. 31 أغسطس, 2022, 18:43:01
القوامة محكم شرعي وضرورة أسرية
مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلقد اعتنى الإسلام بشأن الأسرة، واهتم بأمرها، ولها شرعت الكثير من الأحكام والقوانين والتشريعات. وإن الناظر في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ سيجد كما هائلا من النصوص الشرعية التي تحدثت عن منظومة الأسرة، ورتبت شؤونها، بما يحقق لها الصلاح والسعادة في الدارين. بل إنك بمجرد أن تقرأ فهرس المصحف، وتطلع على أسماء السور، سيتضح لك عظم اهتمام الإسلام بشأن الأسرة. فستجد سورة نزلت باسم أسرة (سورة آل عمران)، وسورة نزلت لحل مشكلة أسرة (سورة المجادلة)، وسورة نزلت تعليقا على حادثة في أسرة (سورة التحريم)، وسورة نزلت لتوضيح أحكام الأسرة (سورة الطلاق)، وسورة نزلت لتقرير كثير من الحقوق الأسرية التي سلبت من المرأة المكون الرئيسي من مكونات الأسرة كالميراث والمهر وحسن العشرة ووجوب العدل وغير ذلك (سورة النساء). فإذا خضت في مضامين هذه السور وغيرها من السور، سيتبين لك عظم مكانة هذه المنظومة في الوحي أكثر وأكثر.
الاهتمام الرباني بالأسرة
إن المتأمل في منظومة الأسرة لا يستغرب مثل هذا الاهتمام من الدين الذي جاء يراهن على إصلاح الإنسان بكل مكوناته وتفاصيل حياته. فالأسرة عند الإنسان تمثل جانبا أساسيا في حياته، فهي المنشأ الأول الذي ترعرع فيه، ومصدر الدعم الدائم الذي لا يستطيع أن يتخلى عنه، والحضن الدافئ الذي يفر إليه. فالأسرة هي منظومة متكاملة ومؤسسة عظيمة يمارس فيها كل مجال يبني الإنسان، ففيها المجالات الإدارية والتنظيمية، والمجالات التربوية والتعليمية، والمجالات الصحية والدفاعية، والمجالات المالية والتموينية، والمجالات الاجتماعية والترفيهية، وغير ذلك الكثير والكثير. ومنظومة بهذا الشأن حق للشرع أن يولي لها هذا الاهتمام البالغ.
التعيين الإلهي للقائد
ولأهمية شأن الأسرة ومركزيتها في صلاح الإنسان وسعادته، فقد تكفل الله سبحانه وتعالى باختيار القائد فيها، وجعل القيادة فيها للرجل، وذلك في آية محكمة بينة في سورة النساء قال فيها سبحانه: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء: 34].
إذا شريعة القوامة شريعة ربانية محكمة ثابتة بالنصوص الشرعية، وعندما نقول شريعة محكمة أي أن النصوص الواردة فيها قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، ولا يقبل الخلاف في دليلها ولا مدلولها، ولذا أجمع عليها علماء الإسلام سلفا وخلفا. ولولا ما يحصل من التشغيب على هذه الشريعة والتشكيك فيها والهجوم عليها من بعض أهل الزيغ، لما كنا بحاجة إلى توضيحها وبيانها. ولكننا في زمن تكاثرت فيه سهام الأعداء، وتأثرت فيه عقول كثير من المسلمين بالتبعية للثقافة الغربية الغالبة، حتى احتجنا إلى توضيح كثير من الواضحات والله المستعان. وسنسعى في هذا المقال إلى تثبيت هذا المحكم العظيم، والشريعة الثابتة، بتوضيح حقيقة القوامة وبعض حكمها وغاياتها والرد على من يدعو إلى إلغائها، منطلقين من آية سورة النساء السالفة الذكر.
هذه الآية على إيجازها تحتوي الكثير من الحكم العظيمة والمعاني الغزيرة، التي تصلح بها الأسرة، وتحقق بها السعادة في الدارين. فقد اشتملت هذه الآية العظيمة على تشريع القوامة (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)، وبيان العلة من التشريع (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)، والثناء على من يتمسك بشريعة القوامة (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)، ووسيلة المحافظة عليها (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ)، والتحذير من الطغيان ومجاوزة الحد فيها (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا). فشرعت الآية القوامة لكونها ضرورة أسرية، وجعلت تلك القوامة للرجل بما فضله الله، ووضعت لها حدود لا يجوز تعديها، وهذا ما سنفصله في النقاط التالية بإذن الله.
القوامة ضرورة أسرية!
عندما نتكلم عن الأسرة فإننا نتكلم عن منظومة مؤسسية متكاملة، وكما أنه لا بد لكل مؤسسة من قائد، فإنه لا بد لمؤسسة الأسرة من قائد يدبر شؤونها، ويدير مهامها، ويحرك دفتها. بدون ذلك سيصيب الأسرة الشتات والضياع والانقسامات التي تنتهي بتفكك الأسرة ودمارها.
