المحكمات وفقه الآولويات

                                               

                                                     إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات 

بسم الله الرحمن الرحيم


  تمهيد:

         في صحيح مسلم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلَّا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنَّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك"([1])، هذا الحديث يبيِّن كيف أنَّ الناس في الجاهلية كانوا في ظلام الشرك والكفر، وغارقين في وحل الخطيئة والذنب، يخلعون كرامتهم على عتبات الأصنام وإن كانوا هم أشد الناس وأعزهم، وقد كان النَّاس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم تسودهم العصبية -محمودة أو مذمومة- وتكثر بينهم القتالات والحروب حتى جاء رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم فأخرج هذه الأمة من غياهب الجهل والظَّلام إلى فسحة الإيمان والعلم، ورفعها من هوَّة التخلف إلى أن تكون من أرقى الحضارات الموجودة على وجه الأرض حتى شيَّدوا المدن والجامعات والمستشفيات وقدَّموا للعالم أجمع رسالة الحق والهدى مع حضارة العلم والدنيا، ولا يخفى كم كانت لهذه الأمة من ريادة في مجلات علميَّة عدة.

         ومما لا شكَّ فيه أنَّ الحضارة الإسلامية أصابها نوعٌ من الوهن والضعف، ولا يمكننا أخذ زمام الأمة لنقودها إلى مقدمة العالم إلا بما انطلقت به الأمة سابقًا، ولا ريب أنهم لم ينطلقوا ليقدموا هذه الحضارة للعالم إلا بضبط النفس على معرفة مراتب الحياة، وترتيب الأولويات الذي جعلهم يقدمون الإيمان والإسلام على كل شيء، فصار هو القوَّة التي ينطلقون منها، ووضعوا كل عمل موقعه؛ فقدَّموا المهمَّات، وعرفوا القطعيَّات، وتوسَّعوا في الاجتهاديات، فبنوا حضارة متينة قوية مبنيَّة على العلم الذي هو مبني على معرفة الأهم، وتقديم الأولى، والاهتمام بالأمور الجامعة، والناظر لحال الأمة والفاحص لدائها يدرك أن كثيرًا من الأمور تستوجب إعادة النظر فيها وفي تقديمها على غيرها، فما بين قضايا شكليَّة وأخرى غير نافعة ضاعت القضايا الأساسية المحكمة التي جاءت بها الشريعة، وكان من المفترض أن لا نُغفل هذه المحكمات التي ترتبط بفقه الأولويات إذا ما أردنا الاستمرار في تثبيت حضارتنا وبثها للناس، وإذا ما أردنا استيعاب المتغيرات وأن نتعامل معها وفقًا للمحكمات حتى نعود إلى ممارسة دورنا الحضاري؛ لذا يأتي هذا المقال كاشفًا عن بعض معاني فقه الأولويَّات وعلاقتها بالمحكمات الشرعية.

         وقبل الدخول في بيان المحكمات المتعلقة بفقه الأولويَّات والغوص في معانيها نعرج سريعًا على مفهوم فقه الأولويات، فقد عرفه كثيرٌ من الباحثين، وكل التعريفات تدور حول: إدراك الأمور من حيث حقيقتها ومرتبتها ثم تقديم الأولى فالأولى، بناء على معايير شرعية صحيحة.

اهتمام الشريعة بالأولويات:

         أولت الشريعة فقهَ الأولويات اهتمامًا بالغًا، وقد بينَّا سابقًا أن الفرد والأمة متى ما أرادوا التميز فإنه يجب مراعاة الأولويات وبناء الحياة عليها حتى لا ننجرَّ إلى الغرق في "المستهلكات" التي تستهلك جهد الإنسان ووقته دون فائدة تذكر؛ لذا اهتمت الشريعة كثيرًا بالأولويات تنظيرًا وتطبيقًا، وقد وردت نصوصٌ عديدة تدلُّ على ذلك، منها قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19]، فبين الله سبحانه وتعالى أن الإيمان أهم الأعمال وأنه لا يوازيه عملٌ مهما كان، وبين الله أن العملين لا يستويان عند الله، ومن تلك الآيات قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] فبين الله الفرق بين العالم بالله والجاهل وأنهما لا يستويان، ومثلها قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]، وقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 19 - 22].

