Loading ...

الانحراف عن المحكمات في الفرق والمذاهب

إعداد الفريق الفني لبرنامج محكمات 

بسم الله الرحمن الرحيم


 لا شك أن صلاح الأمة وعزّتها يعتمد على إيمانها بالعقيدة الصحيحة، وتمسكها بمحكمات الدين وقيامها بأُسُس الشريعة، وعملها بأصولها وأركانها وإقامتها لفرائض الدين، وصيانتها لشعائره. وهذا ما حدث في القرون الأولى في حياة الأمة لمَّا رسخ الإيمان في النفوس، وقام الصحابة والتابعون بحفظ الدين وحياطته من المحدثات؛ حفظ الله الأمَّة من البدع والضلالات، وبالتالي استقام أمرها وقويت مكانتها، وحققت انتصارات واسعة في كافة الميادين.

وظهر هذا جليًّا في القرون الثلاثة الأولى من حياة هذه الأمة الذين شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بخيريتها وفضلها، فقال: "خيرُ النّاسِ قرني، ثمَّ الَّذين يلونُهم، ثمَّ الَّذين يلونهم"([2])، وسبب هذه الشهادة بالخيرية تمسكهم بمحكمات الدين وابتعادهم عن الشبهات والبدع والخرافات؛ فتمسكوا بالعقيدة الصحيحة، وسلكوا الصراط المستقيم ولم يعوجوا أو ينحرفوا عنها لمسالك تخالف الدين؛ لعلمهم بخطورتها على دينهم. وهذا ما حذر منه النبي -صلى الله عليه  وسلم-؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رَسُول اللهِ : النُّجُومُ أمَنَةٌ لِلسَّماءِ، فَإذا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأَنا أمَنَةٌ لأَصْحابِي، فَإذا ذَهَبْتُ أتى أصْحابِي ما يُوعَدُونَ، وأَصْحابِي أمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإذا ذَهَبَ أصْحابِي أتى أُمَّتي ما يُوعَدُونَ"([3]).

 وبعد رحيل جيل الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين-، قام التابعون على الثغر يحرسون حياض دين الأمة ويذودون عن شرائعه كل البدع والمحدثات، ولحقهم على نفس الدرب تابعو التابعين. لكن الأمة ظهر فيها في هذه العصور بعض البدع والمحدثات؛ ولكن كثرت الأهواء، واستحكمت كثير من الانحرافات بعد القرون المفضَّلة، وعندها تردت الأمة وسقطت في مستنقع الهزيمة والتبعية.

وكلما ابتعدت الأمة عن زمان النبوة كثر فيها الضعف والنقص، وابتعدت عما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وأئمة التابعين، قال أنس -رضى الله عنه-: "لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شرٌ منه، حتى تلقوا ربكم؛ سمعته عن نبيكم -صلى الله عليه وسلم-([4]).

وبصفة عامة لم يكن في القرون الأولى المفضَّلة أيّ جدل عقدي، بل أجمع السلف على عقيدة واحدة حتى ظهرت الفتن، وكانت بعض بوادر الانشقاق في شكل سياسي يتبنَّى شذوذات عقدية، وذلك يتمثل في تيار الخوارج، ثم بدأت شقة الانحراف تتسع بظهور المعتزلة والشيعة، ولكن الشيء الجدير بالذكر أن تيار هذه الفرق ظل محدودًا ومقتصرًا على بعض المبتدعة على قلتهم، وبقيت جماهير الأمة على العقيدة السليمة والاتجاه الواحد.

وفي هذا المقال نستعرض نشأة المعتزلة وأبرز انحرافاتها عن محكمات الشريعة.

 

نشأة المعتزلة

مر العالم الإسلامي بمراحل تردّي وانحراف عن الجادة؛ فبعد استقرار الدولة الإسلامية وغلبتها، واتصال المسلمين بالثقافات الأخرى قامت محاولات لوضع الإسلام في أُطُر غريبة عليه؛ فمنهم من حاول أن يعبر عن الإسلام بعقلية حكماء الهند وكُهّانها، ومنهم من حاول تبنّي اتجاهات النصرانية ورهبانها؛ فظهرت طوائف الصوفية المختلفة والباطنية، ومنهم من اتجه إلى الفلسفة اليونانية، فظهر المعتزلة الذين حاولوا أن يؤطّروا الإسلام بالنهج العقلاني البحت والأطر الغريبة، وأصبح فيها العقل والمنطق هو المرجع الأساسي في الفهم، والأخطر من ذلك أنهم نجحوا في إقناع الدولة بتبني هذا المذهب الفاسد كما حصل بتبني الخليفة المأمون النهج المعتزلي بل وإجبار الناس عليه.

وظهر الاعتزال عندما تكلم واصل بن عطاء في مجلس الحسن البصري عن مرتكب الكبيرة، ثم جاء عمرو بن عبيد، ثم النظّام والجبائي والعلاف وغيرهم، حتى تأسس للمعتزلة عقيدة لم تكن من قبل. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في وصف ذلك العصر: "وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرًا شديدًا، ولم يزل الأمر في نقصٍ إلى الآن.. حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان" ([5]).

