وملائمًا لظروف حياتنا ومتطلبات تقدمنا؛ حيث إن الاقتصار على مذهب معين دون غيره أو جملة مذاهب محصورة في دنياها وآخرتها يحرمنا من كثير من الخير.

وللحفاظ على الشخصية العربية والإسلامية، كان يوجه لومه وانتقاده وتقريعه لأولئك الذين بهرتهم المدنية الغربية، ويرى أن متابعة الغرب في كل شيء ضياع للشخصية وإفناء للهوية، وخاصةً أن المدنية الغربية هي حسب تعبيره مادية في منهجها وغايتها ونتائجها. ([17])

ومن جهة أخرى يُعدّ الشيخ عبد الحميد بن باديس واحدًا من أبرز المفكرين والعلماء الجزائريين الذين عملوا على صياغة الأسس النظرية لحركة الإصلاح الجزائرية في ذلك الوقت المبكر من تاريخ الأمة العربية في عصر النهضة. وقد اتجهت هذه الحركة إلى تنظيم عملية المواجهة التي قصد منها الوقوف أمام التحدي المتعاظم للحضارة الأوروبية وللوجود الاستعماري في المغرب العربي. وقد كانت فترة ما بين الحربين العالميتين فترة البعث الجزائري الكبرى إبَّان مقاومتها للمستعمر الفرنسي، وكان نجم هذه الفترة الشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي قُدر له أن يخوض معركة التأكيد على الذات في جميع الميادين وبمختلف الوسائل.  

لقد كان التعليم وسيلته؛ فقام بما يشبه (الثورة الثقافية)، وحارب الطُرُقية الصوفية وما قدمته من بدع، ودعا إلى تنقية الإسلام من الشوائب وما لحقه من مظاهر الشرك، متجاوزًا المذاهب، وعاملًا على تعزيز إسلام سلفيٍّ منفتح على معطيات العصر الحديث، جاعلًا التربية الخلقية والدينية هي منهجه في هذا السبيل الذي لا غنى عنه في مواجهة أخلاق وأفكار غريبة، أراد المستعمر بها اجتياح الشخصية العربية والإسلامية في غرب إفريقيا([18]).

وكان على الشيخ عبد الحميد بن باديس وصحبه أن يواجهوا المخططات الفرنسية في تغريب المجتمع الجزائري وما اقتضته تلك السياسة من اعتبار اللغة العربية لغة أجنبية، واعتبار الجزائر جزءًا من فرنسا، والضغط على السكان بمصادرة ممتلكاتهم بغية اقتلاعهم من أرضهم، ومحاولة اجتثاث عقيدتهم.

ولا شك أنّ جهود ابن باديس في الإصلاح والتجديد، وعمله الدؤوب لإحياء المعنى الاجتماعي للدين وبثّ المشاعر الدينية في نفوس مواطنيه قد أثمرت في نهاية المطاف؛ حيث قامت الثورة الجزائرية المسلمة، كما أثبتت أنَّ الثورة لا تُستورد أداتها؛ فقد كان النور الذي هدى هذه الثورة إلى النصر والتحرير، ومن ثم الاستقلال؛ هو نور الإسلام، كما كان الفكر الديني المتجدد أساسَها الثقافي وسلاحَها المؤثر، ولم يكن في الميدان غيره عند انطلاقتها الأولى.

من هذه الزاوية اكتسب ابنُ باديس مكانته في نفوس الجزائريين، واعتبره الكثيرون أبًا لليقظة الوطنية في الجزائر؛ فعمله خارج الدائرة الاستعمارية ورفضه لكل المحاولات التي أرادت إغراءه بالرفاهية والطموح عن طريق ربطه بالمؤسسات الوظيفية، وتفانيه لمبادئه وإخلاصه لزملائه في جمعية العلماء، كل هذه العلامات جعلت الشعب الجزائري يرى فيه الإمام الذي ينتمي إلى الرعيل الأول من المسلمين، ويرى فيه بحق قائدًا من قادة الإسلام العظام([19]).

رحم الله العلامة عبد الحميد بن باديس، وأجزل له المثوبة جزاءَ ما قدَّم لأمته لدينه وأمته.

 

 

مصادر ومراجع

- ابن باديس: التفسير، دار الفكر، بيروت، عام 1971م.

 - ابن باديس: العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والسنة النبوية، تحقيق محمد صالح رمضان، مطابع الكيلاني، القاهرة، بدون تاريخ.

 - ابن باديس: جريدة المنتقد، قسنطينة، عام 1925م.

 - ابن باديس: مجلة الشهاب، قسنطينة، عام 1929م.

 - جب هـ: الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة هاشم حسين، دار الحياة، بيروت عام 1966م.

 - د. رابح تركي: الشيخ عبد الحميد بن باديس، الشركة الوطنية الجزائرية، عام 1970م.

 - د. بركات محمد مراد : فلسفة ابن باديس في الإصلاح والتجديد، الصدر للطباعة والنشر، القاهرة، عام 1992م.

 - د. عمر طالبي : ابن باديس حياته وآثاره، دار اليقظة العربية، دمشق - عام 1968م.

-  محمد بن محفوظ الشنقيطي، جواهر الدرر في نظم مبادئ أصول ابن باديس الأبر، 2005م.

- محمد بن رزق الطرهوني ، التفسير والمفسرون في غرب إفريقيا، 2005م.



[1]- مدقق لغوي وباحث شرعي: Omarez1973@hotmail.com

[2]- ابن باديس حياته وآثاره، د. عمار الطالبي، 2/138.

[3]- جواهر الدرر في نظم مبادئ أصول ابن باديس الأبر، محمد بن محفوظ الشنقيطي، ١/‏٩.

[4]- آثار ابن باديس ١/‏١٠٦.

[5]- تقديم فضيلة العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لكتاب: العقائد الإسلامية لابن باديس، ١/‏١٦.

[6]- ابن باديس حياته وآثاره، د. عمار الطالبي ١/ ١٤٠.

[7]- ابن باديس حياته  2/725.

[8]- التفسير والمفسرون في غرب إفريقيا، محمد بن رزق الطرهوني، 2/726.

[9]- التفسير والمفسرون في غرب إفريقيا، محمد بن رزق الطرهوني، 2/727.

[10]- التفسير والمفسرون في غرب إفريقيا، محمد بن رزق الطرهوني، 2/733.

[11]- التفسير والمفسرون في غرب إفريقيا، محمد بن رزق الطرهوني، 2/734.

[12]- آثار ابن باديس 1/91.

[13]- جواهر الدرر في نظم مبادئ أصول ابن باديس الأبر، محمد بن محفوظ الشنقيطي، ١/‏١٤.

[14]- جمعية العلماء المسلمين، د. الخطيب، ص129.

[15]- جمعية العلماء المسلمين، د. الخطيب، ص129.

[16]- رؤية ابن باديس للإصلاح، د. بركات محمد مراد، مجلة البيان، العدد: 243، ص12.

[17]- رؤية ابن باديس للإصلاح، د. بركات محمد مراد، مجلة البيان، العدد: 243، ص12.

[18]- رؤية ابن باديس للإصلاح، د. بركات محمد مراد، مجلة البيان، العدد: 243، ص12.

[19]- المرجع السابق.


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...