إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات . 25 أكتوبر, 2022, 5:30 AM
إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
العناية بالعقيدة الإسلامية وإصلاح ما حدث فيها من شروخ وانحرافات في الواقع كان محل عناية واهتمام من السلف رضوان الله عليهم على مر العصور؛ ففي عصر الصحابة كان الإصلاح العقدي أحد أساسيات الدور الذي قام به الصديق رضي الله عنه، فحين كان وجوب الزكاة محكمًا وركنا ركينًا ترك كثيرًا من المهامات واتجه إلى مواجهة المرتدين الذين حاولوا إسقاط هذا الركن الأساسي من أركان الإسلام الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة..."([1])؛ فلم يكن الأمر مجرد التفكير المادي في الإيرادات المالية للدولة بقدر ما كان الأمر يمثل أصلا من أصول العقيدة الإسلامية يكاد أن يقوض ويجتث من جذوره فلا تنبت للإسلام نابتة بعد ذلك بل هو إلى اجتثاث بلا قرار؛ فقام الصديق رضوان الله عليه بدور الإصلاح لهذا الانحراف الفكري الذي نشأ عنه انحراف سلوكيّ متمثل في محاربة دولة الإسلام وخليفة المسلمين؛ فبادر بالإصلاح ونَعم المسلمون من بعده بصفاء العقيدة، ولما حاول الكذاب نقض أصل أصول النبوة ومحكمًا من محكماتها التي أخبر الله عنها: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وعلى الرغم من ذلك ادعى الكذاب النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقف له الصديق بالمرصاد دون نقض هذا الأصل العقدي المحكم وتتبعه حتى قُتل، ولما كان السحر من الأعمال المنافية لتوحيد الألوهية نجد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأمر بقتل كل ساحر وساحرة([2])؛ إصلاحًا لهذا الانحراف.
ولم يكن الإصلاح العقدي ومواجهة الانحرافات فيها شأن الولاة والخلفاء من الصحابة وحسب، بل تضافرت الجهود عليه من غالب الصحابة وبلغنا كثيرًا من أخبار العلماء منهم على وجه الخصوص، فحين ظهرت القدرية المنكرون للقدر وهو أصل محكم من أصول العقيدة رده ابن عمر رضي الله عنهما وبادر بالإصلاح وذلك حين سأله يحيى بن يعمر وقال: "أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: «فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني»، والذي يحلف به عبد الله بن عمر «لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر»"([3])، ثم بيَّن رحمه الله أن هذا أصل محكم من أصول الدين، وقال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر... قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»"([4])، وسيطول بنا المقام لو أردنا أن تتبع جهود الصحابة والسلف في الإصلاح العقدي في ضوء المحكمات، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق وبعض الربيع ببعض العطر يختصر.
ولقد من الله على الأمة الإسلامية في كل عصر من عصوره من يقوم بهذا الإصلاح العقدي ويرد الناس إلى المحكمات ويحذرهم من الانجرار وراء المتشابهات والزيغان عن المحكمات باتباعها، ومن أولئك في القرن السابع الهجري "العالم الحق الذي كان كالطود الأشم في وجه الأعاصير وكالشمس المضيئة في وجه الظلام الداجي؛ حيث جاء هذا العالم في وقت عم فيه الجهل المركب... وهم لا يتقاعسون عن تزوير الحوادث ونسج الوشايات وقلب الحقائق في سبيل الوصول إلى قهر رجال الإصلاح الذين يكشفون عن جهلهم... جاء الإمام ابن تيمية ووضع شعلة القرآن ونور السنة على طريق المسلمين وهداهم إلى التوحيد الصحيح والإيمان بصفاته تعالى..."([5]).
لقد كان ابن تيمية -مثل كثير من فحول الإسلام- يركز جهده ونظره على القضايا المحكمة الرئيسية الأصلية بدلًا من الانشغال بالفرعيات، ويركز عدسة بحثه على أصل الخلاف ومنشئه بدلًا من التطويل في مسائله ومخرجاته؛ فالعناية بالجوانب الرئيسية المركزية المحكمة يعد أصلًا من الأصول المنهجية الفكرية التي يمتاز بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو ما يجلي لنا نصاعة منهجيته العلمية في التقعيد والتأصيل والنقد والتمحيص بالرد إلى المحكمات وكشف التشابه في التطبيقات، فكثيرًا ما يعنى بتمحيص القول ورده إلى الأفكار الرئيسية المحكمة([6]) .