 

تعريف المعتزلة:

المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي، وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية؛ لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدَّى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.([6])

وقد كان واصل بن عطاء (ت 131هـ) مؤسس مدرسة الاعتزال بليغًا مفوهًا، مكَّنته قدرته اللغوية من التصنيف في مذهبه، فألف عددًا من الكتب منها : كتاب (المنزلة بين المنزلتين)، وكتاب (العدل والتوحيد)، وكتاب (أصناف المرجئة). ([7])

وفي مخالفة صريحة لأصول الشريعة ومصادمة لمحكمات الدين، ابتعد المعتزلة عن أصول مباني الإسلام المتفق عليها، وبنوا لمذهبهم خمسة أصول مبتدعة، وهي التوحيد، والعدل والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأصل الأول هو التوحيد: والمقصود بالتوحيد عندهم أن الله تعالى منزَّه عن الشبيه والمماثل (ليس كمثله شيء) ولا ينازعه أحد في سلطانه ولا يجري عليه شيء مما يجري على الناس. وهذا حق، ولكنهم بنوا عليه نتائج باطلة منها: استحالة رؤية الله تعالى لاقتضاء ذلك نفي الصفات، واستدلوا بقوله تعالى: ] لَن تَرَانِي[ [الأعراف : 143]؛ فجعلوا ] لَن[ لتأبيد النفي، وهذا غير صحيح في هذا الموضع. وهذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضامُّونَ في رُؤْيَتِهِ"([8])، وأن الصفات ليست شيئًا غير الذات، وإلا تعدَّد القدماء في نظرهم، لذلك يعدون من نفاة الصفات، وبنوا على ذلك أيضًا أن القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى؛ لنفيهم عنه سبحانه صفة الكلام، وهذا مخالف لأهل السنة والجماعة الذين يثبتون صفة الكلام صفة ذاتية لله سبحانه وتعالى، هذا باعتبار أصل اتصافه بهذه الصفة، وأما باعتبار أفراد كلامه سبحانه وتعالى فهو صفة فعلية، فإنه سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء، ويكلم من شاء. قال سبحانه في إثبات هذه الصفة: (ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:٨٧] والحديث: كلام، فهذا فيه إثبات صفة الكلام له سبحانه وتعالى، (ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:١٢٢] والقول: الأصل فيه أنه قول كلام وليس قول فؤاد. وقوله: ﴿إذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [المائدة:١١٠] هذا أيضًا فيه إثبات القول له سبحانه وتعالى، ﴿وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلًا﴾ [الأنعام:١١٥]، والكلمة: إنما تكون كلامًا، ﴿وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:١٦٤]، (مِنهُمْ مَن كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:٢٥٣]، ﴿ولَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف:١٤٣]، كل هذا فيه إثبات صفة الكلام له سبحانه وتعالى.

 

الأصل الثاني هو العدل ومعناه عندهم أن الله لا يخلق أفعال العباد، ولا يحب الفساد، بل إن العباد يفعلون ما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركّبها فيهم وأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره، وأنه ولي كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم ما لا يطيقون ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه. وذلك لخلطهم بين إرادة الله تعالى الكونية وإرادته الشرعية.

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك -حفظه الله- عند شرح قول الطحاوي: (ولا يكون إلا ما يريد)؛ قال: فإنه تعالى ﴿فَعّالٌ لِّما يُرِيدُ﴾ [سورة البروج ١٦]، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، وهو رب كل شيء، وهو الخالق لكل شيء، فما شاء الله كونه لا بد أن يكون «إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [النحل ٤٠]، وما لم يشأ لا يكون أبدًا.

إذًا؛ كل ما يجري في الوجود من: حركات الأفلاك، وجريان النجوم، والشمس والقمر، وتقلب الليل والنهار، وأمواج البحار بمشيئة الله، وكل ما يقع من العباد، فما تلفظ ولا تحرك شفتيك إلا بمشيئة الله، ولا تفتح عينك إلا بمشيئة الله ولو شاء الله ما فتحت عينك.

وقوله: (ولا يكون إلا ما يريد) والإرادة هنا هي الإرادة الكونية الشاملة للوجود، ونقول: الإرادة الكونية؛ لأن الإرادة المضافة لله نوعان: إرادة كونية، وإرادة شرعية. ([9])

فمن شواهد الإرادة الكونية: قوله تعالى: «فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أنْ يَهْدِيَهُ»، وقوله: «ومَن يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ» وقوله: «فَعّالٌ لِما يُرِيدُ» وقوله: «وأنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ»، وفي معناه المشيئة «إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» ((يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ)) فالإرادة الكونية بمعنى المشيئة تمامًا.

والإرادة الشرعية من شواهدها: قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ» وقوله تعالى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ» «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» «واللَّهُ يُرِيدُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ». فهذه إرادة شرعية.

