. 29 سبتمبر, 2022, 8:53 PM
تعد
نظرية «المعنى» من أهم مباحث فلسفة اللغة ، وحولها تدور فلسفاتها على اختلاف مناهجها،فقد
أضحت مشكلة فلسفية تعددت حلولها بتعدد مشكلاتها ومواقف المدارس والاتجاهات حيالها،
ومن تلك الاتجاهات الفلسفة التفكيكية التي أعادت إثارتها وبعثها من جديد ، لكن من زاوية
أخرى تنسجم مع رؤيتها الفلسفية ، فقد صاغتها
في سؤال مركزي وهو : هل للمعاني ثبات واستقرار
أم هي سائلة هلامية لا ثبات لها ولا استقرار ؟ .
وقد
تناول هذا البحث ـ بالتحليل ـ مشكلة «المعنى» كما يراها الاتجاه التفكيكي وموقفه منها،
ذلك لأن فكرة سيلان «المعنى» فكرة مركزية تدور عليها أطروحات الفلسفة التفكيكية باعتبارها
فلسفة لغوية.
وقد
عرض هذا البحث تلك الفكرة المركزية في الفلسفة التفكيكية وصاغها في صورة مركزة منتظمة
الأفكار مشتملة على تحليل محاور تلك الفكرة المركزية ، منتبهاً في الوقت نفسه إلى ضرورة
إبراز الرؤية الفلسفية المفسرة للنظرية التفكيكية على وجه العموم.
ولذلك
تمحور البحث حول ثلاثة أمور: الأول -
تأصيل موجز لمشكلة المعنى المرتبطة باستقرار المعاني وثباتها،وجعلها معيارا
لنقد الفلسفة التفكيكية، والثاني -
تحليل النظرية اللغوية للفلسفة التفكيكية المتمثلة في «المعنى»، والثالث
- ربط تلك المفاهيم والأدوات
الإجرائية للفلسفة التفكيكية بخلفيتها الفلسفية القائمة على مفاهيم فلسفة الشك اللامركزية.
وقد كشف هذا البحث عن حقيقة
المشروع التفكيكي الذي يعد من أعظم المشاريع الهدامة للغة ووظيفتها التواصلية وما يترتب
عليها من بناء العلوم والحضارات ، ذلك لأنه دمر العملية التواصلية للغة برمتها ، فقد
نسف أركان تلك العملية الحضارية المكونة من المؤلف والقارئ والنص ، فهو مشروع عقيم
لا خير فيه للحضارة،بل هو «ذئب الحضارات الإنسانية».
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
فلعل أهم ما يميز الفكر الغربي المعاصر من غيره اصطباغه بالصبغة
العدمية الرافضة لكل المرجعيات الفكرية والخلقية، والهادفة إلى نسف أساس الحقيقة،
وإلى تقويض الإنسان بعد أن قوض علاقته
بربه، فلا أعلام ولا منارات يهتدي بها في متاهات تلك العدمية المظلمة، لأنه ليس
لفكرها مركز أو مرجع أو غاية أو هدف، ولذلك عصفت بالفكر الغربي في مراحله الأخيرة
وعبثت بثوابته الفكرية، ورمت به في متاهات وثقوب سوداء دوامة تلف كل ما يصادفها في
بحور من الظلام والشك.
وقد مَثل فكر" ما بعد الحداثة "تلك العدمية
في أبلغ صورة، حيث قام أكبر تياراتها
الفلسفية – وهي التفكيكية- بفرض وتعزيز تلك الرؤية العدمية على ساحة الفكر
الغربي، وتسربت ابتداء إلى ثقافتنا العربية والإسلامية عبر بوابة الأدب، لكنها لم
تلبث أن تعاظمت وكوَّنت نظريات عبثية عدمية
تحاول إخضاع النصوص المقدسة القرآنية
إلى منطقها العبثي من خلال بوابة المدارس التأويلية الحديثة.
وأحسب أن مشكلة الفلسفة التفكيكية المباشرة-
باعتبارها نظرية لغوية في الأصل- تكمن في " المعنى"، ولذلك كان عنوان
هذا البحث يتمحور حول"المعنى" اللغوي،
ولم أنس في تناولي لهذه المشكلة اللغوية ربطها بالمشكلة الأم وهي المشكلة الفلسفية
المعرفية ،فكثيرٌ من نقاد الأدب والفكر في عالمنا العربي يغيب هذا الأصل إما عمداً وإما جهلاً!!
لا أزعم أنني سآتي بجديد على مستوى مضمون
البحث ، وأنى لي ذلك؟ إذ قد أشبعت الفلسفة التفكيكية شرحاً ونقداً من خلال مئات
المقالات وعشرات الكتب، وإنما الجديد الذي أتطلع إليه طريقة تناول الموضوع بالبحث،
فقد حاولت تقديم عصارة ما قرأته في صورة مركزة منتظمة الأفكار، مشتملة على تحليل
محاور الموضوع الرئيسة ، ناظماً تلك
المحاور في خيط واحد يمثل الرؤية الفلسفية
للنظرية التفكيكية،مدركاً في الوقت نفسه ضرورة الاختصار في الشرح والتحليل لمناسبة
مقتضى الحال.
ولا أخلى هذا المقام من ذكر الصعوبات التي
واجهتني في هذا البحث وكان أبرزها قلة المصادر الأساسية الأجنبية المترجمة في
موضوع الفلسفة التفكيكية إما نقداً وإما تقريراً ، لكنني حاولت تدارك هذا العجز
بما تيسر لي من الكتب، لاسيما تلك النصوص المترجمة التي حوتها كتب الدكتور
عبدالعزيز حمودة، وبالأخص كتابه "المرايا المحدبة"، فقد استفدت كثيراً من
النصوص التي ترجمها في أثناء بحوثه، وحاولت توظيفها في البحث بما يخالف أحياناً
رؤية الدكتور حمودة.
هذا
لأني حريص على إيراد نصوص أقطاب الفلسفة التفكيكية الغربيين خاصة ، أمثال "رولان
بارت وجاك دريدا وميللر وبول دي مان"،فهم أصدق من يصف جوانب فلسفتهم، وبذلك
لم أحرص على إيراد نصوص من يمثل التفكيكية في العالم العربي لأنهم في الحقيقة تبع
لغيرهم.
مدخل عام
أولاً : مشكلة المعنى
وتأسيس الحل :
مشكلة "المعنى" من أهم مباحث
فلسفة اللغة اليوم، فقد أصبحت مبحثاً مستقلاً عكفت على مناقشته وبيان مباحثه
دراسات كثيرة بمناهج متعددة.
وقد برزت تلك المشكلة على الساحة الفلسفية
من جراء الأسئلة الملحة المتواردة على أذهان فلاسفة اللغة، من مثل ما العلاقة بين
اللفظ والمعنى ؟ وما معنى المعنى أصلا ؟ وما معياره الصحيح ؟ وهل المعنى تصور ذهني
أو إشارة إلى شيء معين أم هو وسيط بين اللفظ والشيء ؟ وهل يمكن تعدد المعنى ؟ وما
علاقته بقائله أو بكاتبه أو بقارئه ؟! إلى آخر هذه الأسئلة التي تبرز بعض مشاكل "المعنى".
وما من مسألة من مسائل مشكلة المعنى إلا
وفيها نظريات متعددة تحاول حل مشكلة المعنى من خلال تلك المسألة المعينة، مثل
مسألة طبيعة العلاقة القائمة بين اللفظ ومعناه، ومسألة نوع العلاقة القائمة بين
اللفظ ومعناه، ومسألة طبيعة علاقة اللفظ بالأشياء الخارجية، ومسألة العلاقة بين
المعنى والتعريف ... إلى آخر تلك المسائل الكثيرة والنظريات المتعددة.
ولا ريب أن "المعنى" هو روح
اللغة، إذ لا قيام للغة بغير معنى، فالمعنى هو ما يتم التعبير عنه باللغة لإيصاله
إلى الآخرين، والتعبير والاتصال هما الوظيفتان الأساسيتان للغة، والبحث عن "المعنى"
– في فلسفة اللغة – لا يعني البحث عن معنى لفظة أو رمز معين كما تفعله القواميس
اللغوية، ولا يعني البحث عن قواعد نطقها الصحيح كما يفعله علم النحو، ولا يعني
البحث عن معناها البياني أو البلاغي كما يفعله علم البلاغة، بل المراد بالبحث عن
المعنى في فلسفة اللغة هو البحث عن منطق اللغة وعلاقة دلالتها باستخدامها، أو
بمعنى آخر "أن نبحث في الشروط التي يجب توافرها حتى يكون للكلمات أو الجمل
معنى"([1]).