         ولم يقتصر الشَّارع في الدلالة على فقه الأولويات بآيات القرآن الكريم، بل جاءت نصوص شرعية نبوية عدة تبين مراعاة الأولويات، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"([2])، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بصريح العبارة أنَّ شعب الإيمان ليست على مرتبة واحدة بل فيها الأفضل من غيرها، يقول النووي رحمه الله: "وقد نبَّه صلى الله عليه وسلم على أنَّ أفضلها: التَّوحيد المتعين على كل أحد والذي لا يصحُّ شيءٌ من الشعب إلا بعد صحته، وأدناها: ما يتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم"([3])، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن وهو يعطيه درسًا في فقه الأولويات والتدرج بالناس، قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّك تقدم على قومٍ أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أنَّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أنَّ الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس"([4]).

         وقد نبَّه عددٌ من العلماء على أنَّ الشَّريعة قد أتت بفقه الأولويات وإن لم يكن العلماء قد تكلموا بهذا المصطلح، وتجد لهم كلامًا طويلًا في تقرير هذا في باب مقاصد الشريعة، يقول ابن تيمية رحمه الله: "ومعلومٌ أنَّ الشَّريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأمرنا بتقديم خير الخيرين بتفويت أدناهما، وبدفع شر الشرين باحتمال أدناهما"([5]).

أعظم المحكمات، وأولى الأولويات:

         حين يفكِّر المسلم بفقه الأولويات ويربطه بحياته فإنَّه لا أولى من توحيد الله سبحانه وتعالى، لذلك يأتي التوحيد في قمة الأمور المحكمة التي ينبغي للإنسان أن لا يقدم عليه شيئًا.

وممَّا يبين أهمية التوحيد وأنَّه فوق كل المهمات في دين الله:

1/ أنَّ الله قد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب من أجل تحقيق التوحيد، وخاصة توحيد الألوهية الذي هو إفراد الله بالعبادة، ولذا قال تعالى مبينًا أنه ما أرسل رسولًا إلا لتحقيق هذا التوحيد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]، وقد توارد المفسرون على أن دلالة هذه الآية على توحيد الألوهية خاصة([6])، ومثل هذه الآيات كثيرة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

2/ أنَّ الله ما خلق الخلق إلا لعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

3/ أنَّه أول ما يؤمر به الإنسان، وهو واضحٌ في حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن، وأمره بأن يكون أول ما يدعوهم إليه هو: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله([7]).

4/ أنَّ إحباط التوحيد يعني إحباط جميع الأعمال، وفي هذا يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]([8]) .

         وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّه لا أفضل من الإيمان بالله، فسُلَّم الأعمال في مقدمته: الإيمان بالله، ولا يساوي هذا أي عمل آخر، وقد نصَّ الله على هذا في كتابه في قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19]، ومع غزو الحضارة المادية واغترارها بنفسها وافتتان كثيرٍ من الناس بها ووقوعهم مسلوبي القوى تحت أعتاب المادية حتى جعلوها معيارًا للخير والشر أصبح الاهتمام بالتوحيد والإيمان ودعوة الناس إليه من أولى أولويات المسلم.

محكمات في المنهج:

         المنهج الذي يتبعه الإنسان في حياته لابدَّ وأن يراعي فيه فقه الأولويات؛ لأنَّ الأعمال التفصيلية كلها مبنية على المنهج الذي يتبعه الإنسان؛ سواء كان في أموره الدينية أو الدنيوية، فمن استطاع أن يقدم المهمَّات في المنهج فإنَّه يمكنه أن يسير باتزان دون إفراطٍ أو تفريط، ولا شكَّ أنَّ ضياع المنهج هو ضياعٌ للحياة، فيظلُّ الإنسان متخبطًا في عباداته وقراراته وغير ذلك، وهناك عدَّة محكمات تتعلق بالمنهج ينبغي للإنسان أن يراعي تقديمها على غيرها، ومنها:

أولًا: الاعتماد على المصادر الصحيحة في التلقي:

         بليت الأمة بكثيرٍ من الاختلافات غير السائغة، ورأينا حتى في الأوساط الشرعية من يتقلب في متاهات علميَّة بسبب تقريره مسائل شرعية أو غير شرعيَّة وفق أهواء أو اجتهادات غير منضبطة، فيؤخَّر ما حقُّه التقديم ويقدَّم ما حقُّه التأخير، ويعظَّم الحقير ويحقر الجليل العظيم، ولا عاصم من هذا التخبُّط المعرفي إلا الرجوع إلى المصادر الصحيحة للتلقي وبناء المعارف عليها.

