الانحراف عن المحكمات في الفرق والمذاهب (الباطنية)

                                                       إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات 

                                                                       بسم الله الرحمن الرحيم 

تمهيد

أمر الله بالتمسك بمحكمات الدين والرجوع إليها، ووصف من يتبع المتشابهات -غير المحكمات- بأنه في قلبه زيغ فقال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"([1]).

والمسلم العاقل المتبع للكتاب والسنَّة لا يتبع الشبهات وإنما يُرجعها إلى المحكمات، فباتباع المحكمات ينضبط الدين والدنيا، يقول ابن كثير (ت: 774هـ): "فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى. ومن عكس انعكس"([2])

وقد جاء الشارع بالمحكمات في الدين كله، فالمحكمات هي الأكثر والأوضح ولذا لا يجوز الخلاف فيها ولا اتباع غيرها، يقول الشافعي رحمه الله (ت: 204هـ): "كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصا بينا: لم يحل الاختلاف فيه لمن علم"([3]).

فواجب على كل المسلمين أن يعودوا إلى المحكمات ويحكِّموها في كل شؤون حياتهم، ويردُّوا إليها المتشابه حتى يكون الدين وفق مراد الله سبحانه وتعالى لا وفق أهوائنا.

والخروج عن المحكمات هو خروجٌ إلى الضَّلال والابتعاد عن الحق، بل خروج إلى متاهات الشكِّ الريبة والتعدُّدية التي لا تنضبط، والنسبيَّة التي يجعل الناس على أديان متعددة لا على دين إسلامي واحد.

ومن يتتبع الفكر الإسلامي على مرِّ التَّاريخ يجد أنَّ أهل الأهواء والبدع ما زلُّوا وضلُّوا إلا لتركهم للمحكمات وتمسكهم بالمشتبهات، فتراهم يتركون الأصول الشرعية الواضحة في التلقي والاستدلال وطريق التعبُّد ويتمسكون بقواعد عقلية مختلف فيها، أو بأهواء نفسية، أو أذواق شخصية، أو كشوفات غيبية وهمية لا تنضبط.

 

 

الباطنية والمحكمات

فرقة الباطنيَّة هي إحدى الفرق المبتدعة التي أمعنت في الضلال والبدعة، وقد أسَّسها جماعة منهم: ميمون بن ديصان المعروف بالقداح، وزعم انتسابه إلى آل البيت، وقد ظهرت في التاريخ الإسلامي ومارست الكثير من العداء ضد المسلمين، وليس الغرض هنا بيان عقائد الباطنية ولا تاريخها([4]) لكن نبين أن الباطنية كان انصرافهم عن المحكمات واحدًا من أبرز الأخطاء التي جعلتهم يقدمون هذه العقيدة المخالفة للكتاب والسنة، ويقعون في أخطاء تنافي الدين الإسلامي وليس فقط بعض تشريعاته.

الانحراف في تلقِّي الدين

أول منهج عند أهل السنة والجماعة في تلقِّي الدين هو: الاعتماد على الكتاب والسنة، فلا يثبتون عقيدة ولا حكمًا شرعيًّا إلا بدليل شرعيٍّ من الكتاب والسنة والإجماع المستند إليهما، ولذلك لم يختلف الصحابة الكرام ولا من تبعهم بإحسان في أصول الدين، فقد أخذوا كل شيء عن الله ورسوله، وقد بيَّن القرآن وبينت السنة جميع ما يحتاجه الإنسان في دينه؛ خاصة العقيدة، فإن العقيدة رأس مال الإنسان، ومحال أن لا يعطيه الدين الإسلامي حقها، بل ثبت في الكتاب والسنة كل ما يجب على المسلم اعتقاده، يقول ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ): "ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين - وإن دقت - أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب. بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام ثم إذا كان قد وقع ذلك منه: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه. ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق. وكلاهما ممتنع"([5]).

فالرجوع إلى الكتاب والسنة والاعتماد عليهما محكم من محكمات الدين لا يسع أحدًا الخروج عنها، ومن خرج عنها فقد وقع في البدعة والضلال كما نرى من المتكلمين الذين خرجوا إلى مقدمات عقلية سموها براهين، ومن الصوفية الذين قدموا الكشف والذوق، فمبدأ انحراف الفرق هو: انحرافهم عن هذا المحكم العظيم.

