. 10 سبتمبر, 2022, 2:58 PM
التسَرُّباتُ الفِكريَّةُ
الشيخ الدكتور فهد بن صالح العجلان
لا تمرُّ ساعةٌ دون أن يدخُلَ (محمد) إلى أحَدِ المواقِعِ الإلكترونيَّةِ؛ ليناقِشَ عَدَدًا من أصحابِ الطَّوائِفِ والتوجُّهاتِ المختَلِفةِ في مسائِلَ وقضايا كثيرةٍ، ثمَّ بعد أشهرٍ من الجَدَلِ والحِوارِ المستمرِّ يظهَرُ (محمد) برؤًى وأفكارٍ منحَرِفةٍ يظنُّها ضروريَّةً وأساسيَّةً للدِّفاعِ عن أحكامِ الشَّريعةِ وتصحيحِ صورةِ الإسلامِ والسُّنَّةِ.
ولقد أصاب أخونا (عبد الرحمن) قريبًا ممَّا أصاب (محمد) غيرَ أنَّه كان أقلَّ انهِماكًا في هذه المعمعةِ، فكان دورُه يقتَصِرُ على المتابعةِ والقراءةِ مع بعضِ الِحواراتِ الهامِشيَّةِ، فما دارت الأيامُ حتى كان قلبُ (عبد الرحمن) يحتَضِنُ كثيرًا من الإشكاليَّاتِ والشُّبُهاتِ التي كانت تمرُّ على عينيه الساخِطَتينِ، فما لَبِثَت أن سكَنَت قَلْبَه بعد ذلك!
(عبد الرحمن) و(محمد) نموذجان لظاهرتينِ مُنتشِرَتينِ في واقِعِنا المعاصِرِ، ظاهِرةُ الشَّخصِ الغَيُّورِ الذي يدخُلُ في نقاشِ الشُّبُهاتِ دَفعًا لها وتحذيرًا منها، وظاهِرةُ القارئ المطَّلِعِ على هذه الحواراتِ فُضولًا وثقافةً، ثم ما يلبَثان بعد هذا إلا قليلًا حتى ينقلِبَ بَعضُهم على عَقِبَيه، أو يكونَ قد تأثَّر كثيرًا وتشرَّب عددًا من الأصولِ والمقَدِّماتِ الفاسِدةِ.
سأقِفُ مع سَبَبٍ واحدٍ يفسِّرُ واقِعَ هذه المشكِلةِ، وسأدعُ بقيَّةَ الأسبابِ المؤثِّرةِ لمقامٍ آخَرَ، فلن أتحدَّثَ عن ضَعفِ جانبِ العبادةِ والاتصالِ باللهِ، أو عن إشكاليَّةِ تهاوُنِ المسلِمِ في تحريكِ دُفعاتِ الشُّبُهاتِ على قَلْبِه من دونِ أن يَشُدَّ حَبلَ قَلْبِه باللهِ، ولا عن سَبَبِ العُجْبِ والثِّقةِ والاتِّكالِ على النَّفسِ الذي يُضعِفُ افتقارَ العبدِ إلى مولاه، ولا عن ضَعفِ التأصيلِ الشَّرعيِّ، ولا عن التفرُّدِ والاستقلالِ الموهومِ الذي يجعَلُ أمثالَ هؤلاء يأنَفون عن سؤالِ أهلِ العِلمِ والرُّجوعِ إليهم، بل لربَّما ظنَّ -لعِظَمِ الوَهمِ الذي يسكُنُه- أنَّه يخوضُ غِمارًا، لا يُنقِذُ الإسلامَ ولا يحفَظُ أُصولَ الدِّينِ إلَّا رأيُه وفِكْرُه.
السَّبَبُ الذي أُريدُه يتعلَّقُ بواقعةِ (التَّسليمِ بالمقَدِّماتِ والأصولِ الفاسِدةِ)، فيدخُلُ المحاوِرُ والقارِئُ لهذه الحواراتِ، وفي غِمارِ مَعمَعةِ قضاياها وأمواجِ إشكالاتِها يتَّخِذُ لنَفْسِه عددًا من الأصولِ والقضايا الثابتةِ يدافِعُ عنها ويجيبُ عن الشُّبُهاتِ بناءً عليها، وقد غَفَل عن أنَّ هذه الأصولَ والقضايا لم تأتِه من قراءةٍ تدبُّريَّةٍ لكتابِ اللهِ ولا مِن جُلوسٍ طويلٍ على صحيحِ السُّنَّةِ، ولا من دراسةٍ بَحثيَّةٍ لكُتُبِ الفِقهِ، وإنما جزم بها من خلالِ هذه الحواراتِ، وحَسَم أمْرَها بعد إلزامٍ من هنا أو وَرطةٍ هناك.