والفرق بين الإرادتين من وجهين: الأول: أن الإرادة الكونية: عامة لكل ما يكون لا يخرج عنها شيء، فتشمل ما يحبه الله وما يبغضه الله. فإيمان المؤمنين وطاعة المطيعين، وكفر الكافرين ومعصية العاصين، كل ذلك بإرادته الكونية.

وأما الإرادة الشرعية: فإنها تختص بما يحبه الله سبحانه وتعالى. إذًا؛ الإرادة الكونية عامة، وهذه خاصة. الإرادة الكونية لا تستلزم المحبة، وأما الإرادة الشرعية فإنها تستلزم المحبة.

والفرق الثاني: أن الإرادة الكونية لا يتخلف مرادها أبدا، وأما الإرادة الشرعية: فإنه لا يلزم منها وقوع المراد. وتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمن، فهو مرادٌ لله كونا، ومرادٌ شرعا، فهو مرادٌ بالإرادتين.

وتنفرد الإرادة الكونية في كفر الكافر ومعصية العاصي، فهو مرادٌ بالإرادة الكونية لا الشرعية، إذ ليس ذلك بمحبوب بل مسخوط ومبغوض لله سبحانه.

وتنفرد الإرادة الشرعية في إيمان الكافر الذي لم يقع؛ لأنا نقول: إنه مرادٌ من أبي جهل أن يؤمن بالإرادة الشرعية، لكنه لم يقع. لكن الإرادة الشرعية لا تفسر بالمشيئة، فلا نقول: إن الله شاء الإيمان من أبي جهل، لكن نقول: إن الله أراد منه الإيمان، يعني: الإرادة الشرعية، وأمره بالإيمان الأمر الشرعي([10]).

 

الأصل الثالث الوعد والوعيد: ويعني أن يجازي الله المحسن إحسانًا ويجازي المسيء سوءًا، ولا يغفر لمرتكب الكبيرة إلا أن يتوب. وهذا مخالف لأُصول عقيدة السلف الصالح، أهل السُّنَة والجماعة؛ الذين يؤمنون بنصوص الوعد والوعيد، يؤمنون بها، ويُمِرونها كما جاءت، ولا يتعرضون لها بالتأويل، ويُحَكِّمُونَ نصوص الوعد والوعيد، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء ٤٨]. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تبين أن مرتكب الكبيرة مؤمن ما لم يستحل الكبيرة، منها: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي قال لَنا ونَحْنُ في مَجْلِسٍ: تُبايِعُونِي على أنْ لا تُشْرِكُوا باللهِ شيئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ، ولا تَأْتُوا ببُهْتانٍ تَفْتَرُونَهُ بيْنَ أيْدِيكُمْ وأَرْجُلِكُمْ، ولا تَعْصُوا في مَعروفٍ، فمَن وفى مِنكُم فأجْرُهُ على اللهِ، ومَن أصابَ مِن ذلكَ شيئًا فَعُوقِبَ في الدُّنْيا فَهو كَفّارَةٌ له، ومَن أصابَ مِن ذلكَ شيئًا فَسَتَرَهُ اللهُ فأمْرُهُ إلى اللهِ، إنْ شاءَ عاقَبَهُ، وإنْ شاءَ عَفا عنْه، فَبايَعْناهُ على ذلكَ»([11])، وحديث الرجل الذي قتل مائة نفس؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ على راهِبٍ، فأتاهُ فقالَ: إنّه قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ على رَجُلٍ عالِمٍ، فقالَ: إنّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فاعْبُدِ اللهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنّها أرْضُ سَوْءٍ.." ([12]).

ومما يثبت صحة منهج أهل السنة ومخالفة المعتزلة لمحكمات الشريعة: قول النبي : «أتاني جبريل -عليه السلام- فبشَّرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟، قال: وإن زنى وإن سرق»([13])، فدل هذا على أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة بمشيئة الله، وإن ارتكب بعض الكبائر كالزنا والسرقة مما يدل على أن ارتكاب هذه الكبائر لا يخرج من الإيمان إلى الكفر وإنما ينقص الإيمان، وإذ كان كذلك فلا دلالة في الحديث على ما يزعمونه، والله أعلم.

 

الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين: وتعني أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر فليس بمؤمن ولا كافر، وقد قرر هذا واصل بن عطاء شيخ المعتزلة، وهذا يخالف محكمات الدين في الحكم على مرتكب الكبيرة. وقد ستروا تحت هذا الأصل معنى باطلًا، وهو القول بأن العاصي ومرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، بل يكون في منزلة بين المنزلتين، أي: لا يسمى مؤمنًا ولا يسمى كافرًا، فهو عندهم خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، وشبهتهم في هذا نصوص الوعيد، ومن ذلك الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وفي غيرها، كقول النبي : " لا يَزْنِي الزّانِي حِينَ يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُها وهو مُؤْمِنٌ"([14])؛ فقالوا: هذا نفي للإيمان عنه، فدل على أنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، ومثله حديث: "من حمل علينا السلاح فليس منا"([15])، وحديث: "من غشَّ فليس مني"([16]).. وغير ذلك من نصوص الوعيد التي أخذوها، واستدلوا بها على أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان لكنه لا يدخل في الكفر، فيكون في منزلة بينهما.