المعصوم عند الباطنية

الأمر نفسه مع الباطنية فإنَّ مصدر تلقي الدين عندهم ليس هو الكتاب والسنة والإجماع، وإنما المعصوم الذي ادعوا فيه العصمة ثم أخذوا منه كل الدين ودعوا الناس إلى تقليده والأخذ عنه.

فمذهب الباطنية هو وجوب الأخذ بكلِّ ما يقوله المعصوم، ولا سبيل عندهم إلى معرفة الدين إلا من خلال التعلم منه، يقول أحمد الكرماني: "إنَّ الحاجة إلى الإمام إنما كانت لأن يكون قائمًا مقام الرسول فيما كان يتعلق به من أمر الدين وحفظ نظامه، ولمَّا كانت الحاجة إلى القائم مقام الرسول لذلك وكان لو جاز أن يكون غير معصوم لا يقع من أن يسلك بالأمَّة غير سبيل النبي في بعض أحكامه أو كلها، وكان ذلك مؤديًا إلى الظلم وحمل الناس على شقِّ العصا، ومفارقة الجماعة؛ وجب أن يكون معصومًا، فتكون عصمته سبب ائتلاف الجماعة"([6]).

            والإمام عندهم ليس معصومًا فحسب، بل أضفوا إليهم الألوهية! يقول شهاب الدين أبي فراس: "واعلم بأنَّ الإمام الموجود للأنام لا يخلو منه مكان، ولا يحوزه مكان؛ لأنَّه إلهي الذات، سرمدي الحياة، ولو لم يتأنس بالحدود والصفات لما كان للخلق إلى معرفته وصول"([7])، ويقول مصطفى غالب: "إنَّ الإمام هو أداة الباري من حيث الوحدة الحقيقية إذ كان مجردًا عن الجسم، فإذا ظهر الإمام بصورة الجسم كان اسم من أسماء الله وصفة من صفاته، وإذا اتحدت صفاته العليا كان هو الله في الحقيقة"([8])، وبناء عليه فكل ما يقوله الإمام يجب الأخذ به ولا يجوز غير ذلك.

والقول بوجود المعصوم ووجوب الأخذ عنه هو أهم ما في عقيدتهم، يقول الغزالي (ت: 505هـ): "أما الجملة فهو أنَّه مذهب ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض، ومفتتحه: حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم وعزل العقول عن أن تكون مدركة للحق لما يعتريها من الشبهات ويتطرق إلى النظار من الاختلافات، وإيجاب لطلب الحق بطريق التعليم والتعلم، وحكم بأن المعلم المعصوم هو المستبصر وأنه مطلع من جهة الله على جميع أسرار الشرائع، يهدي إلى الحق، ويكشف عن المشكلات، وأن كل زمان فلا بد فيه من إمام معصوم يرجع إليه فيما يستبهم من أمور الدين"([9]).

وهذا الأمر قد أوقعهم في ضلالات كبيرة من أهمها:

1/ أنهم تركوا الاعتماد على الكتاب والسنة مع وجوب الأخذ بهما ودلالة القرآن والسنة على ذلك.

والقرآن الكريم يقرر بأن الوصول إلى الحق محصور بطريق الأنبياء عليهم السلام، والقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة بجلاء ووضوح، يقول الله تبارك وتعالى:

{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]

ويقول تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 165]

ويقول تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]

فالوصول إلى الله عبر الرسل، وحين كانوا هم المبلغين عن الله دينه وشريعته كانوا معصومين، ولذلك ذكر أهل العلم أن ادعاء العصمة لغير الأنبياء فيه تشبيه لهم بالأنبياء فهي خصيصة من خصائص الأنبياء.

يقول ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ): "ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة. فإن المعصوم يجب اتباعه في كل ما يقول، لا يجوز أن يخالف في شيء، وهذه خاصة الأنبياء، ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم فقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 136] فأمرنا أن نقول: آمنا بما أوتي النبيون، وقال تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به، وهذا ممَّا اتفق عليه المسلمون: أنه يجب الإيمان بكل نبي، ومن كفر بنبي واحد فهو كافر، ومن سبه وجب قتله باتفاق العلماء. وليس كذلك من سوى الأنبياء، سواء سموا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك، فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة، وإن لم يعطه لفظها"([10]).

