Loading ...

المحكمات وعلاقتها بمقاصد الشريعة

                                                  إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات 

                                                        بسم الله الرحمن الرحيم               

تمهيد:

جاءت الشريعة الإسلامية بتشريعات عديدة؛ منها الخاصة بزمان، ومنها العامة، ومنها الموسميَّة ومنها اليوميَّة، وكل هذ التَّشريعات والعبادات محققة لمقاصد عليا أرادها الله الحكيم حين أنزل هذه الشريعة الخاتمة الصَّالحة لكل زمان ومكان، والمقصد الأعظم الذي جاءت الشريعة به: مراعاة المصالح، فلا شكَّ أنَّ الشَّريعة الإسلاميَّة شاملة لجميع المصالح الدينية والدنيوية، والفردية والجماعية.

         فمقاصد الشَّرع إجمالًا تتمثل في جلب المصالح ودفع المفاسد، يقول الشاطبي مبينًا هذه الحقيقة: "وضع الشرائع إنَّما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا"([1])، ويقول ابن تيمية رحمه الله: "فإنَّ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، فالقليل من الخير خير من تركه، ودفع بعض الشر خير من تركه كله"([2])، فالمقاصد الشرعية ومراعاتها ومعرفتها من أهم ما ينبغي على طلبة العلم والمثقفين والدعاة إلى الله أن ينتبهوا لها ويبينوا ارتباط الأحكام الشرعية بها؛ لأنَّ المقاصد ومعرفتها وتحقيقها هو ما يؤدي إلى انتظام العالم وضبط تصرف الناس فيه، يقول ابن عاشور: "مقصد الشريعة من التشريع: حفظ نظام العالم وضبطُ تصرّف الناس فيه على وجه يعصم من التفاسد والتهالك. وذلك إنما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة والمفسدة"([3]).

         ولا يخفى أنَّ المحكمات أيضًا من أهم ما ينبغي على المسلم معرفته وإدراكه حتى يستطيع أن يبني حياته عليها مراعيًا لها، والمحكمات والمقاصد تشترك في أمور وتختلف في أخرى، وفي هذا المقال استعراضٌ لعلاقة المحكمات بالمقاصد الشرعية، وبمعرفتهما ومعرفة العلاقة بينهما وتحقيق ربط المحكمات بالمقاصد يمكن للداعية والمربي والعالم أن يخرج جيلًا صالحًا واعيًا يدرك مقاصد الأمور ويتمسك بمحكمات الشريعة ويدرك حقيقة الخلافات الموجودة على الساحة.

المحكمات محققة لمقاصد الشريعة

         المحكمات هي الواضحات التي لم تنسخ ولم تُغير وثبتت بأدلة يقينية، فهي عاصمة عن الانحراف والزلل والتبديل، وهذه المحكمات قد تكون أمورًا جزئية في الشريعة كالصلاة والزكاة والصيام والحج فهي محكمات، وقد تكون أمورًا عامَّة كليَّة كالعدل والصدق والإخلاص، فهذه محكمات عامة تتحقق بصور كثيرة، ويرى الدكتور عابد السفياني أن أعلى درجات المحكمات هي ما اتصفت بـ:

-       كونها محفوظة غير منسوخة.

-       كونها واضحةً بينة لا يتطرق إليها تأويل.

-       كونها أصلا ومرجعًا([4]).

         ولذلك نجد أن بعض السلف يفسر المحكمات بالآيات الثلاث الواردة في آخر سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)  وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:151، 152، 153]، يقول ابن أبي حاتم: "حدثنا أبي، ثنا أبو غسان، ثنا قيس -يعني: ابن الربيع- عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن فلان قال: سمعت ابن عباس يقول في قول الله: (منه آيات محكمات) قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات، (قل تعالوا: أتل ما حرم ربكم عليكم) والآيات بعدها"([5]).

         وحين ننظر إلى المحكمات ونتأمَّل فيها نجد أنَّها كلها محققة لمقاصد الشريعة، فالتمسك بالمحكمات هو الطريق إلى تحقيق مقاصد الشرع، ومن المعلوم أنَّ المقاصد تنقسم إلى ضروريَّة لا يصلح نظام العالم بدونها، وحاجيَّة وتحسينية، ومحكمات الشريعة جاءت مراعية ومحققة لهذه الثلاث كلها.