لكن هنا سؤال مركزي وهو ما معنى
"المعنى" ؟
يجيب الجرجاني صاحب "التعريفات"
عن هذا السؤال بتقريره أن المعنى "الصورة الذهنية من حيث إنه وضع بإزائها
الألفاظ والصور الحاصلة في العقل، فمن حيث إنها تقصد باللفظ سميت معنى، ومن حيث
إنها تحصل من اللفظ في العقل سميت مفهوماً"([2]).
فالمعنى والمفهوم وجهان لعملة واحدة، إذ
حقيقتهما "الصورة الذهنية" فإذا كان المقصود بالصورة الذهنية هو اللفظ
سميت في هذه الحالة "معنى"، وإذا كانت "الصورة الذهنية" هي ما
نفهمه من اللفظ سميت مفهوماً، وبهذا يمكن أن يحدد "المعنى" بأنه "الصورة
الذهنية" التي يناظرها ألفاظ، أو بأنه المفهوم الذي يفهم من تلك الألفاظ.
وكون المعنى صورة ذهنية ليس بشيء جديد كما
يصوره دعاة الحداثة ناسبين ذلك التجديد المزعوم لفيلسوفهم "سوسير" – وستأتي
الإشارة إليه لاحقاً– بل هذا هو المستقر عند علمائنا من اللغويين والفقهاء.
ومع اتفاق النظرية اللغوية الحديثة مع النظرية اللغوية العربية
في كون "المعنى" صورة ذهنية، إلا أن بينهما فارقاً جوهرياً بالغاً، وهو
أنه في الوقت الذي تعزل فيه الحداثة المعنى عن الواقع الخارجي المتمثل في الإشارة
إلى الأشياء الخارجية ومنشئ المعنى "المتكلم" تؤكد النظرية اللغوية
العربية اشتراط ارتباط "المعنى" بالأشياء الخارجية -وعلى رأسها المتكلم
والسامع أو الكاتب والقارئ- في تحقيق المعنى.
وهذا بعينه ما قرره الجرجاني اللغوي صاحب دلائل
الإعجاز بقوله : "... من الثابت في العقول والقائم في النفوس ألا يكون خبر
حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، لأنه ينقسم إلى إثبات ونفيه، والإثبات يقتضي مثبتاً
ومثبتاً له، والنفي يقتضي منفياً ومنفياً عنه، فلو حاولت أن تتصور إثبات معنى أو
نفي من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه حاولت ما لا يصح في عقل، ولا يقع وهم،
ومن أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء مظهر أو
مقدر مضمر، وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك وصوتٌ تصوته سواء"([3])،
وفي موضع آخر يقول : "... قد أجمع العقلاء على أن العلم بمقاصد الناس من
محاوراتهم علم ضرورة ..." ([4]).
فـ "المعنى" مركوز في الذهن
واللفظ دليل عليه وهو مطابق للموجود الخارجي، هذا ما قرره ابن تيمية بقوله : "اللفظ
يطابق المعنى الذهني، والمعنى يطابق الموجود الخارجي"([5]).
فاللإرتباط الوثيق بين "المعنى"
والخارج كان قصد المتكلم ومراده شرطاً في تحقق المعاني، وتعزيزاً لسلطة النص
واستقراره وثباته، وهذا مما يعلم ببدائة العقول([6]).
وإلا أخفقنا في تحقيق المعنى كما أخفقت الحداثة ممثلة في البنيوية أو كما انتهت
التفكيكية في مشروعها النقدي إلى تحقيق "اللامعنى" !!.
على أنني أنبه - في هذا السياق- إلى أن
بحثي هذا لا يتعلق بجميع مشكلات المعنى، لأن مشكلات المعنى واسعة ومتعددة جداً، بل
يتعلق بحثي بالمشكلة التي أثارتها الفلسفة التفكيكية، التي تتمثل في سؤال مركزي
وهو: هل للمعاني ثبات واستقرار ؟ أم هي سائلة هلامية لاثبات لها ولا استقرار ؟ أو
بمعنى آخر هل للغة دلالات ومدلولات
متماسكة ؟ أم هي دالات لا مدلولات لها ؟.
ثانياً : الموقف المجمل
للفلسفة التفكيكية من مشكلة المعنى وتفسير موقفها :
مشكلة الفلسفة التفكيكية مشكلة معرفية أنطولوجية
قبل أن تكون مشكلة لغوية، ويصعب إن لم يكن مستحيلاً إدراك أبعاد الفلسفة التفكيكية
إلا بعد إدراك الخلفية الفلسفية، التي بإمكانها أن تكشف لنا مسارب وأزقة ومسارات
لعبة التيه التي تمارسها الفلسفة التفكيكية في قراءتها للنصوص.
فالكشف عن المنابع الفلسفية للتفكيك مدخل
هامُّ لفهم أبعاد فلسفتها اللغوية، إذ إن واقعها اللغوي نتيجة لنظرتها الفلسفية لا
العكس، مثلها مثل الفلسفات اللغوية الأخرى، ذلك لأن النظرة الحديثة للغة تغيرت
تغيراً ملحوظاً بناءً على المواقف الفلسفية من علاقة الأضلاع الأربعة بعضها ببعض،
والتي تمثل الأسس الثقافية للفلسفة الغربية، وهي عالم الميتافيزيقا وعلى رأسه
" الله"، والعالم المادي الفيزيقي" الطبيعة"،
"والإنسان"، " ثم اللغة باعتبارها أداة التعبير عن المعرفة التي
تولدها تلك العلاقات المتشابكة([7]).
ولذلك
يذهب بعض الباحثين إلى أن السبب في ظهور الاهتمام بفلسفة اللغة في العقود الأخيرة
من الحضارة الغربية يرجع إلى غياب فكرة الكليات الفلسفية، إذ بغيابها نشأت مشكلة
علاقة اللغة بالواقع([8]).
فالمواقف
الفلسفية سبب لنشوء مشكلات المعنى المتعددة، وبناء عليه فإن بيان مشكلة المعنى في
الفلسفة التفكيكية متوقف على بيان أمرين:
الأول:
بيان الحالة الفلسفية الغربية العامة، وموقع فلسفة التفكيك منها.
الثاني:
انعكاس الحالة الفلسفية على نظرة الفلاسفة الغربيين للغة، والموقف الإجمالي لفلسفة
التفكيك من تلك النظرة للغة.
الأول:
الحال الفلسفية العامة:
مَّرت
الفلسفة الغربية بمرحلتين: الأولى يمكن أن نصفها بالمرحلة المركزية، والثانية
بالمرحلة اللامركزية ، وأعني بـ " المركزية" – هنا- قيام التصورات الفلسفية على وجود مركز للكون، قد
يكون خارج هذا الكون المادي في مرحلة ما كالمثل الأفلاطونية، وقد يكون داخل ذلك
الكون المادي في مرحلة أخرى كسلطة العقل أو الحواس أو الوجدان الباطني، وربما تقود
تلك المراكز الفلسفية إلى مراكز أكبر مثل" الله" و"الإنسان".
هذه
هي المركزية الفلسفية ، والتي يطلق عليها في أدبيات ما بعد الحداثة وصف "ميتافيزيقا الحضور"،
ومعنى الحضور عند الفلاسفة كون الشيء حاضراً، إما حضوراً مادياً وإما حضوراً
معنويا([9]).
المرحلة المركزية:
في
هذه المرحلة تسعى الفلسفة إلى مناشدة الاستقرار الفكري والتماسك المنطقي واليقين
المعرفي، وقد بدأت تلك المرحلة مبكراً في الفكر الغربي وسادت أكثر مراحله وعصوره،
وكان أبرز أعلامه الفيلسوف " أفلاطون" الذي جعل مركزيته الفلسفية في
الإيمان بوجود" عالم المثل" العالم الكلي الثابت المتجاوز للعالم المادي،
فقد جعله هدفاً فلسفياً ومعرفياً بل ممثلاً للحقيقة النهائية، من أجله توظف الحواس
والعقل واللغة، وتصبح مجرد آليات للوصول إلى تلك الحقيقة النهائية([10]).
ظلت
المنظومة الأفلاطونية مسيطرة على الاتجاهات الفلسفية من بعدها ، حتى جاء المشروع
التحديثي الذي يصفه بعض الباحثين بـ" العقلانية المادية([11])"،
ذلك لأنه ينطلق من إيمانه بأن الواقع المادي الموضوعي يحوي داخله ما يكفي لتفسيره،
دون الرجوع إلى غيب، وأن العقل قادر على تفسير كلي شامل للعالم دون الرجوع إلى
ميتافيزيقا تتجاوزه للطبيعة والمادة.