هي مُشكلةٌ قديمةٌ، كثيرًا ما يُبتلَى بها من يقَرِّرُ أصولَه ومُحكَماتِه من خلالِ هذه الحواراتِ، وقد كانت سببًا ظاهِرًا لبُذورِ الانحرافِ العَقَدي الذي مزَّق أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من قديمٍ، فرأسُ المنحرفين (الجهمُ بنُ صَفوان) لم يقَرِّرْ عقيدتَه في نفي أسماءِ اللهِ وصفاتِه إلَّا بعد نقاشٍ مع فرقةٍ وَثَنيَّةٍ أحرجَتْه بأنَّه لا يستطيع أن يحسَّ خالِقَه ولا يَشَمَّه ولا يسمَعَ صوتَه، فهو إذن غيرُ موجودٍ، فحيَّرَتْه هذه الشُّبهةُ ومكَثَ أيامًا يبحثُ عن جوابٍ مُريحٍ لها، ثم خرج إليهم فأجابهم بأنَّ وُجودَ اللهِ مِثلُ وجودِ الرُّوحِ التي في جَسَدِ الإنسانِ، يقرُّ الإنسانُ بوُجودِها، لكنَّه لا يراها ولا يسمَعُ صَوتَها، ومن خلال هذا الدَّليلِ الذي قرَّره ليتخلَّص من ورطتِه مع الوثنيِّين بنى تصوُّرَه عن اللهِ، فنفى عنه الصِّفاتِ التي أخبَرَنا بها عن نفْسِه([1]).
وقد بذَلَت الفِرَقُ الكلاميَّةُ جُهدًا عظيمًا في سبيلِ إقناعِ الملاحِدةِ بوجودِ الله، فجاؤوا بالدَّليلِ العَقليِّ الشهيرِ (دليلِ حُدوثِ الأعراضِ والأجسامِ)، وجَعَلوا إثباتَ اللهِ لا يقومُ إلا به، فحَطَّموا وعَبَثوا بسببه بكثيرٍ من النُّصوصِ والأصولِ الشرعيَّةِ.
لاحِظْ أنَّهم لم يكُنْ يَرَونَها أصولًا فاسدةً أبدًا، بل كانت عندهم دليلًا شرعيًّا وأصلًا ضروريًّا لحِفظِ الإسلامِ وصَدِّ هجَماتِ أعدائِه، فزادهم ثقةً وتمسُّكًا بهذه الأصولِ ورفضًا لأيِّ قاعدةٍ أو دليلٍ يخالِفُها؛ لأنَّه سيكون مضرًّا بالإسلامِ حَسَب رأيِهم.
وإذا أرَدْنا أن نتخَفَّفَ مِن عَرضِ الإشكالاتِ القديمةِ ونأتيَ لواقِعِ إشكالاتِنا المعاصرةِ، فسنَجِدُ ذاتَ المشكِلةِ حاضِرةً لم تتغيَّرْ، فمجموعةٌ من الفُضَلاءِ يدخُلون في حواراتٍ وصِداماتٍ فِكريَّةٍ مختَلِفةٍ وعلى أصعِدَةٍ متعَدِّدةٍ، يضطرُّ بسَبَبِ هذه الحواراتِ لتبَنِّي عددٍ من القضايا والمقَدِّماتِ التي يراها مرتكَزاتٍ أساسيَّةً للدِّفاعِ عن نصوصِ الشَّريعةِ وحِفظِ أحكامِها، ويَدعَمُها بعَدَدٍ مِن الأدلَّةِ الشرعيَّةِ، لكِنَّه قد التقَطَ هذه القواعِدَ من هذه الحواراتِ ثم بحَثَ بعد ذلك عن أدلَّتِها في الشريعةِ، ولم يستخرِجْها من قراءةٍ لنُصوصِ الشريعةِ أو فَحصٍ لكلامِ الفُقَهاءِ!