الأسرة بدون قائد مثل الدولة التي بدون أمير، ومثل الشركة بدون مدير. إذا مات ملك أو رئيس لدولة، هل يمكن أن تستمر شؤون الحياة في الدولة بدون تعيين سريع لقائد جديد؟! إذا تعرض مدير الشركة لحادث سير أقعده في الفراش، هل يمكن أن تستمر الشركة بدون أن يرشح من ينوبه في إدارة الشركة لحين يتعافى ويرجع إلى منصبه؟!.
تعيين القائد حاجة ضرورية لا تستقر المنظومات إلا بها، يقر بذلك كل أهل العقول، ويتفق على ذلك عمليا كل بني البشر. فوجود القيادة يمثل ركنا أساسيا وركيزة ثابتة في كل المؤسسات والدول وكل منظومة في هذا الوجود. وبسقوط القيادة تسارع المنظومة في السقوط والتهاوي.
القوامة وظيفة الرجل
أنزل الله حكما ثابتا بينا بأن القوامة في الأسرة تكون للرجل كما قال سبحانه: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ). وكان هذا الحكم معللا بسبب المؤهلات التي توفرت عند الرجل كما قال سبحانه بعد ذلك: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ). فهذا التعليل يدل على أن القوامة كُلّف بها الرجل ليس لمحض جنسه الذكوري، وإنما لما فيه من السمات والخصائص التي أهلته لهذه المهمة. كما أن الشرع قدم بر الأم على بر الأب وفضله بثلاثة أضعاف، ليس لأجل جنس المرأة الأنثوي، وإنما لما تبذله الأم في الحضانة والرعاية والتربية أكثر مما يبذله الأب. فالشرع لم يأت لينصر جنسا دون جنس، وإنما جاء بالقسط والعدل ليعط كل ذي حق حقه، سواء كان صاحب الحق ذكرا أم أنثى.
والشرع حين يشرع أحكامه فإنه يعتبر الأعم الأغلب، وأما النادر فلا حكم له، فالتفضيل الذي ذكره الله هو تفضيل لعموم الرجال على عموم النساء في المؤهلات التي سنذكرها، وكون وجود امرأة تتفوق على زوجها في مؤهل أو أكثر، فإن هذا نادر لا تترتب عليه الأحكام العامة. كما أن الأب في حالات نادرة يكون أكثر رعاية وإحسانا للابن من الأم، لكن هذا أمر نادر مهمل في خطاب الشرع الذي عمم تقديم بر الأم، فالشرع يخاطب الناس على ما هو عام وغالب.
وحتى نفهم وظيفة القوامة التي كلف الله الرجل بها، وندرك الحكمة من ذلك، لا بد أن نعرف حقيقتها اللغوية والشرعية ليتبين مقصود الشارع فيها. فالقوامة من قام على الشيء يقوم قياما: أي حفظه ورعى مصالحه، قال ابن منظور: "وَقَدْ يَجِيءُ الْقِيَامُ بِمَعْنَى الْمُحَافَظَةِ والإِصلاح؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ"([1])، وقال أيضا: "قَيِّمُ المرأَةِ: زَوْجُهَا لأَنه يَقُوم بأَمرها وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ"([2]). وقد ذكر المفسرون ذات المعنى وزادوا عليه، فقال الشوكاني: "وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُقَوِّمُونَ بِالذَّبِّ عَنْهُنَّ، كَمَا تُقَوِّمُ الْحُكَّامُ وَالْأُمَرَاءُ بِالذَّبِّ عن الرعية، وهم أيضا: يقومون بما يَحْتَجْنَ إِلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ، وَالْكُسْوَةِ، وَالْمَسْكَنِ"([3]). وقال ابن عاشور: "وَقِيَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ هُوَ قِيَامُ الْحِفْظِ وَالدِّفَاعِ، وَقِيَامُ الِاكْتِسَابِ وَالْإِنْتَاجِ الْمَالِيِّ"([4]). وقال السعدي: " قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون عليهن أيضا بالإنفاق عليهن، والكسوة والمسكن"([5]).
وعلى ذلك فإنه بعد التأمل في أقوال أهل اللغة والمفسرين، نستطيع أن ندرك المعنى الإجمالي للقوامة، فإذا عاملنا القوامة على أنها وظيفة وتكليف -وهي كذلك- فإننا نستطيع تفتيت مهام وظيفة القوامة إلى ثلاث مهام رئيسية كالتالي:
1- محافظة القائم على من يقوم عليه بالذب والدفاع عنه.
2- توفير الرعاية وتأمين الاحتياجات الأساسية.
3- التأديب والإلزام بآداب الإسلام.
تلك هي مهام القوامة، وسنقف مع كل مهمة منها ونتأمل فيها ونعقد شيئا من المقارنة بين الجنسين في تلك المهام، وذلك ليترسخ لدينا عظيم حكمة الله العليم الحكيم حين كلف الرجل بها.