في
أحضان مركزية العقلانية المادية تكونت اتجاهات الفلسفة الحديثة الكبرى، الاتجاه
العقلي والحسي والنقدي، فالاتجاه العقلي جعل العقل مركزاً لتفسير الكون دون حاجة
إلى غيب أو عالم آخر غير العالم الذي نعيشه، وأما الاتجاه الحسي فقد جعل الحس
مركزاً لتفسير الكون دون الرجوع كذلك إلى عالم آخر، وهكذا الشأن في الاتجاه النقدي
الذي جمع بين العقل والحس وجعلهما مركزاً معرفياً لا يفتقر إلى خارج العالم
المادي.
المرحلة اللامركزية:
بدايات
هذه المرحلة يمكن أن ترجع إلى الفيلسوف هيوم الذي بذر بذرة الشك واللامركزية في
الفكر الغربي، إذ بدأ يشكك في مركزية العقل والحواس، فحاول إبطال ركائز العقل
الأولية، لاسيما مبدأ السببية وهو أحد مراكز ومحاور الفلسفة العقلية، وبعد تشكيكه
في مركزية العقل طفق يشكك في مركزية الحواس وهي حقائق الأشياء الخارجية، فقد شكك
في وجودها الموضوعي وردها إلى الذات([12]).
أخذت
هذه الثورة الشكية تتنامى وتتعاظم حتى انفك الفكر الغربي عن مركزيته وفلكه الذي
يدور عليه، ووقع في دوامة الصيرورة والعبثية والفوضوية، وقد طرحت في هذه المرحلة
أسئلة ملحة على العقل الغربي من مثل: لماذا تنسب للعقل المقدرة على تجاوز الأجزاء
وإدراك الكليات والإفلات من قبضة الصيرورة؟ كيف يمكن وجود معرفة يقينية بالعالم
الخارجي، وهو في حالة حركة دائبة وتغير؟!
وبلغت
المرحلة اللامركزية في الفكر الغربي ذروتها عند الفيلسوف نتشه فيلسوف العبثية الأول،
الذي أعلن حربه على المركزية الفكرية بعبارته الشهيرة "مات الإله" والتي
يعني بها – كما يقرره الفيلسوف هايدجر :"العالم الذي يتجاوز عالمنا، عالم
الحواس، الإله هو اسم عالم الأفكار المثاليات والمطلقات والكليات والثوابت والقيم
والأخلاق"([13]).
ولذا
بدأ نتشه فلسفته بتحطيم ما يسميه ـ" أصنام الفلسفة" وعلى رأسها الصنم
الأكبر" العقل"، وكان همُّه تحرير الإنسان مما يسميه
بـ"الأوهام" مثل الثبات والميتافيزيقا والكلية، واليقين ، والمطلق([14]) ،
وأصبح العالم في نظره " نسقاً سائلاً بلا يقين أو معنى أو غاية أو كينونة أو
هوية، والإنسان يصبح بلا ذات ولا حدود ولا استقلال ولا مركزية"([15]).
احتضنت
الفلسفةُ التفكيكية فلسفةَ اللامركزية بعبثيتها وفوضويتها وعدميتها، واستلهمتها
وزادت عليها، ومن ثم انعكست على فلسفتها اللغوية انعكاس الصورة على المرآة، ومن
أجل ذلك فإنه لا يمكن فهم ألغاز وأحجيات الفلسفة التفكيكية في عزلة عن فلسفة الشك
والعبثية اللامركزية.
وفي
لغة واضحة على غير عادته يربط عرَّاب الفلسفة التفكيكية " جاك دريدا"
فلسفته اللغوية بفلسفة اللامركزية الشكية، إذ يقول:" منذ الوقت أصبح من
الضروري التفكير بأن المركز لا وجود له ، وأن المركز ليس له موقع طبيعي، وأنه ليس
موقعاً ثابتاً، بل وظيفته نوع من اللاموقع الذي يلعب داخله، عدد لا نهائي من بدائل العلامات، تلك هي اللحظة التي أصبح عندها كل شيء في غيبة
المركز أو الأصل خطابا..." ([16]).
إذن
غياب المركز هو الذي يفسر ثورة التفكيكية على البنبوية ويوضح تحويل التفكيكية
اللغة إلى سلسلة لا نهائية من الدالات واللعب الحر والمراوغة المستمرة واستحالة
المعاني([17]).
فالقانون
أو اللاقانون الذي يفرض نفسه على تصورات التفكيكية الفلسفية والمنطقية هو الصيرورة
والتغير وعدم الثبات، فالعدو اللدود للفلسفة التفكيكية هو الثبات والنظام، سواء أكان ثباتاً ونظاماً دينياً أم إنسانيا إلحادياً،
فليست التفكيكية معادية للمنظومات الدينية فحسب ، بل لكل المنظومات الدينية وغير
الدينية.
الثاني:
انعكاس الحالة الفلسفية على النظرة للغة:
تذبذب الفلسفة الغربية بين المركزية واللامركزية،
وبين اليقين والشك، وبين الداخل والخارج، والذات الموضوع، الذي يمثله تنازع
الاتجاهين الفلسفيين الكبيرين الاتجاه العقلي والاتجاه الحسي، ذاك التذبذب والتنقل
أثر على نظرة الفلاسفة للغة لاسيما في علاقة الدال بالمدلول.
فقد
مرت اللغة في النظرة الفلسفية بمرحلتين:
الأولى:
مرحلة الشفافية أو التصوير والتمثيل، ففي هذه المرحلة صورت الفلسفة اللغة بأنها
وسيط تمثل بأصواتها وكلماتها الأشياء الخارجية التي تشير إليها دون زيادة أو
نقصان، وهذا معنى كونها شفافية.
فاللغة-
في هذه المرحلة – ما هي إلا وعاء أو أداة شفافة، يمكن عن طريقه تصوير أو تمثيل شيء
ما في العالم الخارجي أو مفهوم عقلي وُلِدَ
من التجربة الحسية.
وقد
سادت هذه المرحلة الفكر الفلسفي الغربي منذ أفلاطون وأرسطو إلى أن جاءت الثورة
الحديثة على هذا المفهوم التقليدي في
المرحلة الثانية، إلا أن مما يلاحظ في هذه المرحلة الإرتباط الوثيق بين الداخل أعني
به اللغة وبين الخارج أعني به المشار إليه، فهناك ارتباط قوي بين الدال "
اللغة" وبين المدلول باعتباره واقعاً خارجياً يشار إليه، وأظهر من يمثل هذه
المرحلة في الفكر الغربي المعاصر، الوضعية المنطقية في الفلسفة، والواقعية في الأدب.
الثانية: مرحلة
الاستقلال والانغلاق:
وهذه المرحلة الجديدة التي انفصلت فيها
اللغة عن الواقع وأصبحت نسقاً مستقلاً بذاته، إذ لم تعد اللغة وعاء شفافاً يظهر
الأشياء الخارجية ويمثلها ويصورها، بل أصبحت اللغة متعلقة بمفاهيم الأشياء ولا
علاقة لها بالأشياء نفسها.
و
هذه مؤداها أمران: الأول: الفصل بين الدال ومدلولاته المادية الخارجية فليست
الكلمة ممثلة لشيء محدد في الواقع الخارجي، بل هي من مكونات نظام ونسق لغوي له
قانونه الخارجي لإنتاج المعنى.
والثاني:
أسبقية اللغة على الوجود، فاللغة في هذه المرحلة ليست مجرد فعل بتسمية الأشياء
الخارجية، بل هي المنظم للعالم الخارجي، وهذا بحق انقلاب ضد المرحلة التقليدية
للغة، فاللغة – في هذه النظرة الحديثة – هي التي تحقق وجود الأشياء وتحدد قيمتها،
ولو كانت الأشياء سابقة في الوجود على اللغة لأوجبت وحدة اللسان الإنساني، لكن هذا
محال لاختلاف اللغات، فلا يمكن إدراك وجود الأشياء إلا بعد دلالة اللغة عليه.
أثرت
تلك النظرة الحديثة للغة – التي نظر لها الفيلسوف السويسري فريناند سوسير- على
مدارس النقد الحديثة كالشكلية الروسية ومدرسة النقد الجديدة والبنيوية والتفكيكية،
إلا أن كل تلك المدارس خرجت في عهد سيطرة الفلسفة المركزية ما عدا التفكيكية فإنها
ظهرت في مرحلة اللامركزية العدمية، والتي أثرت تأثيراً بالغاً على فلسفتها اللغوية
وموقفها من تحقق المعنى .