ومن أصول المعتزلة الفاسدة في هذا الشأن أيضًا: إنفاذ الوعيد، وستروا تحته معنى باطلًا، وهو القول بخلود العصاة في النار، أي: خلود أهل الكبائر في النار وعدم خروجهم منها أبدًا، واستدلوا بنصوص الوعيد التي فيها الوعيد لبعض العصاة، كقوله تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا إنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء:١٠]، وقوله: ﴿ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:٩٣]، وغير هذه من النصوص، وقالوا: هذه النصوص تدل على أن العصاة يخلدون في النار مثل الكفار! وأنكروا النصوص التي فيها الشفاعة للعصاة وأنهم يخرجون من النار، مع أنها متواترة وفي هذا مخالفة واضحة لمحكمات الشريعة وأصول الدين.

ويرد على المعتزلة في هذين الأصلين بأن الله تعالى أثبت الإيمان لمرتكبي بعض الكبائر؛ فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، ومن الأدلة التي يرد بها على المعتزلة: قول الله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء:٤٨]، فأخبر سبحانه وتعالى أن الشرك غير مغفور، وأن ما دون الشرك فقد علقه الله على مشيئته، والمعاصي والكبائر دون الشرك.

 وبالأحاديث المتواترة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كحديث: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)([17]). كما أن النبي أثبت للعاصي الإيمان، فدلَّ على أنه لم يخرج من الإيمان، بخلاف قولهم بخروجه من الإيمان. ودل الحديث أيضًا على أنهم يخرجون من النار فلا يخلدون فيها، فبطل قولهم بإنفاذ الوعيد وأن العصاة يخلدون في النار.

فهذا الحديث ونحوه رد على أصلهم الثالث والرابع، والنصوص التي فيها إخراج عصاة الموحدين وأهل الكبائر من النار تبلغ حد التواتر، وقد تواترت الأحاديث في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن لنبينا أربع شفاعات، وفي كل شفاعة يحد الله له حدًا مبينًا، وفي بعض الروايات يقول الله له في المرة الأولى: (أخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو حبة خردل من إيمان). وفي المرة الثانية يقول له: (أخرج من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من إيمان). وفي المرة الثالثة يحد الله له حدًا آخر ويقول له: (أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان). وفي المرة الرابعة يقول له: (أخرج من قال: لا إله إلا الله) ([18]).

وثبت أن الملائكة يشفعون، وأن الصالحين يشفعون، وأن الشهداء يشفعون، وأن النبيين يشفعون.

وثبت أنه تبقى بقية ليس لهم شفاعة، فيخرجهم الرب سبحانه وتعالى برحمته بعد شفاعة الملائكة والنبيين، فلم تبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج الرب سبحانه وتعالى أقوامًا من العصاة لم يعملوا خيرًا قط، لكنهم ماتوا على التوحيد.([19])

 

الأصل الخامس من أصول المعتزلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويعنون به إلزام الناس باجتهاداتهم وآرائهم. وهذا الأصل له شقان: الأول: الأمر بالمعروف، وستروا تحته معنى باطلًا، والثاني: النهي عن المنكر، وستروًا تحته معنى باطلًا. فالأمر بالمعروف ستروا تحته القول بإلزام الناس بآرائهم واجتهاداتهم التي وصلوا إليها، ولهذا لما كانت لهم الدولة في خلافة المأمون وكان رئيس القضاة من المعتزلة -وهو أحمد بن أبي دؤواد- ألزموا الناس بالقول بخلق القرآن، وامتحن الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنهم يعتقدون هذا الأصل، وهو الأمر بالمعروف، وألزموا الناس بالقول بخلق القرآن وفتنوهم، ولذا امتحن الإمام أحمد رحمه الله، وضرب وسجن مرات، وثبت كالجبال الرواسي.

واحتج المعتزلة لخلق القرآن بقوله تعالى: ] اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [ [الزمر 62]، والمراد خالق كل شيء مخلوق وإلا فقد أجيب عليهم بقوله تعالى: ] قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [ [الأنعام 119] فهل يقولون أن الله مخلوق؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. والواجب في ذلك كله وما ماثله من المتشابه أن يرد إلى المحكم ليعرف من معناه، وهذا ما عليه العلماء والراسخون في العلم الناهجون نهج أهل السنة والجماعة.