         والمصادر الصحيحة لدينا هي: الكتاب والسنة، فتحدد كل الأولويات بناء على هذين المصدرين أصالة، وقد أكَّد الله سبحانه وتعالى على الرجوع إلى الكتاب والسنة، ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، فالرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الردُّ إلى سنَّته، وقد تواترت أقوال أهل العلم في بيان هذا المعنى، فقد رُوي عن قتادة في قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] يَقُول: "ردوه إِلَى كتاب الله وسنة رسوله إن كنتم تؤمنون بِاللهِ واليوم الآخر"([9])، ورُوي ذلك عن ميمون بْن مهران ومجاهد والأعمش، وعليه تفسيرات السلف رحمهم الله([10]).

         والحكمة في الردِّ إلى الكتاب والسنة هي: أنَّهما القادران على جمع الناس على قول واحد؛ فهو قول معصوم، على خلاف أقوال البشر التي تختلف باختلاف عقولهم وأفهامهم وتوجهاتهم؛ لذا كان من الضروري التَّأصيل والتَّأكيد الرجوع إلى الكتاب والسنة، وتقديم ما قدمهما هذان المصدران، وأن نجعل الكتاب والسنة هما المعيار الذي به نوزن أولوياتنا.

         وهذا لا يقتصر على الأمور الشرعية بل حتى في الأمور الدنيوية وفي حياة الإنسان العامة، فإن الإنسان يستصحب أوامر الله ونواهيه وما فيهما من مصالح ومفاسد في كل أمور حياته حتى يوازن حياته وفق مراد الله ورسوله، وتكون أولوياته الدينيَّة والدنيويَّة حسب معيار الكتاب والسنة، إيمانًا بأنَّ الشارع لا يأمر إلا بمصلحة، ولا ينهى إلا عن مفسدة، وفي هذا يقول العز بن عبدالسلام: "ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتبٍ متفاوتة؛ فمنها ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسَّط بينهما، وهو منقسمٌ إلى متفق عليه ومختلف فيه، فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما"([11]).

ثانيًا: العلم قبل العمل:

         لا شك أنَّه من المحكمات المنهجية التي تتعلق بفقه الألويات: معرفة أنَّ العلم قبل العمل، وقد نبَّه الله سبحانه وتعالى إلى هذه المحكمة في كتابه فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، وقد بوَّب البخاري في صحيحه بابًا فقال: "باب العلم قبل القول والعمل" قال ابن المنير: "أراد به أنَّ العلم شرطٌ في صحَّة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به فهو متقدمٌ عليهما"([12])، فالعلم قبل العلم في ترتيب الأولويات، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ظهور طائفة لا يجاوز القرآن حناجرهم([13])، فلا يفقهون القرآن ولا يعلمون ما فيه، وليس هذا الأمر متعلقًا بالدنيا فحسب، بل يتخذه الإنسان منهجًا في سائر حياته، فلا يبني مشروعه العلمي أو العملي الدنيوي إلا بعد العلم، ولأجل ترك هذه المحكمة في ترتيب الأولويَّات نجد عند بعض الأمة انحطاطًا في الفكر والسلوك والعبادة، فنجدهم يتقربون لغير الله، ويمرغون وجوههم بعتبات الأضرحة، ويعفرون أبدانهم بغبار القبور ذلًّا وخشوعًا، وكل هذا من آثار الجهل بالله وبدينه.

محكمات في الأوامر والنواهي:

         الشَّريعة الإسلامية مشتملة على كثيرٍ من الأعمال، وهي مختلفة متنوعة من جهة اختصاصها بالفرد أو المجتمع، ومن جهة كونها قلبية أو قولية أو فعليَّة، ومن جهة النفع القاصر أو المتعدي، ولا بدَّ للمسلم أن يرتب أولوياته في أعماله بالمعيار الذي ذكرناه وهو الكتاب والسنة.