فإذا
كانت المدارس السابقة بما فيها البنيوية تفترض إمكانية توليد المعنى لاعتقادها
بارتباط اللفظ" الدال" بـ المعنى" الصورة الذهنية" رغم انفصال
الدال عن مدلولاته المادية الخارجية فإن التفكيكية ترى استحالة تحقق المعنى، لأنه لا
مرجعية في الإحالة إلى الخارج ولا ارتباط بين اللفظ والمعنى، فليس هناك إلا ألفاظ
لا معاني لها ودالات لا مدلولات لها، ولا يعني هذا إلا الفوضى الشاملة، وهذا ما
عناه " ليتش" في وصفه للتفكيكية
إذ يقول:" إن التفكيكية المعاصرة باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل
تخرب كل شيء في التقاليد تقريباً، وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلامة واللغة
والنص والسياق، والمؤلف والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير وأشكال الكتابة النقدية،
وفي هذا المشروع فإن المادي ينهار ليخرج شيء فظيع"([18]).
بقى أن أنبه إلى ملحظ مهم حول أبعاد علاقة
الدال بالمدلول، فليس طابع العلاقة بينهما طابعاً لغوياً فحسب، بل وراءه أبعاد
فلسفية ومعرفية، وهذا ما أدركه الدكتور عبدالوهاب المسيري، إذ يقول في وصف انفصال
الدال عن المدلول : " هي عبارة اصطلاحية تستخدم في علم اللغة أساساً، ولكنها
أصبحت مقدمة فلسفية لكثير من النتائج التي يتأسس عليها النظام المعرفي ما بعد
الحداثي بكل ما يضمر من عدمية فلسفية"([19]).
ومن نتائجه الفلسفية تهميش علاقة العقل بالوجود الخارجي، وابتعاد اللغة عن الواقع الذي
هو بمثابة المرجع الثابت، وهذا يؤدي إلى وقوع اللغة في الصيرورة والتغير الدائم.
وهذا
بعينه حقيقة المنطلقات الفلسفية للتفكيكية التي تملي عليها وظيفة التفكيك لكل
الثوابت أو بالأحرى التقويض إذا نظرنا إلى ما وراء الكلمة لا الكلمة في ذاتها،
وهذا ما اعتبراه مؤلفا " دليل الناقد الأدبي" إذ ترجما التفكيكية بالتقويضية لأن التعبير
بالتقويض أدق وأقرب إلى مفهوم منظر التفكيكية "جاك دريدا"([20])
الذي يعد المنظر الأول للتفكيكية وإن كان
سبقه بعض النقاد مثل" رولان بارت"، إلا أن "دريدا" هو
الذي أرسى دعائم التفكيكية في مشاركته
المشهورة في الندوة التي نظمتها جامعة جون هوبكنز حول موضوع " اللغات
النقدية وعلوم الإنسان" في أكتوبر من عام 1966م([21]).
المبحث الأول: سيلان
المعنى
تمهيد:
إذا
كانت الفلسفة التفكيكية مرتبطة بالفلسفة اللامركزية – كما قد سبق بيانه في المدخل –
فإن المعرفة في نظرها كيان متغير ودائم التحول في دوامة من الصيرورة اللامتناهية،
لا مركز ثابت لها، فليس في الفلسفة التفكيكية مركز للوجود لا جوهر ولا كينونة ولا
حقيقة ولا وعي ولاإله ولا إنسان ولا سلطة، فكل المعارف – في نظرها – معارف
افتراضية لا حقيقة لها ولا يقين لموضوعيتها.
فوظيفة
الفيلسوف التفكيكي هو تفكيك وتقويض أي مركز ثابت سواءً أكان مركزاً فلسفياً
وجودياً أم مركزاً منطقياً مثل" المعنى" ، وهذا ما عناه رائد الفلسفة
التفكيكية "جاك دريدا" في سياق وصفه لمنهج القراءة التفكيكية ، إذ
يقول"" نعرف أن التفكيك يتحول ، إن عاجلاً أو آجلاً إلى كل قراءة نقدية أو تركيبة نظرية، حينما يتم
اتخاذ قرار تظهر السلطة، حينما تعمل النظرية أو النقد عندئذ يشكك التفكيك بمجرد أن
يفعل ذلك يصبح مخرباً... وفي نهاية الأمر يحقق التفكيك مراجعة التفكير
النقدي"([22])
.
فالهدف
المنطقي لفلسفة التفكيك هو فتح النص ، ولا يتم هذا إلا بزعزعة استقرار المعاني
وثباتها وتحويلها من مرحلة التجلط والتخثر – كما يعبرون عنه – إلى مرحلة السيولة
والسيلان، ومن مرحلة الثبات والتماسك إلى مرحلة التناثر والاضمحلال.
ولما
كانت مظاهر سيلان المعاني في الفلسفة التفكيكية متمثلة في أمرين: أولهما الكلمات
المفردة من حيث دلالاتها ، وثانيهما الجمل من حيث دلالاتها أيضاً، ناقشت المظهر
الأول في" لا نهائية الدلالة" والمظهر الثاني في" التناص"،وإني
آملُ أن يتكفلا ببيانهما.
ولا
أخلي هذا المقام من التنبيه على طبيعة مفردات وعناصر ومعالم الفلسفة التفكيكية فهي
أشبه ما تكون بالخيوط المتشابكة المتقاطعة تنسج بواسطتها الرؤية التفكيكية ، فلا
يمكن عزل بعضها عن بعض ولا يغني عنصر عن عنصر، وكل معلم يحمل آثار معلم آخر،
والنتيجة أن الفلسفة التفكيكية عبارة عن شبكة من المفاهيم المتداخلة المعقدة،
فمفهوم لا نهائية الدلالة مرتبط بمفهوم التناص وهما متربطان بمفهوم الأخترجلاف،
وكلها مرتبط بشعار التفكيكية "كل قراءة إساءة قراءة" ، فنقطة البداية في
فلسفة التفكيك هي نقطة النهاية.
أولاً: إرهاصات سيلان
المعنى:
بدأت
إرهاصات سيولة المعنى في النظام اللغوي منذ بناء سوسير لنموذجه اللغوي ، فقد كانت
نظريته اللغوية منطقاً لما بعدها من البنيوية وما بعد البنيوية أعني بها التفكيكية.
وأبرز
ما في نظرية سوسير هو رفض النظرية التقليدية التي تقول بشفافية اللغة بناء على أن
العلامة اللغوية تتكون من "دال" يشير إلى شيء خارجي" مدلول"
يد ل عليه ويمثله ويصوره .
فلم
يعد الدال- في نظر سوسير - يشير إلى شيء مادي خارجي، بل لا يشير إلا إلى مفهوم
الشيء أو فكرته في الذهن، فميدان البحث عن المعنى هو اللغة نفسها لا خارج اللغة،
ذلك لأن اللغة مستقلة عن الواقع ليست بحاجة له([23]).
وبذلك
فقد نسف " سوسير" مرجع الإحالة الخارجي الثابت الذي يضفي على المعنى
ثباتاً واستقراراً ، وربط تحقيق المعنى بالعلامة اللغوية المكونة من دال "اللفظ"، ومدلول "الصورة
الذهنية" ولا علاقة لها بالخارج، وهذه بدايات ضياع المعنى.
يتفق
التفكيكيون مبدئياً مع الصيغة السوسيرية التي تقرر نسف الإحالة الخارجية وينطلقون
من مفهوم استقلال اللغة عن الواقع وأسبقيتها،
لكنهم خالفوا الصيغة السوسيرية والبنيوية في
علاقة الدال" اللفظ" بالمدلول " الصورة الذهنية"، فإذا كانت
البنيوية – متأثرةً بسوسير – تسمح بقدر من المراوغة بين الدال والمدلول وبذلك تسمح
بتعدد المعاني في حدود مركزية النسق، فإن التفكيكية تباعد بينها بحيث تغيب المدلول
وتبقى اللغة دالات لا مدلولات لها، وسبب ذلك نسفها لأي مركز للمعاني ومنها مفهوم النسق
البنيوي الذي يضفي على المعاني قدراً من الثبات.
وإذا
كانت هناك إمكانية لتوليد المعنى في النظرية السوسيرية والبنيوية لوجود المركز،
فإنه يستحيل إمكانية انتاج المعنى في الفلسفة التفكيكية، وسبب ذلك أن النظام
السوسيري والبنيوي قائم على مفهوم إغلاق النص المرتبط بمفهوم النسق عندهم، وهو
" مجموعة القوانين والقواعد العامة التي تحكم الإنتاج الفردي للنوع وتمكنه من
الدلالة"([24]).