المهمة الأولى/ المحافظة بالذب والدفاع
أهم المؤهلات والسمات التي ينبغي توفرها لأداء هذه المهمة هي ما يتعلق بالقوة البدنية والبنية الجسدية، ولا شك أن الرجل هو المفضل في ذلك، ولا يجادل في ذلك عاقل. وإني أجد في نفسي حرجا من ذكر الدليل على ذلك لشدة وضوحه، فكل الشواهد النظرية والعملية تثبت ذلك بشكل قاطع.
فالطب يثبت أن معدل كتلة العضلات والطول والوزن والبنية الجسدية عند الرجال يفوق ذلك عند النساء([6]). هذا في أصل الخلقة، أما إذا اعتبرت ما يصيب جسد المرأة من ضعف بسبب الحمل والولادة والرضاعة والحيض والنفاس، فإن الفروق ستتسع بشكل شاسع بين قوة الرجل وبنيته، وقوة المرأة وبنيتها.
وأما الشواهد العملية فهي أكثر من أن تحصى، ولعلك تتأمل في جيوش الدول التي تزعم المساواة بين الرجل والمرأة في كثير من أمور الحياة، ولكن في شؤون الحرب والدفاع فالمساواة مستثناة عندهم، وينقضونها عمليا بملء جيوشهم بالرجال أضعاف أضعاف أعداد النساء، وما ذاك إلا إقرار ضمني جازم منهم بأن الرجل هو الأقدر على تأدية مهام الدفاع والحماية.
ومن الشواهد العملية أيضا ما تشهده في أحوال الرياضات الثقيلة والخفيفة حول العالم، رياضة كرة القدم، أم كرة السلة، أم حمل الأثقال، أم السيارات، أم البيسبول...إلخ، انظر ما هي الفرق المبرزة القوية في تلك الرياضات هل هي فرق الرجال أم فرق النساء؟!
إذا فالنتيجة واضحة في تفوق الرجل في هذه المهمة على المرأة، فهو المطالب بها لما لديه من مؤهلات. فحين يكون أهل البيت مطمئنين في بيتهم، فيقتحم عليهم مجرم يهدد أمنهم واستقرارهم، فإن الرجل هو الذي يدافع عن المرأة وليس العكس، لأنه الله كلفه بالقوامة التي تستلزم الدفاع والحماية. وحين يهاجم الذئب خيمتهم في الصحراء فإن المطالب بصده هو الرجل، وحين تقطع عصابة عليهم الطريق في سفر، فإن الذي أوجب الله عليه حمايتهم هو الرجل، هذا هو معنى القوامة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)، وهذا هو أحد الأسباب التي من أجلها اختار الله الرجل لهذه المهمة (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ). وفي هذا يقول النبي ﷺ مرغبا للرجل في الدفاع عن أهله ولو كلفه ذلك حياته فيقول: (من قتل دونَ أهلِه، فهو شهيدٌ)([7]).
المهمة الثانية/ توفير الرعاية وتأمين الاحتياجات الأساسية
هذا تكليف آخر تقتضيه وظيفة القوامة، وهو أن يسعى القيّم ويعمل العمل الدؤوب ليوفر لمن يقوم عليه الحياة الكريمة، بالإنفاق بالمعروف وتوفير الطعام والشراب والكسوة والسكن. وهذا الأمر يستلزم أن يخرج القيّم ويعارك مصاعب الحياة ومشاقها، ليكتسب من المال ما يكفيه ويكفي من يقوم عليه.
ويا ترى من الأقدر على هذه المهمة في العموم؟! لاحظوا أني قلت في العموم، لأني أعلم أن بعض النساء أقدر من بعض الرجال في اكتساب المال، لكن كما ذكرنا الأحكام الشرعية تعتبر الأعم الأغلب في جميع الأزمنة والأمكنة، الأعم الأغلب في البيئات المترفة والبيئات الفقيرة، وفي البيئة الحضارية والبيئة البدائية، وفي القصر والخيمة. في كل ذلك من هو من الأقدر على كسب المال والضرب في الأرض وتحمل مشاق طلب الرزق؟! لا شك أن الرجل هو المؤهل لذلك، ولا زال الرجال في كل زمان ومكان هم عامة أصحاب المال، وملاك الثروات، ومنفقي الأموال. وهذا أمر طبيعي، فالمرأة مشغولة بالعمل داخل البيت، فهي التي فطرها الله وسخرها للحمل والولادة والحضانة ورعاية أهل البيت وتوفير احتياجاتهم وغمرهم بالحنان والرعاية، والرجل هو الذي فطره الله وسخره للخروج وتحمل العناء ومواجهة الأخطار طلبا للرزق ليكفي أهل البيت ويؤمن حاجاتهم.