قال الشيخ عبد العزيز الراجحي: "يرد على المعتزلة بأن الاجتهادات والآراء لا يلزم بها الناس، وإنما يلزم الناس بالنصوص الشرعية، أما الاجتهادات والأفهام فلا يلزمون بها، فالمجتهد لا يلزم غيره، فإذا اجتهد عالم في فهم النصوص الشرعية فإنه يعبد الله بما وصل إليه باجتهاده، لكن ليس له أن يلزم غيره، فلا يلزم الناس بالاجتهادات، وإنما يلزمون بالنصوص، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي قال: يَومَ الأحْزابِ: لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلّا في بَنِي قُرَيْظَةَ فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتّى نَأْتِيَها، وقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ للنبيِّ فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ"([20])، فالنبي أقر كلتا الطائفتين، ولم يعنف هؤلاء ولا هؤلاء؛ لأن كلتا الطائفتين اجتهدت.. فالنبي ما عنف أحدًا من الفريقين، فدل على أن الأمور الاجتهادية النظرية التي يشتبه أمرها لا يلزم بها الناس، فهذا فيه رد على المعتزلة في إلزامهم الناس باجتهاداتهم الباطلة، ويسمونه الأمر بالمعروف.([21])

 

ضلال المعتزلة في باب أسماء الله وصفاته

ومن صور انحراف المعتزلة عن محكمات الشريعة: تأويلهم صفات الله تعالى بما يلائم عقولهم الكلية، كصفات الاستواء واليد والعين وكذلك صفات المحبة والرضى والغضب والسخط ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل الصفات لا أكثرها. وهذا يخالف محكمات الشريعة في إثبات الصفات وإمرارها.

إن المعتزلة فرقة ضالة منحرفة خالفت أهل السنة في جملة من أصول الاعتقاد، منها مسألة الصفات، فهم معطة نفاة، لا يثبتون لله تعالى الصفات الذاتية من العلم وغيره، ويقولون: إنه عالم بلا علم، أو عالم بعلم هو ذاته، وقادر بقدرة هي ذاته،  لأنه لو اتصف بالصفات، للزم من ذلك –بزعمهم- : مماثلة الله جل وعلا في القدم، ولزم تعدد القدماء. قال أبو الحسين الخياط المعتزلي: "إن الله تعالى لو كان عالمًا بعلم، فإما أن يكون ذلك العلم قديما، أو يكون محدثا، ولا يمكن أن يكون قديما، لأن هذا يوجب وجود اثنين قديمين، وهو تعدد، وهو قول فاسد" ([22]).

وقال القاضي عبد الجبار المعتزلي: "والأصل في ذلك: أنه تعالى لو كان يستحق هذه الصفات لمعان قديمة، وقد ثبت أن القديم إنما يخالف مخالفَه بكونه قديما، وثبت أن الصفة التي تقع بها المخالفة عند الافتراق، بها تقع المماثلة عند الاتفاق، وذلك يوجب أن تكون هذه المعاني مثلا لله تعالى، حتى إذا كان القديم تعالى عالمًا لذاته، قادرًا لذاته، وجب في هذه المعاني مثله، ولوجب أن يكون الله تعالى مثلا لهذه المعاني، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا"([23]).

قال الشهرستاني رحمه الله في بيان معتقد المعتزلة في الصفات: "والذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد: القول بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف ذاته. ونفوا الصفات القديمة أصلاً، فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته؛ لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة، ومعان قائمة به؛ لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف، لشاركته في الإلهية"([24]).

وهذا ضلال وهذيان، فإن الصفة تقوم بالموصوف، وليست قائمة بنفسها، وأي محذور أن تقوم الصفة القديمة به، وأن تكون مماثلة له في القدم؟! فالصفة تابعة للموصوف، فصفة القديم قديمة، وصفة المحدَث محدَثة. والتعدد الفاسد هو أن يكون شيء قائم بنفسه، وهو مع ذلك قديم، غيرُ الله، فهذه المماثلة منفية بالشرع والعقل. ثم إن المعتزلة منهم من قال: هو عالم بذاته بلا علم، ومنهم من قال: هو عالم بعلم هو ذاته.

قال الشهرستاني في بيان الفرق بين القولين: " والفرق بين قول القائل: عالم بذاته لا بعلم، وبين قول القائل: عالم بعلم هو ذاته: أن الأول نفي الصفة، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة، أو إثبات صفة هي بعينها ذات. وإذا أثبت أبو الهذيل هذه الصفات وجوها للذات؛ فهي بعينها أقانيم النصارى، أو أحوال أبي هاشم"([25]).

قال الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي: "ومَذْهَبُ السلف في هذه المسألة: هو الإيمانُ بكل ما ورَدَ في كتاب الله وناطِقِ السنة من الأسماء والصفات من غير زيادة عليها، ولا نُقصانٍ منها، ولا تجاوُزٍ لها، ولا تأويلٍ لها بما يُخالِفُ ظاهرها، وقدِ انقضى عَصْرُ الصحابة والتابعين من السلف والأئمة على التسليم المُطْلَقِ بما جاءَ في الكتاب والسنة عن الذاتِ الإلهية وصفاتها، ولم يتنازَعُوا في مسألةٍ واحدةٍ من مسائل الأسماءِ والأفعالِ، بل كلُّهم على إثبات ما نَطَقَ به الكتابُ والسنة، كَلِمَتُهم واحدةٌ من أولِهم إلى آخرهم، لم يَسُومُوها تأويلًا، ولم يُحَرِّفوها عن مواضعها تبديلًا.