وإذا أردنا تقريب معناه قلنا: هو ما يسميه البلاغيون العرب بـ"النظم"
المرتبط بالقواعد النحوية والظروف الاجتماعية والثقافية، لكنه عند البنيويين قابل
للتغيير والتكيف مع الظروف الاجتماعية والثقافية المستجدة.
وفي
بيان النسق أو النظم وأهميته في عملية التواصل اللغوي يقول الجرجاني:"
الألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضرباً خاصاً من
التأليف ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب، فلو أنك عمدت إلى بيت شعر أو فصل
نثر فعددت كلماته عداً كيف جاء واتفق وأبطلت نظامه الذي عليه بُني، وفيه أفرغ
المعنى وأجري وغيرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد كما أفاد، وبنسقه المخصوص أبان
المراد، نحو أن تقول في (قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل) (منزل قفا ذكرى من نبك حبيب)
أخرجته من كمال البيان إلى محال الهذيان ... وهذا الحكم – أعني الاختصاص في
الترتيب – يقع في الألفاظ مرتباً على المعاني المرتبة في النفس، المنتظمة فيها على
قضية العقل"([25]).
فاعتراف
البنيويين بضرورة النسق لبناء المعنى أوجب لهم القول بإغلاق النص بمعنى رفض أي
معنى يتجاوز النسق اللغوي فهو أشبه بسياج يحمي النص من التشتت، وكذلك فإن آلية
إنتاج الدلالة تعتمد على شكلية العلاقات الداخلية التي تربط بين أنساق النص، وهذا
يؤدي إلى القول بإمكانية تحقيق المعنى، وهو ما يرمي إليه " سوسير" ولا
أدل على ذلك من تقريره لوظيفة اللغة الاتصالية في نظريته الاتصالية والتي تفترض
مرسلاً ومتلقياً([26]).
لكن
اللغة بالمفهوم السوسيري - التي هي عبارة عن العلاقات بين الدالات والمدلولات بين
الوحدات داخل نسق النص – ما هي إلا وهم وخرافة عند التفكيكين، فلا وجود لمفهوم
النسق ولا اعتبار بمفهوم المدلول ، بل الاعتبار يكون بالفجوة اللانهائية بينهما بحيث تختفي فيها
العلاقة اللغوية، وينفتح فيها النص إلى ما لا نهاية من المدلولات فليس هناك إلا
اللعب الحر بينهما.
والمقصود
أن بدايات وإرهاصات سيولة المعنى وضياعه كانت من مشروع سوسير الذي نسف فيه المرجع
والإحالة الخارجية، ثم جاءت البنيوية لتقرر المراوغة بين الدال والمدلول، وهذه
بذرة ثانية للتفكيك ، ثم توجتها الفلسفة التفكيكية في نظريتها اللغوية.
فالتفكيكية
وإن كانت امتداداً للبنيوية إلا أنها في الوقت نفسه ثورة عليها، وسبب ذلك إخفاق
البنيوية في تحقيق المعنى، فإنهم أخفقوا في تحديد المعنى وهربوا إلى تعدد المعنى،
فالنص – عندهم – يشتمل على فجوات وصوامت يجب
على القارئ سدَّ تلك الفجوات وإنطاق تلك الصوامت، وهذه حقيقة القراءة اللصيقة
عند البنيوية ، " هذه الجوانب الصامتة هي التي يجب أن يتوقف عندها الناقد
ليجعلها تتكلم ، فالنص قد يحرم – أيديولوجيا – قول أشياء معينة، ويجد المؤلف نفسه
... مضطراً إلى الكشف عن ثغراته وصوامته، أي الكشف عما هو غير قابل لأن يقال"([27]).
فافتراض
المراوغة بين الدال والمدلول عند البنيوية قادهم إلى إخفاق ذريع في تحديد المعنى،
وهو نفسه الذي قاد التفكيكية إلى إخفاق أشد، فالقارئ من المنظور البنيوي له حرية
إنطاق الصوامت وملء الفجوات بين الدال والمدلول، إلا أنها حرية منقوصة لأنها
مرتبطة بمركز وهو الأنساق اللغوية وربما الاجتماعية والاقتصادية لاسيما عند
البنيوية الماركسية.
وإذا
كان للقارئ البنيوي تلك الحرية المنقوصة في قراءة النص فإن للقارئ التفكيكي الحرية المطلقة في قراءة النص
وإعادة كتابته لعدم اعترافه بالعلاقة البنيوية بين الدال والمدلول.
وإذا
كان الجميع تآمر على إقصاء سلطة المؤلف على معنى النص – وقد توج هذا التآمر الناقد
التفكيكي رولان بارت في مقاله المشهور عن موت المؤلف – فإن التفكيكية جاوزت هذا
الحد بإقصاء المعنى نفسه وتذويبه وشطبه.
ويمكن
تصوير رفض التفكيكية للمفاهيم البنيوية ومنها مفهوم النسق بنقد رولان بارت الساخر للبنيويين الذين يسميهم
بالمحللين الأوائل للقراءة ، إذ يقول: " يقولون إن بعض البوذيين، بفضل
صوفيتهم، يستطيعون الوصول إلى مرحلة يرون فيها بلداً كاملاً في حبة فاصوليا، وهذا على وجه التحديد ما أرد
المحللون الأوائل للقراءة recit أن يفعلوه: أي رؤية كل قصص العالم... في بنية
واحدة مفردة..." ([28]).
ثانياً: لا نهائية
الدلالة:
فصل
الدال عن المدلول وتحريره منه أدى – عند التفكيكية – إلى التسلسل اللا نهائي
لدلائل كلمات النص وانفجار المعنى وانتشاره تشتته ،والذي يعني عند"
دريدا" تكاثر المعنى وانتشاره بطريقة يصعب ضبطها والتحكم بها، هذا التكاثر المتناثر ليس شيئاً يستطيع
المرء إمساكه والسيطرة عليه ، وإنما يوحي بـ" اللعب الحر" free
play" الذي لا يتصف بقواعد تحد هذه
الحرية" ([29]).
والنتيجة
الحتمية لـ" لا نهائية الدلالة" هي استحالة تثبيت معنى واحد بعينه وهذه
النقطة التي تتمركز حولها كل مفاهيم التفكيك،
القائمة على الفوضى والعبثية
الموصلة إلى حقيقة واحدة وهي حقيقة " اللامعنى" وسبب ذلك هو نسف
علاقة طرفي العلامة، وهما الدال والمدلول، وهو يعني تفكيك تماسك النص وحرمانه
سلطته التقليدية في أن يقول أو يعني شيئاً ما يمكن تثبيته ، لم يعد الهدف – عند
التفكيكيين – البحث عن المعنى، بل همهم
الأول هو التفكيك في كل قراءة تبحث عن معنى للنص، ولذلك يقول " رولان
بارت":" يجب هز العلامة نفسها فالأمر ليس أمر الكشف عن معنى كائن أو
مستتر للقول أو الرواية بل في شرح عملية تمثيل المعنى..."
([30]).
وإذا
أردنا أن نفهم مفردات التفكيكية حق الفهم، ومنها المفاهيم التي وردت في هذا السياق،
مثل لا نهائية الدلالة انتشار المعنى وتشتته وانفجاره لابد أن نربطها بخلفيتها
الفلسفية التي نوهتُ إليها في المدخل، ففي ظل الشك العارم وغياب المركز الثابت الخارجي
الذي يحقق المعنى ويثبته، سواء أكان هذا المركز العقل أو الله أو الإنسان تكونت
القراءة التفكيكية القائمة على اللعب الحر للمدلولات ورفض وحدة المعنى واكتمال
الدلالة .
ومع
اتساع الفجوة بين الدال والمدلول تتحول
إلى حاجز يقاوم الدلالة وتصبح اللغة دالات هائمة لا مدلولات لها، فالمدلول لا
يكتسب دلالة إلا إذا أُحيل إلى مدلول آخر، وهكذا المدلول الآخر يتحول إلى دال
يتطلب مدلولاً إلى ما لا نهاية في عملية تزحلق مستمر للمدلول تحت الدال، وبذلك
تتحطم وحدة العلامة اللغوية التقليدية القائلة بأن العلامة مكوَّنة من دال ومدلول.