وحتى في زماننا المعاصر التي نافست فيه المرأةُ الرجلَ في عامة الأعمال حتى تكاد تساويه في أكثر الفرص الوظيفية، لا زال التفوق واضحا للرجل في حيازة المال والثروة. في تقرير أصدرته مجلة Forbes الاقتصادية الأميركية عن أصحاب المليارات في عام 2022، بلغت القائمة (2668) مليارديرا، منهم (327) فقط من النساء، يعني أن نسبة النساء (12%) فقط، ونسبة الرجال (88%)([8]). وقد أصدرت نفس المجلة تقريرا سابقا لأغنى 20 شخص في أمريكا في عام 2017م، عدد النساء منهم (2) بما يمثل (10%) فقط من الإجمالي([9]).
هذه النتائج صدرت في بيئات الحضارة المعاصرة التي تخلت فيها كثير من النساء عن عملهن الرئيسي في البيت بصناعة الإنسان وتربية النشء وخدمة أهل بيتها، وخرجت لتنافس الرجل وتشاركه في اكتساب المال بنفس الفرص تقريبا. يعني أنه حتى إذا لم نعتبر وظيفة المرأة الأساسية بقرارها في البيت، ووفرنا لعموم النساء جميع الفرص لينافسن عموم الرجال في جمع المال -كما هو الحال في دول الغرب-، فإنهن لن يستطعن التغلب عليهم، لاختلاف المؤهلات والقدرات، والدراسات المذكورة وغيرها شاهد واضح على ذلك. فإذا نظرنا إلى ما جاء به الإسلام من اعتبار وظيفة المرأة وقرارها في البيت لتغمر أهله بالحنان والرعاية وحسن التربية، فإن مؤهل القدرة على اكتساب المال هنا سيميل بشكل أكبر لصالح الرجل.
ينبني على هذا المؤهل زيادة تكليف على الرجل بأن يكتسب لنفسه ويكتسب للمرأة التي يقوم عليها، فالمرأة في الإسلام مكفية مغنية، وواجب على الرجل السعي إلى رعايتها وتوفير احتياجاتها، وهو مسؤول عنها بما أعطاه الله من القوامة التي فرضها عليه سبحانه في قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ). وفي هذا المعنى يرتب النبي ﷺ على أداء هذه المهمة من الرجل الأجر العظيم فيقول: (دِينارٌ أنْفَقْتَهُ في سَبيلِ اللهِ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ، ودِينارٌ تَصَدَّقْتَ به علَى مِسْكِينٍ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ؛ أعْظَمُها أجْرًا الذي أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ)([10]). كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إمساك المال والبخل على الزوجة والعيال فقال: (كَفَى بالمَرْءِ إثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ)([11]).
وقفة!
ولنا وقفة هنا مع أولئك الذي يتحدثون عن مظلومية المرأة والنظام الأبوي وحقوق النساء معترضين على شريعة قوامة الرجل. فنقول لهم: بربكم إذا نظر كلا الجنسين إلى هاتين المهمتين من مهام القوامة بنظرة ذاتية مصلحية، هل ستكون القوامة في مصلحة الرجل أم في مصلحة المرأة؟!
في مصلحة ذات الرجل الذي كلفه الله بأن يحمي المرأة ويدافع عنها ويضحي بحياته من أجلها، ويكتسب المال لينفق عليها؟! أم في مصلحة ذات المرأة التي لم يكلفها الله شيئا من ذلك، فهي محمية مصونة محمولة مكفولة من الرجل القائم عليها؟!
النظرة الذاتية المصلحية ستقضي بشكل حاسم أن الإسلام وقف مع المرأة في شأن القوامة. ولكن النظرة الشمولية الصحيحة أن الإسلام لم يقف مع جنس دون جنس، وإنما وقف مع العدل والقسط، ووقف مع ما فيه صلاح الفرد، وصلاح الأسرة، وصلاح المجتمع، فالله الحكيم العليم حين وهب الرجل قدرات زائدة على المرأة في القوة والمال، كلفه الله بتسخيرها بما يصلحه ويصلح زوجته ويصلح أسرته وبذلك صلاح المجتمع بأسره.
المهمة الثالثة/ التأديب والإلزام بآداب الإسلام
من المسؤول عن تأديب الآخر: الأب أم الابن؟ الحاكم أم المحكوم؟ الرئيس أم المرؤوس؟
الجواب بدهي! الابن لا يمكن أن يكون مسؤولا عن تأديب أبيه ولو كان الأب مقصرا، والمحكوم لا يمكن أن نكلفه بتأديب حاكمه ولو كان الحاكم عاصيا، والمرؤوس لا يستطيع أن يطبق النظام على رئيسه ولو كان الرئيس متفلتا. وذلك لأن التأديب مهمة يؤديها المؤدب تجاه من تحته بما له قوة وسلطة عليه، فالتأديب ممارسة لسلطة معينة من جهة أعلى فيها إلزام من تحته ببعض الأمور ومعاقبته إن قصر، وهذه لا يمكن أن تكون إلا من جهة عليا. فإذا تجرأ المحكوم مثلا على حاكمه وأصدر له أوامر الإلزام ثم هدده بالعقوبة إن قصر، فهو يفعل شيئا شبيها بالمهمة الانتحارية بالنسبة له، إذ أنه سيعرض نفسه للعقوبة الشديدة من الحاكم الذي له السلطة والقوة، وليس هذا فقط! بل سيهدد استقرار البلد وهدوءه حين يفعل مثل هذا التمرد. ومثل ذلك سيحصل إن حاول الابن تأديب أبيه أو إلزامه بشيء، فإنه بذلك سيعرض نفسه للعقوبة وسيعرض البيت للاضطراب.