وهم يعتقدون أن أسماء الله تعالى وصفاته تَوقيفيَّةٌ، لا يجوزُ إطلاقُ شيءٍ منها على الله في الإثبات أو النَّفي إلا بإذنِ الشرع، فلا يُثْبتونَ له سبحانه من الأسماء والصفات إلا ما أثبَتَهُ هو لنفسه، أو أثبَتَه له رسولُه ، وأنّ كل ما ثبتَ له من الأسماء والصفات لا يماثِل شيئًا من خلقه، ولا يُماثلُه شيءٌ، بل كل ما ثبتَ له من صفات الكمال التي وردَت في النصوص الصريحة، فهو مُختص به لا يَشْرَكُهُ فيه أحدٌ من خلقه، وإذا كان هناك من الأسماء ما يُطْلَقُ على صفاتِ الله كما يُطْلَقُ على صفات خَلْقه، فإن هذا ليس إلا مَحْضَ اشتراكٍ في الاسم والمعنى العام، فلا يَلْزَمُ من اتفاقِهما في مسمّى الصفة ومعناها العام اتفاقُهما في حقيقة الصفة، فإذا كانت ذاتُه سبحانه لا تُماثِلُ الذوات، فكذلك صفاتُه لا تماثِلُ الصفاتِ، لأنه سبحانه لا تُضْرَب له الأمثالُ بخَلقِه لا في ذاته، ولا في صفاته.

ولم يَقُلْ أحدٌ منهم: إن آيات الصفات لا يَعْلَمُ معناها إلا الله، بدليل أنهم كانوا يثبتون لله ما تضمنته من صفات، ولو كان معنى الآيات والأحاديث غير مفهوم لهم ألبَتَّة، لما صَحَّ منهم الإثباتُ، إذ كيف يثبتَون شيئًا لا يُعْقَل معناه، غايةُ الأمر أنهم لم يكونوا يبحثُون وراءَ هذه الظواهر عن كُنْهِ هذه الصفات، أو عن كيفية قيامِها بذاته تعالى، لأنّ معرفةَ ذلك فوقَ مستوى العقل البشري، وهو من الغيب الذي استأثَر الله بعلمِه، فهو سبحانه أجلُّ من أن يُدرَكَ كُنْهُ ذاته وصفاته، أو يحاطَ بها علمًا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى ١١]"([26]).

 

اعتماد المعتزلة على العقل في مخالفة لمحكمات الشريعة

ومن صور انحراف المعتزلة عن محكمات الشريعة: الاعتماد على العقل كليًّا في الاستدلال لعقائدهم وكان من آثار اعتمادهم على العقل في معرفة حقائق الأشياء وإدراك العقائد، أنهم كانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلًا فقالوا كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني: " المعارف كلها معقولة بالفعل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع أي قبل إرسال الرسل، والحسن والقبيح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح"([27]).

ولاعتمادهم على العقل أيضًا، طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنّعوا عليهم ورموهم بالكذب، فقد زعم واصل بن عطاء: أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة، إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري أو طائفة عائشة والزبير، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا: لا تقبل شهادتهم. وهذا مخالف لمحكمات الشريعة، وأن الصحابة كلهم عدول، وأنهم اجتهدوا ومنهم من أصاب ومنهم من أخطأ وكلهم يبتغي الحق ويحرص عليه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ، فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ، فَلَهُ أجْرٌ"([28]).

وإن من أسباب اختلاف المعتزلة فيما بينهم وتعدد طوائفهم هو اعتمادهم على العقل فقط وإعراضهم عن النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة، ورفضهم الإتباع بدون بحث واستقصاء وقاعدتهم التي يستندون إليها في ذلك: "كل مكلف مطالب بما يؤديه إليه اجتهاده في أصول الدين". وكان تحكيم العقل في القضايا الشرعية وتعريب كتب الفلسفة من أسباب ظهور البدع في المجتمع المسلم؛ إذ كان المعتزلة قد ضخموا دور العقل في القديم، وكذلك القدرية والجهمية والمرجئة، فقد ضلوا من قبل لتحكيمهم العقل في أمور العقيدة، وعدم قبول أي حديث يخالف ما تقرر في أذهانهم بحكم العقل أو تأويلهم له، فأدى ذلك بهم إلى رد كثير من الأحاديث الصحيحة والطعن في رواتها([29]).

 وقد فنَّد علماء الإسلام آراء المعتزلة في عصرهم، فمنهم أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم، ثم خرج من فرقتهم ورد عليهم متبعًا أسلوبهم في الجدال والحوار.. ثم جاء الإمام أحمد بن حنبل الذي اكتوى بنار فتنتهم المتعلقة بخلق القرآن ووقف في وجه هذه الفتنة بحزم وشجاعة نادرتين.