مثلًا: يخوضُ حِوارًا مع الغربيِّين دفاعًا عن بناء المساجِدِ وحَقِّ المسلمين في العبادة، ويقومُ بجُهودٍ مَشكورةٍ في إحراجِ الغربيِّين بما في موقِفِهم من تحيُّزٍ ضِدَّ المسلمين، فيقولون له: (إنَّكم لا تسمحون ببناءِ الكنائِسِ في بلادِكم؟) فيجيب مباشَرةً بأنَّ هذا غيرُ صحيحٍ، وأنَّ حُرِّيَّةَ العبادةِ مكفولةٌ في بلادِنا، وإذا كان أحسَنَ حالًا قال: عَدَمُ بناءِ الكنائِسِ خاصٌّ بجزيرةِ العَرَبِ بسَبَبِ خاصيَّتِها الدينيَّةِ، أو بسبب انتفاءِ وجودِ نَصرانيٍّ فيها.
فلم يكُنْ بحثُ بناءِ الكنائِسِ هنا معتَمِدًا على نُصوصِ الشَّريعةِ ولا آراءِ الفُقَهاءِ - وإن جاء ذلك فيما بعدُ- وإنَّما جاء لضَرورةِ التخلُّصِ من هذا الإلزامِ المحرِجِ، فلحاجتِه لجوابٍ مُريحٍ قَرَّر مِثلَ هذه القاعدةِ، مع أنَّ بإمكانِه أن يقرِّرَ بسُهولةٍ أنَّ حديثَه مع الغربيِّ هو مطالبةٌ له لأن يكون صادقًا مع مبادِئِه وقِيَمِه، فبما أنَّكم تقَرِّرون الحيادَ مع الأديانِ، فيجب أن تكونوا كذلك، أو تعترفوا بأنَّكم غيرُ صادقين، وأمَّا موضوعُ الكنائِسِ في بلادِنا فهي متعَلِّقةٌ بأُصولِنا وقِيَمِنا.
وينتَفِضُ آخَرُ: غَيرةً ودفاعًا عن الانتهاكاتِ التي تلحَقُ ببعض الدُّعاةِ والمصلحين بناءً على (حُريَّةِ الرأي) وأنَّه حَقٌّ مكفولٌ للجميعِ ما دام لم يقَعْ منه عدوانٌ على أحدٍ، ومع مواصَلةِ الحوارِ والسِّجالِ يضطرُّ لأن يجعَلَ حريَّةَ الرأي في الشريعةِ مكفولةً لأيِّ أحَدٍ، فلا عقوبةَ ولا مَنْعَ في الشريعةِ للرَّأيِ، وإنما يكونُ ممنوعًا ما كان اعتداءً على النَّاسِ، وأما الرأيُ المجرَّدُ فهو حَقٌّ مصانٌ ولا إشكال فيه، ويسوق لذلك بعضَ النصوصِ، وهي رؤيةٌ عَلمانيَّةٌ صريحةٌ لا وجودَ لها في أيِّ تراثٍ فِقهيٍّ بتاتًا، لكِنَّها ذاتُ المشكلةِ والمرَضِ القديمِ، يريدُ الشَّخصُ أن يدافِعَ عن الإسلامِ فيعتَقِدُ بأصلٍ فاسدٍ يرى أنَّه لا يمكِنُ تحقيقُ مقصودِ الشريعةِ إلا من خلال هذا الأصلِ الفاسِدِ!
ويعيبُ شَخصٌ ثالثٌ على النصارى تغييبَهم للعَقلِ وتعطيلَهم له، ويسوقُ لهم شواهِدَ من ذلك في معتَقَداتِ الخَلاصِ والتثليثِ وغيرِها، فيُلزِمونه ويقولون: (لديكم أيضًا في الإسلامِ مخالَفةٌ للعَقلِ، وسنذكر لك أمثلةً) فيذكُرُ لهم بارتياحٍ أنَّ الإسلامَ (يقدِّمُ العَقلَ على النَّقلِ!) فلا وجهَ لإشكالكم! وقد ظنَّ أنَّه قدَّم جوابًا رائعًا لهذه الشُّبهةِ، وما درى أنَّه أراد أن يُصلِحَ خَدْشًا فهدم قصرًا! فتخلَّص بهذا الجوابِ من إحراجِهم له، لكنَّه أدخل على عَقْلِه وقَلْبِه فيروسًا خطيرًا ما دخَلَ عَقلَ أحدٍ إلا وعَبَث بدينِه ويقينِه!