         وقد مرَّ بنا أنَّ أول عمل وأفضله وأعظمه وهو الذي ينبني عليه قبول غيره هو توحيد الله سبحانه وتعالى، أمَّا ما سوى التوحيد فيمكن اعتبار المحكمات الآتية فيه:

أولًا: الواجبات أولى من النوافل:

         وهذا صريحٌ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي ممَّا افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتى أحبه"([14])، ونجد أنَّ هذه المحكمة غائبة عن كثيرٍ من المسلمين، فنجد من يهتم بأداء النوافل في الصلوات كالتراويح والوتر وغير ذلك ثم يغيب عن الصلوات المفروضات، ونجد من يحسن إلى الناس وهو مقصرٌ في إحسانه لأهل بيته وتعامله معهم بالحسنى، ونجد من يهتمُّ بالعلم والتعلم ويقصر في البر بالوالدين أو يعقهما، وغير ذلك، والشاهد أنه يحصل خلل كبير في ترك العمل بهذه المحكمة.

ثانيًا: فقه الأولويات في النوافل:

         يختلف ترتيب النوافل من شخصٍ لآخر، ومن وقتٍ لآخر، فما هو أفضل عبادة من النوافل آخر الليل ليس هو في وسط النهار، وما هو من أفضل العبادات في شهر رمضان ليس هو في غيره، وما يعد أفضل عبادة نافلة عند فلان لا يعد كذلك عند غيره.

         وقد بوَّب النَّووي رحمه الله بابًا في صحيح مسلم فقال: "بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل" وفيه قال رحمه الله: "فيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السَّلام على من عرفت ومن لم تعرف"([15])، وفي رواية: أي المسلمين خير؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده"([16])، وفي رواية جابر: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"([17])، قال العلماء رحمهم الله: قوله: أيُّ الإسلام خير؟ معناه: أي خصاله وأموره وأحواله. قالوا: وإنَّما وقع اختلاف الجواب في خير المسلمين لاختلاف حال السائل والحاضرين؛ فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهم لما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر إلى الكفِّ عن إيذاء المسلمين"([18])، إذن اختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم مراعاةً لحال المخاطب ولاختلاف الزمان وحال الحاضرين وغير ذلك من المعاني، والذي ننبه عليه هو: أنَّ الإنسان يقدم ما هو الأصلح لقلبه، فليست هناك قاعدة واحدة في ترتيب الأعمال النافلة.

ثالثًا: فقه الأولويات في أفضل الأعمال الدنيوية:

         أفضل الأعمال الدنيويَّة هو ما تمسُّ الحاجة إليه للأمة، وهذ يختلف باختلاف الزمان والمكان، فقد يكون أفضل الأعمال الزارعة والتجارة في زمان ومكان معينين، وقد يكون الاهتمام بوسائل العصر الحديث من التكنلوجيا والطب الحديث هو الأفضل حتى تستطيع الأمة أن تقدم في هذه المجالات ما يميزها عن غيرها، وقد روي عن الشافعي أنَّه قال: "إنَّما العلم علمان: علم الدين وعلم الدنيا، فالعلم الذي للدين هو: الفقه، والعلم الذي للدنيا هو: الطب"([19]).

رابعًا: فقه الأولويات في المناهي:

         كما تتفاوت الأوامر ما بين واجب ومستحب، وأعمال متعدية وأخرى قاصرة، فكذا المناهي لا تتساوى، ولا ينبغي للمسلم أن يساوي معصية بأخرى، ولا شك أن المسلم يسارع إلى التوبة كلما اقترف ذنبًا، لكن من اقترف معصية من الكبائر ليس كمن اقتصر شيئًا من الصغائر، ومن اقترف معصية تتعلق بحقوق الآدميين كالسرقة ليس كمن اقترف سيئة تتعلق بحق الله وحده.

