Loading ...

المحكمات منهج تفكير

                            

                                                                 إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات 

بسم الله الرحمن الرحيم


تمهيد

            جاءت الشريعة بتأصيل أهميَّة الفكر والتفكير، فجاءت آيات كثيرة في الدعوة إلى التَّأمُّل والتفكُّر والتدبر ودراسة الكون ومخلوقات الله جل وعلا، وكذا في الدين وتشريعاته، بل قبل ذلك في وجود الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]، كما ذكر في آيات كثيرة ما يدلُّ على أن الله سبحانه وتعالى يريد من الإنسان أن يتفكر في الحوادث والأمور الكونية، ولذا يكرر الله سبحانه وتعالى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219 – 266] إلى غير ذلك من الآيات.

            والإسلام حين دعى إلى التفكير وحثَّ عليه فإنَّه قد بناه على أسس وقواعد متينة، ولذا كان من خصائص التفكير الإسلامي: أنَّه شامل فلا يقتصر على الدِّين فقط أو على الدنيا فقط، بل هو شاملٌ لكل متطلبات الدنيا والدين، كما أنَّه يتميز بالرسوخ والثَّبات وعدم قبوله للتلبيسات والشبهات، وهذا إنَّما كان كذلك للأسس المتينة التي بُني عليها التفكير الإسلامي، ومن أهم تلك الأسس: المحكمات.

            فالمحكمات التي جاءت في الشريعة الإسلامية ليست مجرد الجزئيات القطعية المحكمة التي هي مهمَّة بلا ريب، لكنَّ الأهم هي تلك المحكمات الكليَّة التي يغير للإنسان طريقة التَّفكير، وسبل التفكر، ويحفظ هذا التَّفكير من الزلل والخلل والانزياح نحو النسبيَّة المطلقة، فالمحكمات تضبط العقل والتفكير حتى يصبح التعايش معها أي مع المحكمات هو منهج تفكير عام للإنسان، فيبني تفكيره ونظره للأمور ودراسته لحاجات الأمة من خلال المحكمات.

            والذي أريد الوصول إليه: أن المحكمات تغير طريقة تفكير الإنسان حتى تصبح هي المنهج الذي ينطلق منه في بناء فكره.

المحكمات وضبط الفكر:

            ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه ما يضبط الفكر، وهو الرجوع والإرجاع إلى المحكمات، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [آل عمران: ٧]، فالآيات المحكمات تضبط الفهوم والعقول والفكر من أن تزلَّ في المنهج أو حتى في تطبيقاته، وذلك بكون المحكم هو الأساس والأصل الذي يبني عليه الإنسان تفكيره، فإذا ما عرضت له شبهةٌ أو أمرٌ لا يحسن ضبطه وتعقله فإنه يرجعه إلى المحكم ويبني عليه، فمثلًا: نجد في كتاب الله أنَّ الله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن كل نقص وعيب، ثم نجد عند بعض الطوائف والفرق ما يمكن أن يشبِّه على الناس لكنه في الوقت ذاته يناقض التنزيه؛ مثل قول بعض الفرق بوحدة الوجود الذي يقتضي وجود الله في الأماكن التي لا تليق بالله؛ فمهما كان الإنسان لا يستطع الرد على تلك الشبهات أو لا يتعقلها أو تشتبه عليه فإنه يمكنه أن يرجع إلى المحكم وهو أنَّ الله منزه عن النقائص والعيوب، أما من كان في قلبه زيغ فإنه يترك المحكمات ويتبع المشتبهات، يقول الطبري في هذه الآية: "يعني بقوله جل ثناؤه: "فيتبعون ما تشابه"، ما تشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزيغ عن محجة الحق، تلبيسًا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه"([1])، ونجد في أصول الفقه أنَّ علماء الأصول وغيرهم يجعلون المحكم مقابل المنسوخ، فمن اتبع المنسوخ وترك النَّاسخ فقد اتبع المتشابه ولبس على نفسه وعلى الناس دينهم، يقول ابن تيمية رحمه الله: "والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف العام كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام، وتقييد المطلق، فإن هذا متشابه؛ لأنه يحتمل معنيين، ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه، فإن في ذلك جميعه نسخًا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن؛ ولهذا كانوا يقولون: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم"([2])، والشاطبي يعمم أكثر فيجعل من المتشابه أمورًا كثيرة، يقول: "ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبَّه عليه الحديث من قول النبي ﷺ: "الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات"([3]) فالبيّن هو المحكم، وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث، فالمعنى واحد؛ لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطب، وإذا تُؤُمِّل هذا الإطلاق وجِد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيِّناتها داخلةً تحت معنى المتشابه، كما أنّ الناسخَ وما ثبت حكمُه والمبيَّن والمؤوَّل والمخصَّص والمقيَّد داخلةٌ تحت معنى المحكَم"([4]).