 وممن قام بالرد على انحراف المعتزلة في العقل: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عليهم في كتابه القيم: درء تعارض العقل والنقل فقد تتبع آراءهم وأفكارهم ورد عليها ردًّا مفحمًا.. وبين أن صريح العقل لا يكمن أن يكون مخالفًا لصحيح النقل. مؤكدًا أن الإسلام أعلى من شأن العقل، ورفع مكانته، وخاطبه بالتكاليف الشرعية، وجعله مناطا لها، وأمر بالتفكر والتذكر، وأثنى على أهله، كما قال سبحانه: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) البقرة/269، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الرعد/19، وقال تعالى: (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) إبراهيم/52، وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص/29، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر/18.

قال الشاطبي رحمه الله: "مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعًا بالاستقراء التام؛ حتى إذا فُقِدَ : ارتفع التكليف رأسًا، وعد فاقده كالبهيمة المهملة"([30]).

ودور العقل هو التفكر في النصوص، وتدبر الوحي المعصوم، لا التحكم في النصوص، ولا محاكمتها. وهذا من وسطية الإسلام، فلا هو يلغي العقل، كما تفعل الصوفية وأشبهاهها، ولا يجعله حكما على الوحي، كما تفعل المعتزلة.

وإن ضلال المعتزلة إنما كان بمبالغتهم في تعظيم العقل، حتى قدموه على نصوص الشرع، وأدخلوه فيما ليس في حدوده، ولا في طوقه، ولا هو تحت سلطانه، من التحكم في أمور الغيب، والقضاء فيها بمجرد النظر العقلي.

وعامة أصول المعتزلة التي انحرفوا فيها عن منهج الكتاب والسنة، كان رائدهم فيها هو ما ظنوه معقولا، كنفي الصفات، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، وإنكار خلق أفعال العباد، ونفي رؤية الله في الآخرة، والزعم بأن القرآن مخلوق، وغير ذلك من ضلالاتهم، ولهذا أعرض أهل السنة والجماعة عنهم، وعلموا قبح معارضة الوحي بالأقيسة والخيالات التي يظن أصحابها أنها معقولات، وإلا فالعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، ولا تأتي الشريعة بشيء من محالات العقول، لكن قد تأتي بما تحار فيه العقول.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره كله حق يصدق بعضه بعضا، وهو موافق لفطرة الخلائق، وما جعل فيهم من العقول الصريحة، والقصود الصحيحة، لا يخالف العقل الصريح، ولا القصد الصحيح، ولا الفطرة المستقيمة، ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما يظن تعارضها: من صدق بباطل من النقول، أو فهم منه ما لم يدل عليه، أو اعتقد شيئا ظنه من العقليات وهو من الجهليات، أو من الكشوفات وهو من الكسوفات، إن كان ذلك معارضا لمنقول صحيح، وإلا عارض بالعقل الصريح، أو الكشف الصحيح، ما يظنه منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون كذبا عليه، أو ما يظنه لفظا دالا على شيء، ولا يكون دالا عليه"([31]).

وقال أيضا: " ما خالف العقل الصريح فهو باطلٌ. وليس في الكتاب والسنَّةِ والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعضُ النَّاس، أو يفهمون منها معنى باطلًا، فالآفةُ منهم، لا من الكتاب والسُّنَّة"([32]).

وقال ابن القيم رحمه الله: "الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته، بل أخبارهم قسمان: أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر. الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر وتفاصيل الثواب والعقاب، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا، وكل خبر يظن أن العقل يحيله، فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون الخبر كذبا عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسدًا، وهو شبهة خيالية، يظن صاحبها أنها معقول صريح"([33]).

 

 

الجذور الفكرية والعقائدية للمعتزلة:

من أهم أسباب انحراف المعتزلة ابتعادهم عن المصادر الشرعية في تلقي محكمات الدين، والاعتماد على العقل، وعدم تلقي أحكام الدين بمنهج أهل السنة والجماعة، فاستقى الفكر المعتزلي نفي الصفات من أصول يهودية فلسفية؛ فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي.

وقيل: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية ـ وهي فرقة هندية تؤمن بالتناسخ قد أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات.

وإن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تعد موردًا من موارد الفكر الاعتزالي؛ إذ إنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية حرية الإرادة الإنسانية.

ونفي القدر عند المعتزلة الذي ظهر على يد الجهني وغيلان الدمشقي، قيل إنهما أخذاه عن نصراني يدعى أبو يونس سنسويه، وقد أخذ عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء فكرة نفي القدر عن معبد الجهني.

تأثر المعتزلة بفلاسفة اليونان في موضوع الذات والصفات، فمن ذلك قول أنبادقليس الفيلسوف اليوناني: "إن الباري تعالى لم يزل هويته فقط وهو العلم المحض وهو الإرادة المحضة وهو الجود والعزة، والقدرة والعدل والخير والحق، لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء بل هي هو، وهو هذه كلها"([34]).