         ومما لا خلاف فيه أن الشرك بالله أعلى أنواع المعاصي ومع ذلك فلم يساو الله بين الكفار، فقد شرع لأهل الكتاب أحكامًا تخصهم، وشرع لغيرهم أحكامًا أخرى، ومما ينبغي للإنسان أن يفعله هو الابتعاد عن المعاصي جملة، فإن كان لا بد لأي طارئ ضروري فإنه يُعمل فقه الأولويات، وهو ما يبينه العلماء بقولهم: "ارتكاب أخف الضررين"

وأخيرًا:

         لا يخفى ما للاهتمام بفقه الأولويات من آثارٍ على الفرد والمجتمع، وعلى العقيدة والفكر والسُّلوك والدَّعوة والإصلاح، كما أنَّ له أثرًا بالغًا في تعزيز الاعتدال والتوازن عن المسلمين، وفقدان فقه الأولويات يحدث خللًا في حضارة الأمة الإسلامية، وفي عبادة المسلمين واهتماماتهم، فغياب فقه الأولويات في الشريعة -مثلا- يؤدي إلى تقديم المفضول على الفاضل، وتقديم النافلة على الواجب، كما أنَّ غياب المحكمات وعدم بناء الأولويات عليها يسبب خللًا في المنهج، كما قد يؤدي إلى نزاع وصراع بين الطوائف والفرق، فإن المحكمات هي التي تجمع القلوب وتحدد المنهج الصحيح في فقه الأولويات، وأختم هذا المقال بقول ابن تيمية رحمه الله: "فتفطَّن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعيَّة والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف ومراتب المنكر حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإنَّ هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإنَّ التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، أو جنس الدليل وغير الدليل، يتيسر كثيرًا.

         فأمَّا مراتب المعروف والمنكر، ومراتب الدليل، بحيث يقدم عند التزاحم أعرف المعروفين وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين"([20]).

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

 

 

 

 

 

مراجع المقال:

1-    آداب الشافعي ومناقبه، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم، قدم له وحقق أصله وعلق عليه: عبد الغني عبد الخالق، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2003 م.

2-   اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي. المحقق: ناصر عبد الكريم العقل، الناشر: دار عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة: السابعة، 1419هـ - 1999م.

3-   تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، المحقق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999 م.

4-   تفسير ابن المنذر (كتاب تفسير القرآن)، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، قدم له الأستاذ الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي، حققه وعلق عليه الدكتور: سعد بن محمد السعد، دار النشر: دار المآثر - المدينة النبوية، الطبعة: الأولى 1423 هـ، 2002 م.

5-   تفسير البغوي (معالم التنزيل في تفسير القرآن)، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، المحقق : عبد الرزاق المهدي، الناشر : دار إحياء التراث العربي -بيروت، الطبعة : الأولى ، 1420 هـ.

6-   تفسير السمعاني، أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي، المحقق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس بن غنيم، الناشر: دار الوطن، الرياض – السعودية، الطبعة: الأولى، 1418هـ- 1997م.

7-   تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن)، لمحمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

8-   تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م.

9-   شرح كتاب التوحيد، المؤلف: عبد الرحيم بن صمايل العلياني السلمي، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.

10-                 شرح النووي على مسلم (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثانية، 1392هـ.

11-                 صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ.

12-                 صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.

13-                 فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1379هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

14-                 قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، طبعة: جديدة مضبوطة منقحة، 1414 هـ - 1991 م.

15-                 مجموع الفتاوى، لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1416هـ/1995م.

 

 



([1]) اخرجه مسلم برقم (2865).

([2]) أخرجه مسلم برقم (35).

([3]) شرح النووي على مسلم (2/ 4).

([4]) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1458)، ومسلم برقم (19).

([5]) مجموع الفتاوى (30/234).

([6]) ينظر: تفسير الطبري (18/ 427). وتفسير ابن كثير ت سلامة (5/ 337).

([7]) الحديث متفق عليه، متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1458)، ومسلم برقم (19).

([8]) ينظر في بيان أهمية توحيد الألوهية: شرح كتاب التوحيد، عبد الرحيم السلمي (1/ 11).

([11]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 8).

([12]) فتح الباري لابن حجر (1/ 160).

([13]) ينظر حديث رقم (3344) من صحيح البخاري، وحديث رقم (1063) من صحيح مسلم.

([14]) أخرجه البخاري برقم (6502).

([15]) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (12)، ومسلم برقم (39).

([16]) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (11)، ومسلم برقم (40).

([17]) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (10)، ومسلم برقم (41).

([18]) شرح النووي على مسلم (2/ 9-10).

([19]) آداب الشافعي ومناقبه (ص: 244).

([20]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 127).


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...