عندما
تنفصل الدلالات عن المدلولات ويبدأ انزلاق الدوال المستمر تظهر"
الهُوّة" وهو مصطلح ذو خلفية فلسفية أطلقه" جاك دريدا" في أعماله
الفلسفية النقدية " وهي كلمة يونانية تعني" الهُوَّة التي لا قرار
لها" والهُوَّة " أبوريا" عكس الحضور الكامل أو الأساس الذي نطمئن
إليه، أو على وجه الدقة هي ما يتجاوز ثنائية الحضور والغياب، وإذا كان الحضور هو
الحقيقة والثبات والتجاوز والعلاقة بين الدال والمدلول، فالهوة هي الصيرورة
الكاملة التي لا يفلت من قبضتها شيء .."
([31]).
فالإيمان بالصيرورة الشاملة والنفور من التمركز والمركزية كما
أنهما فسرا نسف
التفكيكية للعلامة اللغوية فإنهما كذلك يفسران تقديم "جاك دريدا"
للكتابة على الكلام خلافاً لما أجمع عليه اللغويون من أسبقية الكلام على اللغة
المكتوبة، ووجه ذلك أن اللغة المكتوبة متحررة من سلطة المؤلف، إذ هو غائب لا
يتفاعل مع المتلقين بشكل مباشر لأنها تصل إليهم من خلال القلم والمطبعة والأوراق،
ولذلك يمكن تداوله وإعادة طباعته، فاللغة المكتوبة أبعد عن التمركز والمركزية بعكس
اللغة المنطوقة المتمركزة حول الذات والمقيدة بدائرة التواصل والتي تفترض مرسلاً
ومستقبلاً ، وبهذا يرى "دريدا" أن الأصل في اللغة هي الكتابة، ذلك لأن
المؤلف كما يقول "ستورك" في سياق استعراضه موقف "دريدا" من
الكتابة:" لا يستطيع أن يتمتع بسلطة خاصة مع ما كتبه ونشره، لأنه قد أوكل
مسؤوليته" النص" للغرباء، والمستقبل والمعاني التي سيولدها" النص
المكتوب، من الآن فصاعداً لن تكون بحاجة
لأن تتفق مع معاني هؤلاء الذين يعتقدون أنهم استثمروا فيه، فسوف تعتمد تلك
المعاني على من يقرؤها وعلى الظروف"([32]).
فالقول
بأسبقية الكلام الملفوظ على الكتابة – في نظر دريدا- إيمان بميتافيزيقا الحضور
والتمركز المنطقي، وهذا ناقض من نواقض الفلسفة التفكيكية التي تؤمن باللامركزية المطلقة.
ثالثاً: التناص:
يقود
مفهوم "لا نهائية الدلالة" إلى مفهوم التناص: والذي يترجم – أحياناً- بـ"
البينصية" أو" بين – نص" ومعناه في أدبيات القراءة التفكيكية أن
النص – في نظرهم – ليس شكلاً مغلقاً أو نهائياً لأنه لم يكتمل بعد" ولكنه
يحمل آثار traces
نصوص سابقة، إنه يحمل رماداً ثقافياً... فمعنى ذلك في حقيقة الأمر أنه لا يوجد نص،
ما يوجد هو " بين – نص" فقط..."
([33]).
فالنص
التقليدي والذي يعتبر كياناً كاملاً مستقلاً في ذاته تم اجتياحه من خلال مفهوم التناص ،الذي يستحيل معه وجود نص كامل
مستقل نقي، لأن كل نص صدى لنص آخر إلى ما لا نهاية.
وفي
التفريق بين النص التقليدي والنص التفكيكي يقول جاك دريدا:" ما حدث... هو
عملية اجتياح... أبطلت كل هذه الحدود والتقسيمات وأرغمتنا على توسيع المفهوم
المتفق عليه... لما ظل يسمى "نصاً" لأسباب استراتيجية...
"نصاً" لم يعد منذ الآن جسماً كتابياً مكتملاً أو مضموناً يحده كتاب أو
هوامشه بل شبكة اختلافات نسيج من الآثار التي تشير بصورة لا نهائية إلى أشياء ما
غير نفسها، إلى آثار اختلافات أخرى، وهكذا يجتاح النص كل الحدود المعينة له حتى
الآن"([34]).
فالنصوص
السابقة تجتاح حدود النص الحاضر لتحوله إلى"بينص"، ولكن تلك النصوص
السابقة ليست في الحقيقة نصوصاً بل بينصوص ، فلا يوجد في الواقع نص أول مكتمل ،
وقد مثَّل الناقد" باختين" فكرة التناص بمخلوق أسطوري بشع في صورة شائهة
وهو صورة " ذلك الجسم الغريب grotesque جسم في حالة صيرورة ، إنه
لا ينتهي لا يكتمل أبداً، إذ تتم عملية تشكيله وخلقه بصفة مستمرة، وهو يقوم بتشكيل
وخلق جسم آخر؛ علاوة على ذلك فإن الجسم يبتلع العالم ويبتلعه العالم... بعد المعدة والأعضاء التناسلية يأتي
الفم الذي يدخل العالم من خلاله ليتم ابتلاعه، بعد ذلك تأتي فتحة الشرج، إن كل تلك
التعقيدات والفتحات تشترك في صفة واحدة... هناك عملية تبادل وتفاعل"([35]).
اللغة
في ظل مفهوم التناص لا يمكنها أن تشير إلى شيء خارج النص إلا إلى نصوص أخرى،
فاللغة لا تشير إلا إلى اللغة، ومن هنا يأتي المفهوم التفكيكي لانغلاق اللغة أو
النص، وهو يختلف عن المفهوم البنيوي لانغلاق النص بواسطة النسق كما سبقت الإشارة
إليه، وهذا ما عناه دريدا بقوله:" لا نستطيع شرعياً الخروج عن النص في اتجاه
أي شيء آخر، في اتجاه مرجع... أو مدلول خارج النص... لا يوجد شيء خارج النص"([36]).
وإذا
كان لا يوجد شيء خارج النص فهذا لا يعني وجود شيء داخل النص ، فلا داخل ولا خارج
وهذا إلغاء تام لثنائية الداخل والخارج المركزية. لا يوجد شيء في النص سوى
الفراغات والصوامت القابلة للعب الحر اللانهائي للدالات، ولا يوجد شيء خارج النص
سوى نصوص أخرى إلى ما لا نهاية، " فكل نص يقف بين نصين واحد قبله وواحد بعده،
وهو يفقد حدوده فيما قبله وفيما بعده... فكل نص هو أثر أو صدى لكل النصوص
الأخرى... إن حالة التناص هذه حالة سيولة كاملة"([37]).
وفي
سياق بيان مفهوم التناص يخرج
علينا"دريدا" – كعادته – بمصطلح "الاختطاف" إذ يؤكد به لا
نهائية النص ولا نهائية التفسير وذلك بغلوه في فهم التناص، إذ يرى أن التناص هو
مجرد اختطاف أو استخدام كلمة أو كلمات سبق استخدامها وليس المراد به – كما هو شائع
عند غيره – استخدام الجملة النثرية أو بيت شعر أي استخدام الوحدات الدلالية الأكبر
من الكلمة، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على مدى فوضوية وعبثية
الفيلسوف"دريدا"، وهذا ما أشار إليه " ليتش" بقوله:"
وإذا وصلنا بفكرة دريدا عن الاقتطاف citationإلى
منتهاها وجدنا أنها تلتقي بالنظرية الأوسع عن التناص.
إن
استخدام أي كلمة سبق استخدامها يعني" الاقتطاف"، ولما كانت كل كلمة في
قواميسنا غير المختصرة مرت بمراحل الاستخدام ولها بذلك تاريخ تناصها، فإن كل كلمة تجسد إمكانية اقتطافها في كل مرة تنطق وتكتب...
إن كل كلمة داخل نص تحمل هذه الإمكانية، وخطوط التناص حينما تضرب في إمكانية
اقتطافها تتعدى كل احتمالات التصور... معادلتنا هي: مجموع الاختطاف "
التكرار" لكل كلمة مضروباً في عدد الكلمات في نص ما يساوي كمية التناص ، وحيث
إننا لا نستطيع تحديد تاريخ الاقتطاف فإن معادلتنا الزائفة عديمة الفائدة"([38]).
في مناخ التناص يصبح المعنى خرافة في نظر
التفكيكيين ، وبذلك لا يصبح هدف قراءة النصوص هو البحث عن المعنى أصلاً، بل يكون
هدفها – كما سيأتي بيانه – إبطال معنى كل النصوص، وقد أشار إلى هذا المعنى ،
الناقد التفكيكي رولان بارت ، إذ يقول:"إن نسيان المعاني جزء من القراءة
بمعنى ما، إن المهم هو تأكيد عمليات الارتحال عن المعنى وليس عمليات الوصول
إليه.... إن ما يقيم النص ليس بنية داخلية مغلقة، يمكن الاعتماد عليها، لكنه انفتاح النص على نصوص أخرى، وشفرات أخرى،
وعلامات أخرى"([39]).