نعم يمكن للابن أو المحكوم أن يبذل النصيحة لمن فوقه، ويمارس معه كثيرا من أنواح الإصلاح، ويمكن للمرؤوس أن يشكو رئيسه إلى سلطة أعلى لتأخذ الحق له. أما التأديب الذي فيه إلزام ومعاقبة للمقصر، فهذا لا يمكن أن يكون إلا من الجهة العليا التي لها السلطة والقوة.
والآن لنطبق ذلك على البيت!
مهمة التأديب ضرورية لضبط البيت وتسيير أموره كما هي مهمة ضرورية لضبط سير الدولة والشركة والمنظمة...إلخ. وبما أن الرجل هو صاحب القوة البدنية والقوة المالية كما أثبتنا ذلك في المهمتين السابقتين، فبالتالي هو الأليق بأن تكون له الدرجة العليا ليمارس مهمة التأديب والإلزام الضرورية. ولا يمكن أن يكون العكس، فأنى للمرأة أن تمارس مثل هذه المهمة على من هو أقوى منها؟! إن فعلت فإنها ستعرض نفسها لمثل ما عرض الابن أو المحكوم عندما تجرأ على أبيه أو حاكمه. ولذلك كما أن الشرع وتعالى اعتبر قوة الحاكم وسلطته وأوجب طاعته في المعروف، حفاظا على الدولة. كذلك اعتبر الله سبحانه وتعالى قوة الرجل بدنيا وماليا، وجعل له الدرجة العليا من الرياسة والقوامة، وأوجب على المرأة طاعته في المعروف حفاظا على الأسرة والبيت، قال سبحانه: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)، قال السعدي: " أي: رفعة ورياسة، وزيادة حق عليها"([12]).
ومهمة التأديب لا تعني أن الشرع أعطى للرجل سوط السلطة ليفعل بالمرأة ما شاء فيقهرها ويتجبر عليها، كما أن إعطاء السلطة للحاكم لا يعني أن يظلم الحاكم شعبه ويقهرهم. مهمة التأديب هي مهمة تنظيمية لا تمارس إلا بقواعد الشرع، وليس فيها إلزام إلا بالمعروف.
فالتأديب بالعقوبة لا يكون إلا للمرأة الناشز أي المرتفعة والرافضة لطاعة زوجها في المعروف، فلا تعتبر له كلمة، ولا تلقي لأمره بالا، وتعصي أوامره بسبب وبغير سبب، فهذه هي المرأة الناشز التي يجب أن توقف عند حدها، كما يجب أن يوقف المحكوم الذي يتمرد على الأنظمة، ولا يطبق القوانين، لأن مثل هذا التمرد يؤدي إلى الاضطراب وتغييب النظام، كذلك التمرد على قيادة الأسرة تركه سيؤدي إلى فساد الأسرة وتفككها، لأن التمرد على القوامة هو إسقاط لها، وبالتالي إسقاط لقيادة الأسرة، فتصبح الأسرة تسير بدون قائد مطاع، وحينها يؤول الحال كما قال الشوكاني: "فَمَعَ عَدَمِ التَّأْمِيرِ يَسْتَبِدُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِرَأْيِهِ وَيَفْعَلُ مَا يُطَابِقُ هَوَاهُ فَيَهْلِكُونَ، وَمَعَ التَّأْمِيرِ يَقِلُّ الِاخْتِلَافُ وَتَجْتَمِعُ الْكَلِمَةُ"([13])
لذلك وجه الله سبحانه وتعالى الرجل لأساليب المحافظة على سفينة الأسرة، وانضباط سيرها، وذلك بذكره سبحانه لطريقة تأديب المرأة الناشز المتمردة على الطاعة، وحد للرجل حدودا لا يتجاوزها. فوجهه ابتداء إلى أسلوب الوعظ كما قال سبحانه: (فَعِظُوهُنَّ)، فإن لم ترتدع فيهجرها في المضجع كما قال سبحانه: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) فيوليها ظهرها في الفراش ولا يجامعها، وجاء التوضيح النبوي بالنهي عن الهجر خارج البيت كما قال ﷺ: (ولا تهجر إلا في البيت)([14])، فلا يتحول من داره إلى دار أخرى. فإن استمرت في التمرد والعصيان فهنا يأتي الخيار الثالث بالضرب كما قال سبحانه: (وَاضْرِبُوهُنَّ)، وقال ﷺ مبينا: (ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ) يعني ليس شديدا ولا يظهر في الجلد ولا يؤثر. قال ابن كثير: " قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي غَيْرَ مُؤَثِّرٍ. قَالَ الْفُقَهَاءُ: هُوَ أَلَا يَكْسِرَ فِيهَا عُضْوًا وَلَا يُؤَثِّرَ فِيهَا شَيْئًا".