 

نخلص مما سبق إلى أن حركة المعتزلة كانت نتيجة لتفاعل بعض المفكرين المسلمين في العصور الإسلامية مع الفلسفات السائدة في المجتمعات التي اتصل بها المسلمون. وكانت هذه الحركة نوع من ردة الفعل التي حاولت أن تعرض الإسلام وتصوغ مقولاته العقائدية والفكرية بنفس الأفكار والمناهج الوافدة وذلك دفاعًا عن الإسلام ضد ملاحدة تلك الحضارات بالأسلوب الذي يفهمونه. ولكن هذا التوجه قاد إلى مخالفات كثيرة وتجاوزات مرفوضة كما فعل المعتزلة في إنكار الصفات الإلهية تنزيهًا لله سبحانه عن مشابهة المخلوقين. ([35])

ومن الواضح أيضًا أن أتباع المعتزلة الجدد وقعوا فيما وقع فيه أسلافهم، وذلك أن ما يعرضون الآن من اجتهادات إنما الهدف منها أن يظهر الإسلام بالمظهر المقبول عند أتباع الحضارة الغربية والدفاع عن نظامه العام قولًا بأنه إنْ لم يكن أحسن من معطيات الحضارة الغربية فهو ليس بأقل منها.

ولذا فلا بد أن يتعلم الخلف من أخطاء سلفهم ويعلموا أن عزة الإسلام وظهوره على الدين كله هي في تميز منهجه وتفرد شريعته واعتباره المرجع الذي تقاس عليه الفلسفات والحضارات في الإطار الذي يمثله الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح في شمولهما وكمالهما.

 

 

________________________

ومن الكتب في الرد على ضلالات المعتزلة

1- "الإبانة لأبي الحسن الأشعري" (المتوفى: 324هـ).

2-"الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار"، ليحيى بن أبي الخير العمراني (المتوفى: 558هـ).

3- "مرهم العلل المعضلة في الرد على أئمة المعتزلة"، لعفيف الدين عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي (المتوفى: 768هـ).

 4-"المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها"، لعواد بن عبد الله المعتق.



[1]- مدقق لغوي وباحث شرعي: Omarez1973@hotmail.com

[2]-  أخرجه البخاري (٢٦٥٢)، ومسلم (٢٥٣٣).  

[3]-  أخرجه مسلم (٢٥٣1).  

[4]-  أخرجه البخاري (7068).  

[5]-  فتح الباري، ج7، ص6.

[6]-  انظر الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/ 216-219.

[7]-  الذهبي : سير أعلام النبلاء، 5/ 465 . فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي، 4 / 19.

[8]-  أخرجه البخاري (554).

[9]-  مجموع الفتاوى ٨/ ١٨٨، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ١١/ ٢٦٦، وشفاء العليل ص ٢٨٠.

[10]-  شرح العقيدة الطحاوية للبراك ١/‏٤٢.

[11]- أخرجه البخاري (7213).

[12]- أخرجه مسلم (2766).

[13]- أخرجه البخاري (١٢٣٧)، ومسلم (٩٤).

[14]- أخرجه مسلم (57).

[15]- أخرجه البخاري (٦٨٧٤)، ومسلم (٩٨).

[16]- أخرجه مسلم (102).

[17]- أخرجه مسلم (2940).

[18]- أخرجه البخاري (٧٥١٠)، ومسلم (١٩٣).

[19]- دروس في العقيدة، عبد العزيز الراجحي، ٤/‏١٧.

[20]- أخرجه البخاري (4119).

[21]- دروس في العقيدة (4/20).

[22]- الانتصار: ص82.

[23]- شرح الأصول الخمسة، ص 195.

[24]- الملل والنحل (1/ 43).

[25]- الملل والنحل (1/ 50).

[26]- مجمل اعتقاد أئمة السلف، عبد الله بن عبد المحسن التركي، ١/‏١٣٦.

[27]- الملل والنحل ١/‏٤٣.

[28]- أخرجه البخاري (7352).

[29]- انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: اللالكائي 1 / 41.

[30]- الموافقات (3/209).

[31]- الرسالة العرشية (ص: 35).

[32]- مجموع الفتاوى (11/ 490).

[33]- الروح (ص 62).

[34]- الملل والنحل ج 2/ ص58.

[35]- المعتزلة، إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي، موقع صيد الفوائد، http://www.saaid.net/feraq/mthahb/3.htm


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Ar

Arrorplig

منذ 10 أشهر

<a href=https://viagr.mom>best female viagra</a> In stellate ganglion block, anesthetic is injected under ultrasonographic or fluoroscopic guidance into the stellate ganglion at the C6 or C7 vertebral level, targeting the sympathetic nerve chain that runs anterior to the transverse processes of the seventh cervical vertebra and the neck of the first rib

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...