         فإنَّنا إن أخذنا المقاصد الضرورية نجد أنها ترجع إلى: حفظ الدين، والنفس، والمال، والعقل، والنَّسل([6])، وكثير من محكمات الشريعة إنما هي راعية لهذه المقاصد ومحققة لها، وجاءت لحفظها وتثبيتها، ويتبين ذلك بالآتي:

أولًا: حفظ الدين:

         جاءت الشريعة بالحفاظ على الدين من جانب وجوده وإبقائه ومن جانب حفظه من العدم، وجاءت المحكمات الشرعية مؤكدة لهذه المعاني ومحققة لها، فشَرع الله الإيمان، والنطق بالشهادتين، وأركان الإيمان المتمثلة في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، ومن المحكمات أيضا المتعلقة بحفظ الدين وإبقائه: أركان الإسلام، وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكذا الدعوة إلى الله.

         ومن المحكمات التي جاءت بها الشريعة لحفظ الدين من الزوال: تحريم الردة عن الدين وتشريع الحد فيه.

         فكل هذه محكمات قطعية في الدين أتت بها الشريعة، وهي كلها مؤكدة ومقررة ومحققة لهذا المقصد العظيم من مقاصد الشريعة.

ثانيًا: حفظ النفس:

         فالشريعة جاءت أيضًا بحفظ النفس، سواء من جانب الوجود، أو من جانب حفظه من الزوال.

         والمحكمات نجد أنَّها أتت أيضًا بما يحقق هذا المقصد، فجاءت بتشريع الزواج، وحفظ حياة الإنسان، أما فيما يتعلق بحفظ النفس من زوالها فقد شرع الشارع تحريم القتل تحريمًا مؤكدا، وشرع القصاص، وليس في هذا إتلاف للنفس بل حفظ لحياة المجتمع وأمنه كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، يقول ابن عاشور: "ومعنى حفظ النفوس حفظُ الأرواح من التلف أفراداً وعموماً، لأن العالَم مركب من أفراد الإنسان، وفي كل نفس خصائصُها التي بها بعضُ قِوام العالم. وليس المرادُ حفظَها بالقصاص كما مثل به الفقهاء، بل نجد القصاص هو أضعفَ أنواع حفظ النفوس، لأنه تداركُ بعضِ الفوات. بل الحفظ أهمه حفظُها عن التلف قبل وقوعه، مثل مقاومة الأمراض السارية. وقد منع عمر بن الخطاب الجيش من دخول الشام لأجل طاعون عمواس"([7])، فهذه المحكمات وغيرها مما تحقق هذا المقصد.

ثالثًا: حفظ العقل:

         وقد جاءت الشَّريعة بالحفاظ على العقل وجودًا وحفظًا له من العدم، وقد جاءت محكمات عديدة أيضًا لتحقيق هذا المقصد، ففي الجانب الوجودي للعقل جاء الحثُّ على طلب العلم، ولا شك أنَّ العلم وطلبه محكمة من المحكمات وجاءت آيات كثيرة تدل على هذا مثل قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

         أمَّا في جانب حفظه من العدم، فقد جاءت محكمات عديدة تحفظه من أن يزول كتحريم المسكرات والمخدرات، فإن تحريم هذا قطعي محكم في الشرع، وهو مما يحقق هذا المقصد الضروري من مقاصد الشريعة.

رابعًا: حفظ النسل:

         وقد جاءت المحكمات في تحقيق هذا المقصد والحفاظ عليه في تشريع الزواج والترغيب فيه.
         كما جاءت المحكمات حافظة لهذا المقصد من الزوال كتحريم الزنا وتشريع العقوبة عليه.

خامساً: حفظ المال:

         وقد جاءت المحكمات بتحقيق هذا المقصد في الأمر بأن يكون مصدر المال مباحًا، ومصدر الإنفاق مباحًا، والنهي عن الإسراف، كما جاءت المحكمات محققة لهذا المقصد في جانب حفظه من العدم من خلال تحريم السرقة وتشريع العقوبة عليها.