([15]) فالضرب هنا أقرب إلى الألم المعنوي منه إلى الحسي، وهذا هو الضرب التربوي الذي ليس غرضه الانتقام ولا التشفي، وإنما التربية والإصلاح. فمن جاوز ذلك وضرب ضربا مبرحا مؤثرا، فإنه آثم متجاوز للحد مذموم في شريعة الله ورسوله. فحين اشتكت النساء إلى النبي ﷺ من ضرب أزواجهن أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم صريحة فقال: (لقَد طافَ بآلِ محمَّدٍ نِساءٌ كثيرٌ يَشكونَ أزواجَهُنَّ ليسَ أولئِكَ بخيارِكُم)([16]). وحين استشارت فاطمة بنت قيس النبي ﷺ في الزواج من أبي جهم لم يشر عليها بذلك وذكر لها السبب: (وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاء) (لا يَضَعُ عَصَاهُ عن عَاتِقِهِ)([17])، فالضرب استثناء وليس أصل، وهو مذموم في كثير من الأحوال، والأصل فيه أنه ممنوع إلا في حالات معينة من النشوز والتمرد.
أما المرأة التي تطيع زوجها في المعروف، فهي المرأة الصالحة القانتة التي لا سبيل عليها، وهي مشكورة مأجورة، أثنى الله عليها في كتابه، كما قال سبحانه في آية القوامة: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ)، وحذر من التعدي عليها كما قال سبحانه في آخر الآية: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)، قال ابن كثير: " وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} تَهْدِيدٌ لِلرِّجَالِ إِذَا بَغَوْا عَلَى النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ الْعَلِيَّ الْكَبِيرَ وَلِيُّهُنَّ وَهُوَ مُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُنَّ وَبَغَى عَلَيْهِنَّ"([18]).
وحين تطيع المرأة زوجها فإنها تسلك أعظم سبل الجنان، ويكفي من ذلك حديث النبي ﷺ حين قال لعمة حصين بن محصن عن زوجها: (فانظُري أينَ أنتِ منهُ؟ فإنَّما هوَ جنَّتُكِ ونارُكِ)([19])، بل إنها ستفتح لها كل أبواب الجنان إن قرنت طاعة الزوج بالأعمال التي ذكرها النبي ﷺ حين قال: (إذا صلَّتِ المرأةُ خَمْسَها، وصامَت شهرَها، وحصَّنَتْ فرجَها، وأطاعَت زوجَها، قيلَ لها: ادخُلي الجنَّةَ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شِئتِ)([20]).
وطاعة المرأة لزوجها ليست طاعة عمياء، ولا تعني ذوبان شخصية المرأة في شخصية زوجها، فالمرأة المسلمة لها شخصيتها المستقلة، ولها كامل الحق في بذل آرائها، ومناقشة زوجها، وتسيير شؤون بيتها، وممارسة عباداتها وتنمية ذاتها وغير ذلك، ولكن إن جاء الأمر في المعروف من الزوج فيجب طاعته، كما يجب على الابن أن يطيع أباه في المعروف بدون أن تذوب شخصيته، وكما يجب على الرعية أن يطيعوا ولي أمرهم في المعروف بدون أن تذوب شخصياتهم.
إدارة مجموع المهام
تلك هي مجموع مهام وظيفة القوامة (المحافظة + توفير الرعاية + التأديب)، وإدارة كل تلك المهام بالتوازي، وتدبيرها وتسييرها لصالح الأسرة، يحتاج مؤهلا إضافيا يتفوق فيه الرجل أيضا، وهو ما فضله الله بالعقل، وليس المقصود بالعقل هو الذكاء كما يتبادر إلى أذهان البعض، وإنما المقصود بالعقل كما هو في أصله اللغوي مأخوذ من الحبس والإمساك، فيقال عقل البعير أي أمسكه وحبسه([21]). فالعقل أهم وظائفه أنه يضبط العاطفة ويمسك النفس عن هواها، ولا شك أن الرجل في العموم أقدر على ضبط عاطفته من المرأة، فالمرأة ناقصة العقل كما جاء في الحديث([22])، كما أن الرجل ناقص العاطفة. وقد خلق الله هذا التفاوت لحكمة بالغة، فالمرأة مُلئت بالعاطفة والحنان لتكون أقدر على وظائف الرعاية والحضانة، والرجل فضله الله بالعقل ليكون أقدر على وظائف الإدارة والتدبير. وهذا أمر مستقر عند الناس فطرة قبل أن يكون مستقرا شرعا. فلا زالت الغلبة للرجال في عامة الولايات العامة والخاصة، ولا زال جل الناس رجالا ونساء يثقون في قيادة الرجل أكثر من ثقتهم بقيادة المرأة.