إن من أهم وسائل الإصلاح العقدي في النهج التيمي العناية برد المتشابهات إلى المحكمات؛ ولما كان من أصول الضلال المركزية التي ضل بها كثير من أهل الأهواء والملل والأديان اتباعهم للمتشابه من النصوص وإعراضهم عن المحكم كما يقول الإمام أحمد (241) رحمه الله في مقدمته الشهيرة: "عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم"([7])، وتلك سيما أهل البدع كما يقول ابن تيمية (728) رحمه الله: "والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات وحقائق وغير ذلك، لا بد أن تشمل على لبس حق بباطل وكتمان حق، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعًا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه.
ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لا بد له أن يلبس فيه حقًّا بباطل، بسبب ما يقوله من الألفاظ المجملة المتشابهة...، والمقصود هنا قوله: يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس، هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة، وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس، لكن بمعان أخر غير المعاني التي قصدوها هم بها، فيقصدون هم بها معاني أخر، فيحصل الاشتباه والإجمال"([8])، لما كان أهل الضلال يحرفون النصوص بهذه الطريقة كان الإصلاح العقدي عند ابن تيمية (728) رحمه الله قائمًا على تقعيد هذا الأصل وهو: تثبيت المحكمات ويرد إليها المتشابهات.
وكثيرًا ما يقوم شيخ الإسلام ابن تيمية (782) رحمه الله بالإصلاح العقدي لانحرافات المخالفين بهذا الأصل، فيبين أن الأصول المحكمة قد ناقضوها وأنهم اتكؤوا على المتشابهات في سبيل ترويج باطلهم، وفي ذلك يقول: "إذا فصِّل مقصود القائل، وبين بالعبارة التي لا يشبه الحق فيها بالباطل ما هو الحق، وميز بين الحق والباطل كان هذا من الفرقان، وخرج المبين حينئذ مما ذم به أمثال هؤلاء الذين وصفهم الأئمة بأنهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون علي ترك الكتاب، وأنهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام"([9]).
إن هذا الأصل الذي اعتمده ابن تيمية في الإصلاح العقدي أصل قرآني عظيم معروف، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
فالراسخون في العلم يتبعون المحكم ويردون إليه المتشابه وأما الزائغون الضالون فهم يتبعون المتشابه من النصوص ويتركون المحكم.
والمقصود "بالمحكمات: اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام"([10]).
وهذا معنى "الإحكام الخاص، وهو ضد التشابه الخاص.
فالتشابه الخاص هو: مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله وليس كذلك، والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.
ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهًا عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النِّسبيّة الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبها له من بعض الوجوه.
ومن هذا الباب الشُّبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل، حتى يشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل"([11]).
ومقصودنا في هذا المقال الإحكام الخاص والتشابه الخاص دون غيره؛ فلا حاجة إلى تفصيل المعاني الأخرى وهي مسرودة في مظانها، وهنا حان الوقت لأخذ نماذج من الإصلاح العقدي من ابن تيمية (728) رحمه الله في ضوء المحكمات، ونأخذ أمثلة من هذا الإصلاح في بعض من ضل من السنة ثم من ضل من المتكلمين ثم بعض أهل الأديان.
1- عندما وقف ابن تيمية (728) رحمه الله على انحراف من انحرف في باب مهم من أبواب العقيدة وهو حقيقة العبادة والزهد والمحبة لله سبحانه وتعالى؛ بين أن علة انحرافهم هو اتباعهم للمتشابه وتركهم المحكم من الدين وعملهم بأقوال المعظمين عندهم، فكان الإصلاح العقدي منه رحمه الله بردهم إلى المحكم وكشف المتشابه الذي ضلوا فيه، يقول ابن تيمية (728) رحمه الله: "وكثير من المخطئين الذين ابتدعوا أشياء في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها ولو صدق لم يكن قائلها معصوما فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينا ثم إنهم ينتقصون العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعي النصارى في المسيح والقساوسة ويثبتون لخاصتهم من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه والقسيسين والرهبان إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع.
وإنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا"([12]).
2- ومن الانحرافات العقدية التي وقف عليها ابن تيمية (728) رحمه الله وكافحها بالإصلاح انحراف من ظنَّ أن الكتاب والسنة ليس فيهما الهدى المبين وبرد اليقين ليبحث عنهما عند غيرهما، وأن الأدلة بشتى أنواعها غير كافية لإحقاق الحق وإبطال الباطل؛ فبيَّن ابن تيمية (728) رحمه الله أن هذا الضلال الذي وقع فيه ناشئ عن أصل عنده وهو أن الهدى ليس في الكتاب والسنة لما في نصوصه من التشابه بحسب زعمه فيجعل من المتشابهات أصلًا ومنطلقًا لنظره في النصوص، ويجعل ما يعتقده هو المحكم الذي يجب أن ترد إليه نصوص الكتاب والسنة، فيئول به الحال إلى أن يجعل نصوص الوحي المحكمة متشابهة محتاجة إلى محكم يؤكدها ويجعل غيره من النصوص محكمًا إليه يحاكم كلام الله ورسوله، ومن أضل من أولئك سبيلا! يقول ابن تيمية (728) رحمه الله: "ومن صار من أهل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة والحيرة؛ فإنما ذلك لفساد استدلاله إما لتقصيره، وإما لفساد دليله، ومن أعظم أسباب ذلك الألفاظ المجملة التي تشتبه معانيها.
وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على أصل فاسد، وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة التي جعلوها أصول دينهم، وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، كما يجعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا به صفات الله، ونفوا بها رؤيته في الآخرة وعلوه على خلقه، وكون القرآن كلامه ونحو ذلك، جعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مؤولًا عليها، أو مردودًا، أو غير ملتفت إليه ولا متلقى للهدى منه"([13]).
3- وكذلك كافح بالإصلاح العقدي دعوى من سأل عن علة عدم وجود نص للشارع يعصم من الزيغ ويبلغ الناس الهدى فبين أن هذا قول من زاغ عن المحكمات وأن إصلاح هذا الزلل يكون بالرد إليها؛ فقد سئل شيخ الإسلام صراحة: "ما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك، وقد كان حريصًا علي هدي أمته؟!"
فتعجب من هذا السؤال، وبين أنه سؤال مغلوط أصل الضلال فيه هو اتباعهم للمتشابه من النصوص وتركهم للمحكم، وجعل المتشابه محكمًا والمحكم متشابهًا، حيث قال: "وقد تقدم التنبيه على منشإ الضلال في هذا السؤال وأمثاله، وما في ذلك من العبارات المتشابهات المجملات المبتدعات، سواء كان المحدث هو اللفظ ودلالته، أو كان المحدث هو استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى...، وأنه إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الاستفسار والتفصيل تبين سواء السبيل.
وبذلك يتبين أن الشارع عليه الصلاة والسلام نص على كل ما يعصم من المهالك نصًّا قاطعًا للعذر، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]...، وهذه الجملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع والاستقراء، والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة، فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ما فيه غاية الهدى والبيان والشفاء.
وذلك يكون بشيئين: أحدهما: معرفة معاني الكتاب والسنة.
والثاني: معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون، حتى يحسن أن يطبق بين معاني التنزيل ومعاني أهل الخوض في أصول الدين، فحينئذ يتبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..."([14]).
ثم بين رحمه الله أن السلف كانوا ينهون عن الألفاظ المجملة لما فيها من التشابه المضل للناس، ويوصون بالكتاب والسنة لما فيهما من التفصيل والبيان والإيضاح والفرقان، قال رحمه الله: "ولهذا يوجد كثيرًا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو تقصير في بيان الحق؛ ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنع من كلا الإطلاقين، بخلاف النصوص الإلهية؛ فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل؛ ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه...، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعًا من إطلاقها: نفيًا إثباتًا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله، فإنه حق يجب قبوله، وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه.
وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون على مفارقته، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات، التي لا يجوز اتباعها، بل يتعين حملها علي ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه، أو الإعراض عنها وترك التدبر لها"([15]).
4- ومن الأصول العظيمة للإصلاح العقدي في المنهج الكلامي التي نهجها ابن تيمية (728) رحمه الله هذا الأصل وهو الرد إلى المحكمات وكشف المتشابهات فهو أصل ضلال ما ضل به المتكلمون وأضلوا؛ فإن السلف لم يذموا الكلام لما فيه من المصطلحات الجديدة أو العبارات الدخيلة وإنما لما فيه من التلبيس والتشابه بين الحق والباطل؛ فاستعملوا نصوصًا متشابهة وتركوا الحق الواضح في الكتاب والسنة، والحق أحق أن يتبع، يقول ابن تيمية (728) رحمه الله: "فالسلف والأئمة لم يذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ الجوهر، والعرض، والجسم وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من باطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، لاشتمال هذه الألفاظ علي معان مجملة في النفي والإثبات، كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع، فقال: هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون علي مفارقة الكتاب...
يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم..
فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة ـ بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة ـ كان ذلك هو الحق، بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من المتكلم بهذه الألفاظ نفيًا وإثباتًا في الوسائل والمسائل: من غير بيان التفصيل والتقسيم، الذي هو من الصراط المستقيم، وهذا من مثارات الشبه.