            ولا يتعلق هذا بالدين فقط بل في سائرة شؤون الحياة، فالإنسان الذي يكون عنده أمرًا محكمًا في تعامله مع الناس كإحسان الظن بهم وأن الأصل فيهم العدالة فإنه لا يصدق أي خبرٍ عن أحد حتى يتبين ويتثبت؛ لأن الأصل عنده والمحكم لديه هو أنه عدل لا فاسق.

            فالمحكمات إذن تضبط الفكر من الزلل سواء في الفهم أو في إنزال الحكم على قضايا أو أشخاص، وهذا شامل لأمور الدنيا والآخرة.

الانطلاق من المحكم وجعله الأساس:

            إذا كان المحكم هو من يضبط الفكر فإنَّه ينبغي علينا أن نبني حياتنا وأمورنا الدينية والدنيوية على المحكمات، فننطلق منها في تعاملنا مع كثيرٍ من القضايا الجزئية، ولا يعني هذا التهوين من شأن الجزئيات، وإنَّما الإشارة إلى أنَّ المحكمات ثابتة لا تتغير، ويبني الإنسان تفكيره بناء على ثبات هذا المحكم، وقد يغيِّر من فكره من زمانٍ لآخر ومكانٍ لآخر لكنَّه يدور في فلك المحكمات، فمتى ما كان للإنسان أمور محكمة يعرفها ويتمسك بها فإنه سيجيد التعامل مع الواقع الفكري أو الحياتي.

            مثال ذلك: أنَّنا ندرك يقيًا أنَّ حفظ العقل من محكمات الشريعة الكبرى، فمتى ما أراد المربي أو المعلم أو الأب أو ولي الأمر أن يولي اهتمامًا بجزئيات من الدين أو الدنيا فإنه يبنيه على المحكمات؛ مثل هذا المحكم الذي بين أيدينا، فقد يُمنع الإنسان مثلًا من الخوض في أمور فكرية معينة أو القراءة لشخص معين صونًا لعقله لأنَّه هو المحكم، وقد يتغير هذا من زمان لآخر، ولهذا قد يمنع المربي أو ولي الأمر مثلًا الدُّخان ويشدد فيه أكثر من غيره ممَّا يضر الصحة بشكل عام، وذلك لأنه قد يؤدي ويجر إلى المخدرات التي تفقد العقل، وربما النفس، والشاهد: أنَّ الوسائل تتغير من زمانٍ لآخر لكن المحكم يبقى ثابتًا، وهذا لا شكَّ أنها طريقة في التفكير تميز بها من تمسك بالمحكمات، خلاف من لا يتمسك بها ولا يعوِّل عليها، فتجد له في كل مسألة رأيًا مختلفًا لا ينضبط بل تجد له في المتماثلات آراء غير منضبطة؛ لأنَّ المحكمات هي التي تضبط مثل هذه الأمور، فإذا كان عند الإنسان أمر محكم واضح يقيني ثابت يعرفه بنى عليه ودار في فلكه، فالمحكمات ليست مجرد مسائل وإنما هي طريقة تفكير.

ماذا تغير المحكمات في الفكر والتفكير؟

            المحكمات من يعمل بها ويتأملَّ فيها كثيرًا ستكون هي منهج تفكير له يرى به الأشياء بمنظور مختلف، فلا يقتصر على إصلاح الحال بل ينظر إلى المآل ويدرك الأمور وخطورتها قبل أن تُقبل أو تَعظُم، فنحن حين نقول: إنَّ المحكمات منهج تفكير فإننا نعني أنها تعطي الإنسان خارطة طريق يتعامل بها مع شتَّى المسائل وليس مع مسائل جزئيَّة فقط، فالإنسان الذي يفقه المحكمات ويتعامل بها وينظر من خلاله فإنَّه يغير كثيرًا من الأمور في نفسه ومجتمعه، فينظر مثلًا إلى أنَّ الضرر في المآل ينزل منزلة الضَّرر في الحال، فما كان ضارًّا مضرًّا في المستقبل فإنه يسد أبوابه، ومن هذا ما يذكر العلماء في باب سد الذرائع وإن كانت القضيتان لا تتفقان في كل شيء، أعني النظر في المآل وسد الذرائع.