ورابعٌ: يخوضُ غِمارَ الدِّفاعِ عن أحكامِ الإسلامِ في المرأةِ، فيبذُلُ -مشكورًا- غايةَ جُهدِه في البَرْهَنةِ والعَقْلنةِ لتلك الأحكامِ؛ لأنَّه يستشعِرُ أنَّ أيَّ ضَعفٍ في الدفاعِ عن هذه الإيراداتِ المثارةِ سيكون سببًا للتشكيكِ في الإسلامِ ذاتِه، ثم يخرج من هذه الحواراتِ بآراءٍ مِن مِثلِ: مساواة المرأةِ للرَّجُلِ في الشَّهادةِ، وجواز تولِّيها للولاياتِ العامَّةِ مُطلقًا، وبما شاء من القواعِدِ التي يشعُرُ بحاجته لها؛ لدَفْعِ الصَّائِلين على الشريعةِ!
يزيد المشكلةَ تعقيدًا أنَّ الشَّخصَ في معمعة هذا الحوارِ لا يشعُرُ بمِثلِ هذه القواعِدِ والمقَدِّمات الفاسدة من أين دخَلَت عليه، فيحسَبُ أنَّه تلقَّاها من مَعِينِ الفِقهِ، وما يدري أنَّه إنما غرفها من مُستنقَعٍ آخَرَ!
إذن: ما هو الحلُّ؟
هل نتركُ الدِّفاعَ عن قضايا الإسلامِ ودَفْعِ الشُّبُهاتِ؟
لا، أبدًا، ليس الحلُّ بأن نتركَ الدِّفاعَ عن قضايا الإسلامِ، ولا أن نَضعُفَ عنه أو نهوِّن من أي نشاطٍ فيه، فهذا بابٌ من أبوابِ الجِهادِ في سبيلِ الله، وإنما المطلوبُ -تحديدًا- أن يتحصَّنَ الشَّخصُ بالعِلمِ الشَّرعيِّ أولًا، فلا يخوضُ غِمارَ هذه السِّجالاتِ مَن لم يكن عالِمًا بدينه، ثمَّ ألَّا يعتَمِدَ على نَفْسِه في تقريرِ القواعِدِ والأصولِ والأحكامِ، بل يجِبُ أن يراجِعَ كلامَ العُلَماءِ وتقريراتِ المتقَدِّمين ويستشيرَ أهلَ العِلمِ المعاصِرين؛ لأنَّ المقصودَ ليس أيَّ جوابٍ عن الشُّبهةِ، بل لا بدَّ أن يكونَ الجوابُ صحيحًا ومستقيمًا، وإلَّا وقع الشَّخصُ في مشكلتين:
1- تسرُّبِ الأفكارِ المنحَرِفةِ إليه.
2- عَدَمِ قُدرتِه على الإقناعِ والبَرْهَنةِ ما دام أنَّه قد وقف على أرضٍ زَلِقةٍ، فأقوى عاملٍ يقوِّي المحاوِرَ أن يكونَ مستقيمًا على الحَقِّ لم يخلِطْ معه شيءٌ من الباطِلِ؛ لأنَّه (من المعلومِ أنَّ كُلَّ مُبطِلٍ أنكَرَ على خَصْمِه شيئًا من الباطِلِ قد شاركَه في بَعْضِه أو نظيرِه، فإنَّه لا يتمكَّنُ مِن دَحْضِ حُجَّتِه؛ لأنَّ خَصْمَه تسَلَّط عليه بمِثْلِ ما تسَلَّطَ هو به عليه!)([2]).
ثبَّت اللهُ قُلوبَنا على دينِه، ورَزَقَنا اليقينَ، وصَرَف عنا مُضِلَّاتِ الفِتَنِ؛ ما ظهر منها وما بطن([3]).