فإنه لا يوجد في كلام النبي صلي الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أحد من الأئمة المتبوعين: أنه علق بما سمي لفظ الجوهر والجسم والتحيز والعرض ونحو ذلك شيئًا من أصول الدين، لا الدلائل ولا المسائل.
والمتكلمون بهذه العبارات يختلف مرادهم بها، تارة لاختلاف الوضع، وتارة لاختلافهم في المعني الذي هو مدلول اللفظ...، والسلف والأئمة الذي ذموا وبدعوا الكلام في الجوهر والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ في أصول الدين، في دلائلة وفي مسائله، نفيًا وإثباتًا، فأما إذا عرفت المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة وعبر عنها لم يفهم بهذه الألفاظ ليتبين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالي {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213]، وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم، وذلك يحتاج إلي معرفة معاني الكتاب والسنة، ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم.
ثم اعتبار هذه المعاني بهذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف"([16])، وقال في موضع آخر: "وغايتهم أنهم يدَّعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة: المعقول والكلام، وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضاهوا به أهل الإلحاد، فهم من جنس الرافضة: لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئًا من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية"([17]).
5- ومن ذلك الإصلاح العقدي لانحرافات المتكلمين وأمثالهم ممن انحرف في باب الصفات؛ فحجج نفاة الصفات من أوهى الحجج واستدلالهم إنما هو بالمتشابه لا المحكم كتفسيرهم الأفول بالحركة في قصة خليل الله إبراهيم عليه السلام مع أنه لا يعرف لا في اللغة ولا في التفسير ولا في الشرع ولا سياق الآية وإنما معناها التغيب والاحتجاب، يقول ابن تيمية (728) رحمه الله: "حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة كما قال الإمام أحمد: يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم حتى يتوهم الجاهل أنهم يعظمون الله وهم إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله
ومن أعجب الأشياء احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل وهم مع افترائهم فيها على التفسير واللغة إنما هي حجة عليهم لا لهم كما قال بعضهم في قوله {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، أي: المتغيرين وربما قال غيره: المتحركين أو المنتقلين وقال بعض المتفلسفة: المتأخرين الممكنين وأراد بالممكن ما يتناول القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه
وزعم بعضهم كالرازي في تفسيره أن هذا قول المحققين وهؤلاء من أعظم الناس تحريفًا للفظ الأفول ولفظ الإمكان...، ثم استعمال لفظ الأفول في الممكن الذي يقبل الوجود والعدم من أعظم الكذب على اللغة والتفسير فإن المخلوقات الموجودة كالشمس والقمر والكواكب والأدميين وغيرهم لا يسمون في حال حضورهم آفلين
وهؤلاء اجترأوا على ذلك لما جعلت الجهمية أهل الكلام المحدث المتحرك آفلًا فجعلوا كل متحرك آفلًا وزعموا أن إبراهيم عليه السلام احتج بالحركة على امتناع كون المتحرك رب العالمين فلما قال هؤلاء هذا قال أولئك نحن نجعل كل ما سوى الرب آفلًا فجعلوا السموات والأرض وكل ما سواه آفلًا وفسروا بذلك القرآن وهذا لا يعرف في لغة العرب أن الأفول بمعنى التحرك والانتقال، ولا بمعنى التغير الذي هو استحالة من صفة إلى صفة دع ما هومن باب التصرف الذي لا تستحيل فيه الصفات
وإبراهيم إنما قال {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ردًّا لمن كان يتخذ كوكبًا يعبده من دون الله، كما يفعله أهل دعوة الكواكب، كما كان قومه يفعلون ذلك لا ردًّا على من قال إن الكوكب هو رب العالمين، فإن هذا لم يقله أحد لكن قومه كانوا مشركين، ولو كان إبراهيم مقصوده نفي كون الكوكب رب العالمين، واحتج على ذلك بالأفول لكانت حجة عليهم لأنه لما رأى الكوكب والقمر والشمس بازغة كانت متحركة من حين بزوغها إلى حين غروبها وهو في تلك الحال لا ينفي عنها المحبة كما نفاها حين غابت.
فعلم بذلك أن ما ذكر من التغير والحركة والانتقال لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام وإنما نافاه التغيب والاحتجاب"([18]).