ومن ضلالاتهم المتعلقة بهذا الأمر: أنهم اعتمدوا مصدرا للدين لم يرد دليل من الكتاب والسنة على وجوب الاعتماد عليه، فلا يوجد دليل في الكتاب والسنة على عصمة أئمتهم، بل أجمع أهل السنة والجماعة على أن العصمة لا تكون لغير الأنبياء، يقول ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ) وهو يبين أنه لا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم: "والأولياء وإن كان فيهم محدثون...فالمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإنه ليس بمعصوم كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام... وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة؛ فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه وربما قال القول: فترد عليه امرأة من المسلمين قوله وتبين له الحق فيرجع إليها ويدع قوله كما قدر الصداق وربما يرى رأيا فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعمل به ويدع رأيه وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة وكان يقول القول فيقال له: أصبت فيقول والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه؟ فإذا كان هذا إمام المحدثين فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر فليس فيهم معصوم بل الخطأ يجوز عليهم كلهم، وإن كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع.

ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس: يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا متفاضلين في الهدى والنور والإصابة...وبهذا صار جمع الأولياء مفتقرين إلى الكتاب والسنة لا بد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول فما وافق آثار الرسول فهو الحق وما خالف ذلك فهو باطل وإن كانوا مجتهدين فيه"([11]).

الباطنية وظواهر النصوص:

من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يفهمون النصوص الشرعية بمقتضى الخطاب العربي، فالشرع إنما جاء بنصوصه المعصومة باللغة العربية فوجب فهمها على ما تدل عليه اللغة، فتُجرى النصوص على ظاهرها، فكل ما ورد في الكتاب والسنة من عقيدة تتعلق بالله أو بالرسل أو باليوم الآخر أو غير ذلك فهو على ظاهره، يقول الشافعي (ت: 204هـ): "والقرآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه أو سنة أو إجماع بأنه على باطن دون ظاهر"([12]).

فمنهج أهل السنة منهج واضح، مبني على هذا المحكم العظيم، وهو: أن الله سبحانه وتعالى أراد هداية الناس فأرسل الرسول بهذه النصوص الواضحة البينة، وبين أنه أنزل القرآن بلسان عربي مبين كما قال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء: 193 - 195]، وقد كان هذا منهج الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان فقد أجروا النصوص على ظاهره دون تأويل، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): "ولم يكن أحد منهم يعتقد في خبره وأمره ما يناقض ظاهر ما بينه لهم ودلهم عليه وأرشدهم إليه ولهذا لم يكن في الصحابة من تأول شيئا من نصوصه أي النبي صلى الله عليه وسلم فيم جاء به من كتاب وسنة على خلاف ما دل عليه لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته ولا فيما أخبر به عما بعد الموت"([13]).

أما الباطنية فقد تركوا هذا المحكم، وكان هذا واحدا من أكبر أسباب ضلالهم وتفريقهم للأمة وخروجهم عليها، وانزوائهم عنها؛ فإن صرف النصوص عن ظواهرها واحد من أكبر أسباب الافتراق في الأمة يقول ابن أبي العز (ت: 792هـ): "وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية. فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين رضي الله عنه، والحرة؟ وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد؟!"([14]).

            ومن مظاهر ذلك عند الباطنية: أنهم جعلوا لكل شيءٍ باطنًا وظاهرًا، وجعلوا الظاهر للعامة من الناس، والباطن لهم ولأتباعهم، وهذا الرجوع إلى الباطن دون أي قاعدة أو دليل من الكتاب والسنة أداهم إلى تأويل كل محكمات الدين بدءًا باعتقادهم عن الله سبحانه وتعالى ثم النبوات وادعائهم اكتسابها، ثم اليوم الآخر وما يقع فيه، إلى تأويل كل أحكام الدين من صلاة وزكاة وصيام وحج، يقول غزالي (ت: 505هـ): "ولكل لقب سبب، أما الباطنية فإنما لقبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجرى في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة، وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها مسارعا إلى الاغترار كان تحت الأواصر والأغلال معنى بالأوزار والأثقال، وأرادوا بالأغلال: التكليفات الشرعية؛ فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحطَّ عنه التكليف واستراح من أعبائه، وهم المرادون بقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] الآية، وربما موهوا بالاستشهاد عليه بقولهم إن الجهال المنكرين للباطن هم الذين أريدوا بقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وغرضهم الأقصى: إبطال الشرائع؛ فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر قدروا على الحكم بدعوى الباطن على حسب ما يوجب الانسلاخ عن قواعد الدين إذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى للشرع عصام يرجع إليه ويعول عليه"([15]).