عناصر التفكيك
لاسيما عنصر التناص تذكرنا بعمق أثر الفلسفة اللامركزية وخاصة بأثر رائدها "
نتشه" الذي كان له أعمق الأثر في تكوين عناصر التفكيك، والتي تدور حول نقض
ميتافيزيقا الحضور – كما أشرت إليه في المدخل – ذلك النقض الذي تأسست عليه مفاهيم التناص
ولا نهائية الدلالة ، والحضور والغياب وغيرها من المفاهيم التفكيكية.
فقد اهتم نتشه
باللغة، وكان من أوائل من شكك في موضوعية"النص" فبعد تحطيمه لأصنام
الفلسفة – كما يسميها – ومنها العقل، وإقراره بوقوع الحقيقة في صيرورة الوجود انصب
اهتمامه باللغة وتاريخها باعتبارها هي الحقيقة نفسها وليست كما تزعم الرؤية
التقليدية من ثنائية النص والحقيقة.
فكما أنه لا شيء
خارج النص - كما قال " دريدا" –
فكذلك لا حقيقة خارج النص "عند نتشه، فإنه يلغي المساحة بين النص والحقيقة،
ويصفي تلك الثنائية تماماً، ويقرر أن النص هو فعلاً نسيج، ولكن النسيج هو ذاته
الحقيقة، لم يقتصر نتشه على إلغاء الفارق بين النص والحقيقة فحسب، بل إنه ألغى
الفارق بين نص ونص وبذلك طرح فكرة التناص باعتباره حواراً لا ينتهي بين النصوص،
فكل ما نعرفه هو النص، والنص لا يحيلنا إلى حقيقة متجاوزة له، وإنما إلى نص آخر،
ولذا فإن معرفتنا لا يمكن أن تدعي لنفسها حالة أكثر استقراراً وصلابة من أن تكون
نصاً([40]).
لكن
"دريدا" ذهب إلى أبعد من نتشه، ذلك لأن "دريدا" لا يعترف
بتاريخ اللغة كما يعترف بها نتشه، فإن نتشه في محاولة تتبعه لتاريخ اللغة يسعى إلى
البحث عن المعنى الأول أو الدلالة الأولى أو النص الأول لتثبيت اللغة، أما
"دريدا" فإنه ينكر أن يكون هناك معنى أول أو نص أول، ولذلك كان هدف تتبعه
للمعنى هو تدميره وتفتيته بصفة مستمرة([41]).
رابعاً: الاخترجلاف:
إذا
كان التناص هو العنصر الأساسي لإبطال المعنى خارج النص فإن" الاخترجلاف"
هو العنصر الأساسي لإبطال المعنى داخل النص.
والاخترجلاف
ترجمة الدكتور المسيري لكلمة أطلقها "دريدا" وهي Ladifferance التي تفيد معنيين أولهما" الاختلاف"
وثانيهما " الإرجاء أو التأجيل" فهي كلمة منحوتة من هذين اللفظين
مجتمعين باعتبارهما طرفين في معادلة واحدة.
ويعرّف
محمد العناني هذا المصطلح في معجمه قائلاً :" مصدر المصطلح هو نظرية دريدا في
كتابه مواقف positions
(1981م)، التي تزعم عدم وجود معان محددة للكلمات، وأن أقصى ما نستطيع إدراكه هو الاختلاف
فيما بينها وإرجاء المعنى إلى أجل غير مسمى"([42]).
والهدف
من هذا المصطلح إثبات لا نهائية الدلالة في النص الواحد، فليس هناك إلا دوال
متميزة عن دوال أخرى، هذا التميز أو هذا الاختلاف هو الذي يحدد معنى الدال داخل
شبكة العلاقات مع الدوال الأخرى، لكن معنى كل دال لا يوجد بشكل مكتمل فمعناه دائم
التأجيل والإرجاء رغم وجوده وحضوره، لأن معنى كل دال مرتبط بمعنى الدال الذي قبله والذي بعده، " ويضرب التفكيكيون
مثلاً بالبحث عن معنى كلمة في القاموس، فإن أردت أن تعرف معنى كلمة(قطة) فسيتحدد
معناها من خلال اختلافها مع كلمة (نطة) و(بطة) ، كما أن القاموس سيخبرنا أن
(القطة) حيوان، مما يحيلنا إلى كملة (حيوان) لنعرف معناها، وهناك سنعرف أنه (كائن
ذو أربعة أرجل) مما يحيلنا بدوره إلى
كلمتي( كائن) و(أرجل) أي أن عملية الإحالة
عملية دائرية لا تنتهي ... فكل تفسر يؤدي إلى تفسير آخر ، وهذا يعني أن مدلول أي
دال معلَّق ومؤجل إلى ما لا نهاية، وهو ما يؤدي إلى انفصال الدال عن المدلول
لسقوطه في شبكة الاخترجلاف والى استحالة الوصول إلى المعنى والحقيقة..."
([43]).
فكلما
حاولنا تثبيت الدلالة بالاختلاف مع الدوال
الأخرى، ضاعت الدلالة بتأجيل معناها إلى معنى دال آخر إلى ما لا نهاية،
فالاختلاف عنصر تثبيت الدلالة والتأجيل عنصر تفكيكها ، والنتيجة أن اللغة ما هي
إلا دوال فقط، كل دلالة تشير إلى مدلول يراوغها ويشير المدلول إلى مدلول ثان فيتحول
إلى دال وهكذا إلى ما لا نهاية.
وأحياناً
تترجم ثنائية التأجيل والاختلاف إلى ثنائية الحضور والغياب فالاختلاف يعني حضور
معنى الدال مؤقتاً والتأجيل يعني غياب معناه، فكما أن اختلاف اللفظ أو الدال يلزم
منه تأجيل معناه، فكذلك حضور اللفظ هو نفسه غياب معناه.
وفي
هذا السياق أعاود التأكيد على أن " التناص والاخترجلاف" يكمل بعضهما البعض
في تحقيق تدمير معنى النص داخلياً وخارجياً، فالتناص يتكفل بتدمير النص من خارجه، والاختر
جلاف يضمن تدمير النص من داخله، وحول هذا
المعنى يقول " جاك دريدا" : إن لعب الاختلافات يعني تركيبات وإحالات
تمنع كل تلك الاختلافات من أن تكون في أي وقت أو بأي وسيلة عنصراً حاضراً في ذاته
ولذاته ويشير فقط إلى ذاته، لا يستطيع أي عنصر في خطاب مكتوب أو منطوق أن يقوم
بوظيفته كعلامة دون أن يرتبط بعنصر آخر هو أيضاً ببساطة ليس حاضراً، هذه الرابطة
تعني أن كل عنصر يتشكل في إشارته إلى مابه من أثر للعناصر الأخرى في سياق النص... هذا
الربط، هذا الجدل هو النص الذي ينتج فقط عن تحويل نص آخر، لا شيء سواء في العناصر
أو النسق حاضراً أو غائباً فقط، لا يوجد
في كل مكان سوى اختلافات وآثار آثار"([44]) .
المبحث الثاني: منهج
التفكيكية في قراءة النص
بعد تحليل موقف التفكيكية من "المعنى"
وبعد بيان مناخها الفلسفي وخلفيتها الفلسفية العامة، أردت أن أبين أثر هذه
المفاهيم على تعامل التفكيكية مع النصوص فكان هذا المبحث.
أولاً:
دور القارئ في قراءة النص:
القارئ متلقي للنص، ليست وظيفته – في نظر
الفلسفة التفكيكية – اكتشاف النص ، بل إعادة كتابة النص من جديد، فالقارئ له
الحرية المطلقة في فهم النص وإعادة كتابته بما يتوافق مع أفقه، والمراد بالأفق هنا
هو خلفية القارئ الثقافية والتاريخية، وهذا يعني فوضى القراءة والنقد.
وقد سبقت المدرسة التأويلية ما طرحته
الفلسفة التفكيكية حول دور القارئ ، وذلك في تأسيسها لنظرية مشهورة تسمى بنظرية
التلقي، وأبرز أعلام تلك النظرية" رومان انجادرن" و"جادميرا"
و"ستانلي فيش" و"لفجانج إسر" و"هانز روبرت يوس"([45]).