6- وقد وظف رحمه الله هذه القاعدة في تعامله ورده على النصارى، فمن أهم الأصول التي اعتمد عليها في نقده للنصارى بيان أنهم كثيرًا ما يتكئون على المتشابه من النصوص ويتعامون أو يتركون المحكم منها ولا يلتفتون إليه؛ والحق أن يكون الأصل والمنطلق من المحكم من النصوص ثم بعد ذلك ينظر إلى المتشابه والمقصود به وتفسيره ويفهم في ضوء المحكم، وأما من يتنكب هذا الطريق فذاك سبيل الزائغين الضالين كما بينا؛ وفي مفتتح الجواب الصحيح الذي أجاب فيه عن رسالة بولس الأنطاكي بيَّن هذا الأصل حيث قال: "فنحن نبدأ بالجواب عن هذا، ونبين أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه مرسل إليهم، وإلى جميع الإنس والجن، وأنه لم يقل قط أنه لم يرسل إليهم، ولا في كتابه ما يدل على ذلك.
وأن ما احتجوا به من الآيات التي غلطوا في معرفة معناها، فتركوا النصوص الكثيرة الصريحة في كتابه، التي تبين أنه مرسل إليهم، من جنس ما فعلوه في التوراة والإنجيل والزبور وكلام الأنبياء، حيث تركوا النصوص الكثيرة الصريحة، وتمسكوا بقليل من المتشابه الذي لم يفهموا معناه"([19]).
وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية (728) رحمه الله أن هذا ليس أمرًا عارضًا في هذه المسألة بل صرَّح أنه أصل عظيم من أصول ضلالهم في دينهم وهناك من شاركهم من أهل الإسلام في هذا الأصل المضل، يقول ابن تيمية (728) رحمه الله: "ومما ينبغي أن يعلم أن سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية كغالية العباد والشيعة وغيرهم ثلاثة أشياء:
أحدها: ألفاظ متشابهة مجملة مشكلة منقولة عن الأنبياء وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها وهم كلما سمعوا لفظا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لم يكن دليلا على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها، وإما أن يتأولوها كما يصنع أهل الضلال، يتبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية ويعدلون عن المحكم الصريح من القسمين.
والثاني: خوارق ظنوها آيات وهي من أحوال الشياطين وهذا مما ضل به كثير من الضلال المشركين وغيرهم، مثل دخول الشياطين في الأصنام وتكليمها للناس، ومثل إخبار الشياطين للكهان بأمور غائبة ولا بد لهم مع ذلك من كذب ومثل تصرفات تقع من الشياطين.
والثالث: أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقا وهي كذب وإلا فليس مع النصارى ولا غيرهم من أهل الضلال على باطلهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح، ولا آية من آيات الأنبياء بل إن تكلموا بمعقول تكلموا بألفاظ متشابهة مجملة. فإذا استفسروا عن معاني تلك الكلمات، وفرق بين حقها وباطلها تبين ما فيها من التلبيس والاشتباه.
وإن تكلموا بمنقول: فإما أن يكون صحيحا لكن لا يدل على باطلهم.
وإما أن يكون غير صحيح ثابت بل مكذوب.
وكذلك ما يذكرونه من خوارق العادات: إما أن يكون صحيحا قد ظهر على يد نبي كمعجزات المسيح ومن قبله كإلياس واليسع وغيرهما من الأنبياء وكمعجزات موسى فهذه حق.
وإما أن تكون قد ظهرت على يد بعض الصالحين كالحواريين وذلك لا يستلزم أن يكونوا معصومين كالأنبياء، فإن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه لا يتصور أن يقولوا على الله إلا الحق ولا يستقر في كلامهم باطل لا عمدا ولا خطأ"([20]).
الخاتمة:
الإصلاح العقدي كان هم السلف والعلماء منذ العهد النبوي وفي شتى العصور؛ والنماذج والأمثلة لذلك كثيرة متواترة متضافرة، ولا محل بعد ذلك لمن لا يولي اهتمامًا بالإصلاح العقدي في نفسه ومجتمعه فضلًا عمن لا يجعل الاعتقاد من أولوياته بل هو منشغل عنه مشتغل بغيره، ولا ندري لعمر الله كيف تحيا قلوب أناس يدعون الإسلام ثم هم يجعلون اعتقادهم في الله وإيمانهم بأركانه كلها أو أجزاء منها في هامش حياتهم بينما هم يزعمون المناضلة والذب عن دين الإسلام ويخوضون ويغوصون في الأفكار والمذاهب والأديان دراسة وبحثًا وتمحيصًا ونقدًا ثم هو لا يولي ما يعتقده في نفسه اهتمامًا، وهذا لعمر الله هو الحرمان، كيف والله سبحانه وتعالى جعل أول الواجبات العلم وصحة الاعتقاد ومنه ينطلق الإنسان إلى العمل فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [محمد: 19]، وهو ما فهم منه أساطين العلم وفطاحلة الإسلام وعباقرة العلماء أولوية المعرفة وأهمية نقاء وصفاء المعتقد؛ ولذا بوب البخاري: "باب: العلم قبل القول والعمل"([21]) .
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.