. 19 سبتمبر, 2022, 1:20 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الشَّيخ الألباني رحمه الله في حكايةٍ طريفةٍ وفيها عبرة:
(أول مـا وَلَعتُ بمطالعتِه من الكتبِ القصصُ العربيَّة كالظَّاهر وعَنترة والملك سيف وما إليها، ثم القصص البُولِيسية المترجَمَة كأَرسين لوبين وغيرها، ثم وجدت نزوعًا إلى القراءات التَّأريخية.
وذات يوم لاحظت بين الكُتُب المعروضة لدى أحد الباعةِ جزءًا من مجلة المَنار، فاشتريته ووقعت فيه على بحث بقلم السَّيد رَشيد يصف فيه كتاب الإِحياء للغزالي، ويُشير إلى محاسِنه ومآخِذه، ولأول مرَّة أُواجِه مثلَ هذا النَّقد العلمي، فاجتذبني ذلك إلى مطالعة الجزء كلِّه، ثم أمضي لأتابع موضوعَ الإحياءِ في الإحياءِ نفسه، وفي الطَّبعة التي تحتوي على تخريج الحافظِ العراقي، ورأيتُني أَسعى لاستِئجارِه؛ لأنِّي لا أملك ثمنه! ومن ثمَّ أقبلتُ على قراءة الكتاب، فاستَهوَانِي ذلك التَّخريج الدَّقيق حتى صمَّمت على نسخِه أو تلخِيصه، وهكذا جهدت حتى استَقَامت لي طريقةٌ صالحةٌ تُساعد على تَثبِيت تلك المعلومات.
وأحسبُ أنَّ هذا المجهود الذي بذلتُه في دِراستي تلك هو الذي شجعني وحبَّب إلي المضيَّ في ذلك الطريق؛ إذ وجدتني أستعين بشق المؤلفات اللغوية والبلاغية وغريب الحديث لتفهُّم النص إلى جانب تخريجه).
وينقل الشَّيخ محمد المجذوب هذه الحكاية ثم يعلق عليها فيقول:
(وقد أطلعني الشَّيخ على عمله في ذلك النَّسخ والتَّلخيص، فإذا أنا تلقاءَ أربعةِ أجزاء في ثلاثة مجلدات، تبلغ صفحاتها ألفين واثنتي عشرة في نوعين مختلفين من الخط:
أحدهما: عادي.
والثاني: دقيق علَّق بـه في الهوامش تفسيرًا أو استدراكًا!
ولعمرُ الحقِّ إنه لمجهودٌ يعجز عنه أُولُو العزم من أهل العلم في هذه الأيام، ناهيك بطلبة الجامعات ممَّن لا يملكون أيَّ عزيمة تُسعفهم بالصَّبر على التَّحقيق والمتابعة، فكيف إذا أُضيف إلى ذلك أنَّ الشَّيخ لم يكن آنئِذٍ قد تجاوز العشرين من العمر!)([1]).
والعبرة في هذه الحكاية وفيما بَذَله الشَّيخ الألباني من هذا الجهدِ الفريدِ في نقلِ ما وجده من أحكامِ الحافظ العراقي هو أنَّه كان شابًّا في العشرين من عمره حديثَ العهد بعلمِ الحديث، ومع ذلك يبذُل كل هذا الجهد من أول مرة يطَّلع فيها على شيء منه، ويكتب بيده ما يزيد على ألفي صفحة.
ولا شكَّ أنه كان في ذلك الوقت يملكُ الاستعدادَ للعلمِ الشرعي لكنَّه لم يجد من يُرشده ويدلُّه على الطريق، فلما وجد أولَ فرصة لإظهار ما عنده من الاستعداد بادر إلى بذلِ الجهد في تحقيقِها، فما حصل معه هو أشبهُ ببَذرة كانت تحتاج لتُربةٍ صالحةٍ لتنبت وتثمر، وإلا فكم من قارئ لمقالة الشَّيخ رشيد رضا لم تحرِّك فيه ساكنَا، ومرَّت به كأن لم تكن.
وهذا الصَّبر والجلد الذي تميَّز به الشَّيخُ الألبانيُّ -رحمه الله- هو الذي هيَّأه بعد توفيقِ الله تعالى لتكون له المنزلةُ الرفيعةُ بين أهل العلم، ويكون من المجدِّدين في تمييز الأحاديث الصحيحة والضعيفة.
ومما يبينُ تميُّزَه في الصبر وقوة العزيمة ما حكاه عن نفسه من أنَّه كان يشكو من بعض الآلامِ في صدره وبطنِه، وأنه جرَّب كلَّ ما نصحه به الأطباء لكنه لم يستفد شيئًا، ثم إنه عَثَر على كتابٍ لطبيبٍ نمساويٍّ ينصح فيه بالصَّوم أربعين يومًا إلا عن الماء، فالتزم بذلك وأتم الأربعين يومًا، وشُفِي بفضل الله مما كان يشكو منه.
ومثال آخر على صبره في تحصيل العلم والشَّغف به إلى حد الانشغال عن النفس؛ حيث ذُكر عنه أنه صَعَد على السُّلم ليأخذ مخطوطًا في المكتبة الظاهرية، وفتح المخطوطَ وبقي يقرأ فيه واقفًا على السُّلم أكثر من ست ساعات([2]).
والمقصود هنا: أن النَّجاح سواء كان في طلب العلم أو غيره لا يأتي مع الكسل والأماني، وإنما يتحقَّق بالصَّبر والمثابرةِ ومجاهدةِ النفس، وتركِ ما تهواه من الدَّعة والخُمُول، {وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ}([3]).