ويكفي مثالا على ذلك دولة أمريكا التي تزعم أنها بلد الحريات والمساواة، والتي توارد على رئاستها (46) رئيسا ليس فيهم امرأة واحدة. وكذا لو أخذت كل دول الغرب أو كل جامعاتهم أو كل شركاتهم، وعقدت المقارنة بالنسبة والتناسب بين الرؤساء الرجال والنساء، فستكون النتيجة شاسعة الفرق لصالح الرجال، مع أن الفرص لديهم متساوية تقريبا.
خيارات القوامة الأخرى
حاولنا في النقاط السالفة إثبات استحقاق الرجل للقوامة، وأظهرنا شيئا من حكمة الله حين اختار الرجل لهذه المهمة بناء على المؤهلات الفطرية والمكتسبة، ولكن هل ثمة خيارات أخرى؟
إجابة على هذا السؤال، ألتقط كلاما مختصرا نفيسا من موقع الشبكة الإسلامية ردا على أحد الأسئلة، وفيه توضيح لجميع الخيارات والتفضيل بينها، جاء في الموقع توضيحا لخيارات القوامة: "فإما أن يكون الرئيس هو الزوج، وإما أن تكون الزوجة، وإما هما معاً، وإما غيرهما، وإما لا أحد، وليس هنالك حل آخر.
1- فإن كانت الأسرة بلا قيادة، فلا تسأل عما ينشأ عن ذلك من الفوضى لسبب بسيط وهو تضارب المصالح واختلاط الأولويات وتعارض الرغبات، فمصير أسرة بلا رأس هو الزوال والاضمحلال والتشرد والجنوح.
2- والحل الثاني هو: تسيير شؤون الأسرة من قبل أحد غير منتمٍ لها، وهذا لا يتأتى ولا يستقيم، إذ من الضرورات لإدارة الأسرة: المعرفة والعلم بأسرارها وظواهرها وبواطنها، وهذا لا يتأتى للغريب.
3- والحل الثالث: أن تكون القوامة للرجل والمرأة معاً، وهذا عين الفساد، فأي كيان يحتاج إلى إدارة، لا ينبغي أن تتوزع الكلمة الأخيرة فيه على أكثر من واحد. ومن هنا فلا سبيل إلى الشراكة في القوامة.
4- والحل الرابع: أن تكون القوامة بيد الزوجة، ومن هنا تتعثر مصالح الأسرة ولابد، وذلك بحكم طبيعة المرأة، تلكم الطبيعة التي تطلب منها الاستقرار في البيت للقيام بوظيفة الإنجاب والتربية ومصالح البيت والأولاد أحسن قيام، مما يفوت عليها الاطلاع الشمولي على مجريات الأحداث خارج البيت، وهو ما يجعلها غير قادرة على القيام بمهمة كهذه، فإن فعلت فهو تقمص لشخصية غير مناسبة، وإسناد للأمر إلى غير أهله، فتضيع قوامة الأسرة، بالإضافة إلى مصالح البيت والطفل، كما هو شأن البيوت التي جرفتها موجة التغريب.
5- فلم يبق إلا الحل الإسلامي الذي أمر به من خلق الخلق، وهو أعلم بما يصلحهم وينفعهم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وهو أن تكون القوامة بيد الرجل. قال سبحانه وتعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء:34] فالله جعل القوامة للرجل على المرأة، وعلل ذلك سبحانه بتفضيل الرجل على المرأة، وبإنفاقه عليها من ماله، فمن أنفق كان له حق الإشراف، وهذا تقرره كل الشرائع، بل تقرره القوانين الوضعية. وأما تفضيل الرجل على المرأة فهو تفضيل لا يغض من كرامتها، ولا ينال من مكانتها، فهي لها مجالها ووظيفتها التي لا يستطيع الرجال القيام بها، فهي وإن كانت أضعف من الرجل في تحمل مسؤولية وأعباء القوامة إلا أنها أكثر منه صبراً وجلداً وسهراً على تربية الأولاد، والعناية بمصالح البيت التي لو وكلت إلى الرجل لضاق بها ذرعاً، ولعجز عنها، كما أن القوامة ليست استعباداً للمرأة، ولا تسلطاً عليها من قبل الرجل، بل هي قوامة تصان فيها كرامتها، وتنال بها حقوقها على أكمل وجه، فالله جل وعلا يقول: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة:228]. فقوامة الرجل على المرأة في الإسلام قوامة رعاية وإدارة وحفظ لا قوامة تسلط وتجبر واستعباد"[23].
دعاوى إلغاء القوامة
موظف يشكو ظلم مديره، يبخسه حقه، ويكلفه فوق طاقته. نتيجة لذلك قام هذا الموظف المظلوم بالمطالبة بإلغاء الهيكلة الإدارية في الشركة، وتقويض النظام الإداري الذي يقتضي وجود رئيس ومرؤوس، فدعا إلى أن لا يكون هناك أي مدراء في الشركة، فيكون جميع الموظفين على مستوى واحد في الشركة.