ومن مظاهر ابتعادهم عن ظواهر النصوص: خطؤهم الظاهر في اعتقادهم في الله وفي الأنبياء وفي اليوم الآخر:

-      أما اعتقادهم في الله: فإن كثيرا منهم يعتقدون بإلهين، أو بآلهة عديدة، يقول الغزالي: "الطرف الأول في معتقدهم في الإلهيات، وقد اتفقت أقاويل نقلة المقالات من غير تردد أنهم قائلون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني، واسم العلة: السابق، واسم المعلول: التالي، وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه، وقد يسمى الأول عقلا والثاني نفسا، ويزعمون أن الأول هو التام بالفعل والثاني بالإضافة إليه ناقص لأنه معلوله، وربما لبسوا على العوام مستدلين بآيات من القرآن عليه كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9]، و{نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف: 32]، وزعموا أن هذه إشارة إلى جمع لا يصدر عن واحد، ولذلك قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]إشارة الى السابق من الإلهين فإنه الأعلى، ولولا أن معه إلها آخر له العلو أيضا لما انتظم إطلاق الأعلى"([16]).

-      أما النبوات: فقد ادعوا في النبي أنه شخص فاضت عليه من السابق بواسطة التالي قوة قدسية، وقد يقع ذلك للأئمة ولذلك يجب الأخذ بأقوالهم([17]).

-      وأما اعتقادهم في اليوم الآخر: فقد أنكروا اليوم الآخر وأولوا يوم القيامة الوارد في الكتاب والسنة، وادعوا أنها رموز لخروج الإمام  كما أنكروا بعث الأجسام والجنة والنار، وادعوا أن المعاد هو عود كل شيء إلى أصله([18]).

أخيرا:

ضلالات الباطنية كثيرة، وأكبر سبب لضلالهم واعتقاداتهم الضالة هو الابتعاد عن محكمات الدين من وجوب الأخذ بالكتاب والسنة والاعتماد عليهما في التلقي والاستدلال، وفهم النصوص حسب ما أراد الشرع لا حسب ما يدعونه ويتوهمونه، لذلك كان من منهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يقدمون رأيا ولا قياسًا ولا كشفا على كلام الله ورسوله، يقول الشافعي (ت: 204هـ): "فيسقط كل شيء خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقوم معه رأي ولا قياس فإن الله عز وجل قطع العذر بقوله صلى الله عليه وسلم"([19])، كما أنهم لا يخترعون مقالة أو دليلا من عند أنفسهم ثم يجعلونها مما يلزم اعتقاده، أو الاعتقاد بموجبه كما فعلته الباطنية بالمعصوم، كما أن أهل السنة لا: "ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه. وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف؛ فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة أثبتوه؛ وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة أبطلوه"([20]).

والتمسك بهذه المحكمات هو الذي يجعل المسلمين على دين واحد لا يتفرقون ولا يختلفون في أصوله، والخروج عنها خروج إلى البدعة والضلال كما مرَّ بنا.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 



([1]) أخرجه البخاري برقم (4547)

([2]) تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 6).

([3]) الرسالة للشافعي (1/ 560)

([4]) ينظر: الفرق بين الفرق (ص: 266)

([5]) مجموع الفتاوى (5/ 7-8).

([6]) المصابيح في إثبات الإمامة (96 – 97).

([7]) في رسالة مطالع الشموس ضمن كتاب أربع رسائل إسماعيلية لعارف ثامر (ص: 33).

([8]) تاريخ الدعوة الإسماعيلية (ص: 14)، وانظر أصول الإسماعيلية (421 – 427).

([9]) فضائح الباطنية (ص: 37).

([10]) منهاج السنة النبوية (6/ 187- 188).

([11]) مجموع الفتاوى (2/ 226- 227).

 

([12]) الرسالة للشافعي (1/ 580).

([13]) مجموع الفتاوى (13/ 252).

([14]) شرح الطحاوية (ص: 154).

([15]) فضائح الباطنية (ص: 11-12).

([16]) فضائح الباطنية (ص: 38)

([17]) ينظر: فضائح الباطنية (ص: 40-42)، وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها (2/ 521).

([18]) ينظر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها (2/ 526)

([19]) الأم للشافعي (2/ 250).

([20]) مجموع الفتاوى (3/ 347-348).


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...