         هذه جملة كبيرة من المحكمات القطعية اليقينية التي هي مطلوبة من الإنسان، نجد أنها كله محققة لمقاصد الشرع الضرورية، وحتى إن نظرنا إلى الحاجية التي عرفها الشاطبي بقوله: "وأما الحاجيات؛ فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة"([8])، فحتى هذه المقاصد الحاجية نجد أن المحكمات تساندها، وتأتي بمحكمات تحافظ عليها، والشاهد أن كثيرًا من المحكمات هي محققة للمقاصد، فلا يمكن لمقاصد الشرع أن تتحقق بدون هذه المحكمات، فالمحكمات مع المقاصد كالجزئيات مع الكليات التي لا توجد بدون هذه الجزئيات.

الحفاظ على المحكمات هو حفاظ على الشريعة ومقاصدها

         سبق بنا قول ابن عباس رضي الله عن المحكمات وأنها الآيات الثلاث في سورة الأنعام، والتي فيها حفظ للضروريات الخمس، وبناء عليه فإن من يحافظ على المحكمات فإنه يحافظ على الشريعة ومقاصدها، ويظهر هذا أيضًا في المنهجية التي يسير عليها الإنسان في حياته في الموازنة بين المحكمات والمتشابهات، فالمحكمات ليست فقط أمور جزئية يعتني المسلم بها ويحققها وإنما هي معاني منهجية تضبط الفكر والتفكير والاستدلال، والشريعة قد دعت إلى الرجوع إلى المحكم، وإرجاع المتشابهات إلى المحكمات، فمهما وجد الإنسان شبهات اشتبهت عليه فإنه يرجعها إلى المحكمات التي لديه فيسلم من الوقوع في الشبهات والمحرمات، فإذا كان المقصد الأعظم للشرع هو: تحقيق المصالح ودرء المفاسد فإن ذلك لا يكون إلى بانضباط تفكير الإنسان بتحكيم المحكمات ورد المتشابهات إليها، يقول الشاطبي: "فإنَّ الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها، ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد، فذلك من المعدود في المتشابهات التي يتقى اتباعها؛ لأنَّ اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة، فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر، ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى أصولها؛ فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه.

         ودلَّ على ذلك قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب} [آل عمران: 7]؛ فجعل المحكم -وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ولا اشتباه- هو الأم والأصل المرجوع إليه، ثم قال: {وأخر متشابهات} [آل عمران: 7] ، يريد: وليست بأم ولا معظم، فهي إذا قلائل، ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة، وأما الراسخون في العلم، فليسوا كذلك، وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه"([9]).

         فالأصل في الإنسان أن يتمسك بالمحكم وحين تطرأ الشبهات يهرب منها إلى المحكمات، وهو ما يؤدي إلى تحقيق مقاصد الشريعة وحفظها.

وأخيرًا:

         يتبين من خلال هذا العرض أن المحكمات محققة لمقاصد الشرع، وأن المقاصد لا يمكن أن يرعاها الإنسان ويحققها إلا بالإتيان بالمحكمات والحفاظ عليها، وهذا مهم جدا للمربين والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى عند موازنة الخير والشر، وعند ورود المشتبهات، فيحرص على اتباع المحكم ويعلم أنه بذلك يحقق مقاصد الشرع ويحافظ عليها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مراجع المقال:

 

1-   تفسير ابن أبي حاتم (تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم)، المؤلف: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: 327هـ)، المحقق: أسعد محمد الطيب، الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثالثة – 1419هـ.

2-   مجموع الفتاوى، لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1416هـ/1995م.

3-   المحكمات في الشريعة الإسلامية وأثرها في وحدة الأمة وحفظ المجتمع، د.عابد السفياني.

4-   مقاصد الشريعة الإسلامية، المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ)، المحقق: محمد الحبيب ابن الخوجة، الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، عام النشر: 1425 هـ - 2004 م.

5-   الموافقات، لإبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.

 

 



([1]) الموافقات (2/ 9).

([2]) مجموع الفتاوى (15/ 312).

([3]) مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 230).

 

([4]) ينظر: المحكمات في الشريعة الإسلامية وأثرها في وحدة الأمة وحفظ المجتمع (ص: 31).

([5]) تفسير ابن أبي حاتم (2/ 592).

([6]) ينظر: مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 232).

([7]) مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 236-237).

([8]) الموافقات (2/ 21).

([9]) الموافقات (5/ 144-145).


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...