هل هذه المطالبة منطقية؟! وما مصير الشركة إن استجيب لهذه المطالبة؟!
لا ريب أن الخلل لم يكن في نظام الهيكلة حتى يطالب بإلغائه، وإنما كان في ذات المدير الظالم الذي تعدى حدوده وتجاوز صلاحياته واستخدم سلطته في ظلم من تحته، فالحل هو إيقاف المدير عند حدوده، وإلزامه بالصلاحيات التي أعطته الشركة، دون تجاوز لها.
ذلك مثل من يطالب بإلغاء القوامة بحجة وجود بعض الرجال الظلمة. وردا على هؤلاء نقول:
إن القوامة سلطة مكلف بها الرجل، وهي سلطة محدودة بحدود الشرع ومضبوطة بضوابطه، فالشرع الذي شرع القوامة هو الشرع الذي شرع العشرة بالمعروف كما قال سبحانه: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، فإذا استخدم الرجل قوامته بالمنكر لا بالمعروف، بأن يظلم المرأة أو يكلفها فوق طاقتها، أو يأمرها بمعصية، فهو قد جاوز حده، وما يفعله ليس القوامة التي شرعها الله، وإنما هو ظلم يلابسه منكرا وزورا.
والشرع الذي شرع القوامة هو الشرع الذي شرع خيرية الرجل لأهله، وجعل خير رجال هذه الأمة هم خيرهم لأهليهم ونسائهم كما قال ﷺ: (خيرُكُم خَيرُكُم لأَهْلِهِ وأَنا خيرُكُم لأَهْلي)([24]). فالرجل الذي يسخر قوامته لأن يبذل الخير لأهله، هو الرجل القيم حقا، وأما الذي يسخر قوامته ليجلب لهم الشر في دينهم ودنياهم، فليس هذا من القوامة في شيء.
ولأن تجاوز حدود القوامة باستخدامها لظلم المرأة قضية حساسة منتشرة يتجرأ عليها الكثير من الرجال ويتساهلون فيها، فقد سجل الرؤوف الرحيم ﷺ وصيته لرجال أمته في أعظم محفل شهده في حياته في حجة الوداع فقال ﷺ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ؛ فإنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللهِ)([25])، وكان ﷺ يخاف أن يضيع حقها لضعفها فكان يدعو فيقول : (اللَّهمَّ إنِّي أحرِّجُ حقَّ الضَّعيفينِ : اليتيمِ ، والمرأَةِ)([26])، وهو بذلك يشدد ويرهب من تضييع حقهن، والوقوع في ظلمهن.
فمن اتخذ من القوامة سوطا يظلم به المرأة، ويتجبر عليها، فهذا تعد لحدود الله، وانتهاك لحرماته، لا يرضى به الشرع ولا يقره. ومن أنكر القوامة وشكك فيها، فقد أنكر محكما من محكمات الدين، وكذب بشريعة ثابتة من شرائع الله المنزلة في كتابه.
خاتمة:
القوامة عبادة يتعبد الله بها المسلمون، والتمسك بها هو تمسك بشريعة الله التي أنزلت صالحة مصلحة لكل زمان ومكان، تلك الشريعة التي وضعها الله سبحانه بعلمه وحكمته، فلا يعلم النفس الإنسانية وأغوارها وأسباب مصالحها ومفاسدها أحد أعلم من خالقها وبارئها، قال الله سبحانه: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، فهذه الشريعة الإسلامية لم توضع قوانينها وترتب نظمها إلا على أساس العلم والحكمة، وليس أي علم وحكمة، وإنما العلم والحكمة الربانية الكاملة التي لا يشوبها نقص ولا خلل، حكمة الله الذي قد أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء علما. وقد وقفنا في هذا المقال مع بعض مظاهر حكمته سبحانه في تلك الشريعة الثابتة المحكمة التي شرعها الله ورسوله، وأجمع عليها علماء الإسلام، وعمل بها المسلمون وكانت سببا عظيما في استقرار الأسرة المسلمة، وترابط أفرادها، وتميزها اجتماعيا وقيميا. الرضا بالقوامة هو الرضا بالله وبرسول الله وبدين الله (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].
([8]) انظر تقرير بعنوان: " أغنى 10 مليارديرات في العالم يتقدمهم إيلون ماسك بثروة فلكية" في موقع العربية نت.
([9]) انظر تقرير بعنوان: "بالأسماء والصور.. أغنى 20 شخصا في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2017" في موقع مصراوي نت.
([22]) في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رَأَيْتُ مِن نَاقِصَاتِ عَقْلٍ ودِينٍ أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِن إحْدَاكُنَّ).
[23] موقع الشبكة الإسلامية : https://www.islamweb.com/ar/fatwa/16032