            وعلى كل حال؛ فإنَّ العارف بالمحكمات والمطبق لها ينظر في المآل كما ينظر في الحال، ومثل هذا يعطي للفقيه ملكةً تمكنه من الحكم على النوازل فيكون نظره للمسألة شاملا عامًّا، يقول الشاطبي: "والحاصل أنَّه مبني على اعتبار مآلات الأعمال، فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق"([5])، والانتباه إلى مثل هذه الأمور يغير كثير من طريقة الخطاب الديني أو الوعظي أو حتى التعامل مع الناس، فمن يحث الناس على محكمة من محكمات الدين كالصلاة على أنها واجبة أمر الله بها ويجب على المسلم أداؤها كل يوم خمس مرات؛ قد يكون أقل أثرًا ممن يربط هذا بالمآل وكيف تحافظ الصلاة على تماسك المجتمع، ويربط المسلمين بعضهم ببعض، وأنها عاصمة من كثير من الزلل وغير ذلك من المآلات للصلاة الحاضرة، ومثل ذلك أيضًا: الحدود الشرعية؛ فمن ينظر إلى حالها ويشرحها من هذا المنطلق قد لا يستطيع إيصال المقصد الشرعي كاملًا، فقطع اليد مثلا في سرقة قد يعدونه أمرًا كبيرًا لكن من عرف مآلات ذلك وأن هذا حفظ له أولا ولغيره وللمجتمع بأسره ثانيًا فإنَّه تنجلي له أمور لم يكن في محيط نظره وتفكيره، والشاهد أن المحكمات تغير في الإنسان وتفكيره ليجعل تفكيره أكثر شمولية.

            ومما تغيره المحكمات من طريقة تفكير الإنسان: نظره للأعمال ومراتبها، بل نظره إلى الأولويات الدينية والدنيوية، فمن ينظر في هذه المحكمات ويبني عليها فإن المحكمات بلا شك ستصبح مهج تفكير له في كل شؤون حياته، فيعرف المصالح من المفاسد ويعرف ماذا يقدم عند تعارض مصلحتين أو مفسدتين، فإن هذا مقصود الشارع كما قال ابن تيمية رحمه الله: "ومعلومٌ أنَّ الشَّريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأمرنا بتقديم خير الخيرين بتفويت أدناهما، وبدفع شر الشرين باحتمال أدناهما"([6]). وهذا التفاضل والموازنة لا يتأتى إلا لمن كان عارفًا بالمحكمات متأملا فيها جاعلًا إياها منهاج حياته.

            ومما تغيره المحكمات في الفكر والتفكير أنها تثري جانب الاستقراء والاستنباط لدى الشخص، وهذا يجعله يركب الأمور والجزئيات الصغير بعضها ببعض ليخرج بالأحكام الكلية الشاملة، ويستفيد من هذا: المربي والوالدين وأولياء الأمور ومن عليهم مسؤوليات تربوية، بل حتى الشباب في طريقة سيرهم في الحياة الدينية والدنيوية، إذ يجعل اهتمامه منصبًّا نحو استقراء كثيرٍ من الجزئيات ليتعامل معها وفق قواعد معينة، وهذا لا شك منهج عالٍ في التفكير.

وأخيرًا:

            من يعيش مع المحكمات يعيش مع منهج شامل للحياة والعقل والتفكير، إذ يبني الإنسان حياته وطريقة تفكيره في كل شؤون حياته عليها حتى يستطيع أن يوازن بين الأمور، ويعرف ترتيب الأولويات، وهو ما ينعكس إيجابًا على حياة الإنسان كلها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مراجع المقال:

1-   الإكليل في المتشابه والتأويل، لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، خرج أحاديثه وعلق عليه: محمد الشيمي شحاتهـ الناشر: دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع، الإسكندرية – مصر.

2-   تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن)، لمحمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

3-   صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ.

4-   صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.

5-   مجموع الفتاوى، لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1416هـ/1995م.

6-   الموافقات، لإبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.

 



([1]) تفسير الطبري (6/ 185).

([2]) الإكليل في المتشابه والتأويل، لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية (9-10).

([3]) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).

([4]) الموافقات، للشاطبي (3/306).

([5]) الموافقات (4/ 211).

([6]) مجموع الفتاوى (30/234).


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...