ويلخص "آرت بيرمان" تلك
النظرية قائلاً: " أبرز معطيات هذه النظرية هو أن كلاً من المعنى والبناء في
العمل الأدبي (أي النص) ينتجان عن التفاعل مع نص القارئ، الذي يجئ إلى العمل بتوقعات
مستجدة من أنه قد تعلم وظائف وأهداف وعمليات الأدب، بالإضافة إلى عدد من الميول
والمعتقدات التي يشترك فيها مع الأعضاء الآخرين في المجتمع... فالقارئ هو إلى حد
ما المبدع المشارك لا للنص نفسه بل لمعناه وأهميته وقيمته"([46]).
فنظرية
التلقي ترتكز على إظهار جدلية العلاقة بين النص والقارئ وربطها بـ"
أفق توقعه"، مع ربط النص بانفتاحه وسيولته ، فمعنى النص يحدده أفق القارئ،
لكن مادام أن أفق القارئ معيارٌ لتحديد معنى النص فهل هذا يعني ثبات معنى النص؟
نعرف الجواب إذا علمنا أن " أفق
توقع القارئ" نفسه متغير متجدد غير مغلق، وبهذا الاعتبار لا إمكانية للقول
بثبات المعنى أو وجود قراءة نهائية صحيحة، وفي هذا المعنى يقول الفيلسوف جادميرا
:" إن الحركة التاريخية للحياة الإنسانية تقوم على حقيقة أنها لا ترتبط أبداً
بموقف واحد معين، ومن ثم لا يمكن أن يكون لها أفق واحد مغلق، إن الأفق شيء ندخله
ويتحرك معنا، والآفاق تتغير عند الشخص المتحرك" ([47]).
لكن منظري نظرية التلقي كانوا أكثر اعتدالاً وأتم حكمة من نقاد
التفكيك ، إذ وضعوا ضابطاً لمنع فوضى التفسير والقراءة ، وهو مفهوم " تفسير
الجماعة" أو " الجماعة المفسرة"، والمراد بها الجماعة التي ينتسب
إليها القارئ و تشكل جملة من التقاليد والمفاهيم التي توفر له أدوات القراءة
والتحليل والتفسير، فالقارئ ليس حراً حرية كاملة في فهم النص إلا في ضوء مفاهيم
الجماعة التي ينتسب إليها التي تتفق معه في نفس الأفق، فهي المرجعية له في قراءة النص والمركزية في فهمه.
وبمجرد الإقرار بمرجعية لفهم النص أو
مركزية لقراءته يثور التفكيكيون لنفرتهم من كل مركز ومرجعية، ولذلك فإنهم يرون
للقارئ الحرية المطلقة التي لا حدود لها ولا نهاية في قراءة النص، وبهذا الصدد
يصور " رولان بارت" علاقة القارئ بالنص بصورة مجنونة تظهر مدى حرية
القارئ في قراءة النص، إذ يقول :"إن النص في كليته يشبه صفحة السماء، فهي
منبسطة وناعمة وعميقة في نفس الوقت، من دون حواف أو علامات، كالعراف الذي يرسم
عليها بطرف عصاه مربعاً وهمياً يستطيع أن يستقرئ منه، حسب قواعد معينة حركة طيران
الطيور... لابد أنه كان جميلاً في ذلك اليوم أن يشاهد المرء تلك العصا تحد معالم
السماء، وهي الشيء الذي لا يمكن تحديده، ثم إن شيئاً كهذا من قبيل الجنون أن يقوم
إنسان في جدية كاملة برسم حد لا يخلف وراءه شيئاً في الحال"([48]).
فكما أن للعراف الحرية المطلقة في
تنبؤاته فاللقارئ كذلك الحرية المطلقة في قراءته لكنها حرية عبثية، وكما أن العراف
لا يجني شيئاً من تحديد حركة الطيور المهاجرة في السماء بعصاه، فكذلك القارئ لا
يجني شيئاً من تحديد حركة المدلولات المرواغة
في النص بقراءته!!
وإذا تقرر – عند التفكيكيين – أن النص لا
يوجد إلا في تلقي القارئ له وأن الكاتب –
بالضرورة – لا يوجد إلا في وعي القارئ، فهل يعني هذا تحول ذات القارئ مركزاً أو
مرجعاً لفهم النص؟
هذا ما لا يقبله التفكيكيون ، فكما أنهم
نسفوا وجود النص من داخله بالاخترجلاف ومن خارجه بالتناص فإنهم ألغو وجود القارئ،
بمعنى أنهم سلبوا وجوده المحدد الثابت، وذلك لأنهم ربطوه بأفق توقعاته الذي تشكله
عوامل، منها معرفته وثقافته بالنصوص الذي سبقت هذا النص الذي يتعامل معه القارئ ،
وبهذا ندخل في دوامة التناص والبينصية، فإذن ذات القارئ مرتبطة في النهاية بالتناص،
وبناء عليه فإنها ذات غير مكتملة وغير ثابتة ومحددة.
والمقصود أنه لم يعد دور القارئ – في نظر
التفكيكية - الكشف عن معاني النصوص أو استخلاصها كما في الطريقة التقليدية، بل
دوره تدمير المعاني الثابتة والمستقرة، والمحافظة على سيولة المعاني، والحرص على أن
لا تتجلط أو تتخثر أو تتماسك، وهذا يجرنا إلى الجواب عن السؤال التالي: كيف يقرأ
التفكيكيون النص؟
يعرف كتاب" دليل الناقد
الأدبي" القراءة التفكيكية – ويسميها التقويضية – تعريفاً يُظهر منهجية تلك
القراءة في تعاملها مع النصوص، وفي ذلك يقول: " القراءة التقويضية هي قراءة
مزدوجة تسعى إلى دراسة النص (مهما كان) دراسة تقليدية أولاً لإثبات معانيه الصريحة
، ثم تسعى إلى تقويض ماتصل إليه من نتائج في قراءة معاكسة تعتمد على ما ينطوي عليه
النص من معانٍ تتناقض مع ما يصرح به"([49]).
فوظيفة القارئ التفكيكي بعد قراءة النص
قراءة تقليدية هي البحث عن البنية القلقة في بناء النص واستثمارها حتى يتداعى البناء كله، فكل نص يحمل بذور تفكيكه وما على
الناقد إلا تلمس تلك الثغرات التفكيكية، وفي بيان تلك الوظيفة التفكيكية يقول
" ميللر" :" إن الناقد التفكيكي يحاول عن طريق عملية اقتفاء الأثر
العثور على العنصر داخل النسق الذي يدرسه ، الذي لا يخضع للمنطق.. . أو الحجر
القلق (غير الثابت) iooes الذي سيؤدي إلى انهيار المبنى بأكمله"([50]).
والمقصود أن وظيفة الناقد لا تهد ف إلى إنتاج
المعنى، بل إلى إبراز التناقضات والغموض داخل النص بطريقة تجعله أقل قابلية
للقراءة،لكن هنا سؤال هل لغة الناقد التي يفكك بها النص قابلة للتفكيك أيضاً؟
بعض التفكيكيين يرون قابلية النصوص
النقدية للتفكيك لأنها في نظرهم نصوص أدبية أيضاً ويطلقون عليها اللغة
الشارحة"" الميتالغة"، وهذا ما قرره " هرتمان" في كتابه
" مصير القراءة"، وعارضه" ميللر" بقوله" إن الناقد اليوم
ضروري وغير مؤثر كماكان دائماً، ونصه ليس أكثر من مجرد نص يضاف إلى كومة النصوص...
هل وقعنا في فخ النقد التافه، نقد ملء الفراغات بعد أن حولناه إلى غاية في حد
ذاته"([51]).
والواقع أن الناقد التفكيكي لا يسلم بشيء ثابت،
بل يشكك في كل شيء في التصورات الراسخة عن العلامة واللغة، في النص وفي السياق، في
المؤلف والقارئ والتفسير، وهذا يؤدي إلى معنى ارتداد النقد على نفسه وتشكيكه في
أدوات نقده ، وهذا ما صرح به هارتمان في نصه السابق.
ثانياً: شعار القراءة
التفكيكية "كل قراءة إساءة قراءة"
في
ظل غياب المركز وحرية القراءة ليس في اكتشاف المعنى، بل في إعادة كتابة النص
وتأجيل معناه، تكون تلك المقالة النتيجة الحتمية والبوابة الأخيرة إلى فوضى
التفسير والنقد.
ليس
أساس هذا الشعار ودوافعه خطأ كل قرءاة وكل تفسير، بل دافعه هو استحالة الوصول إلى
تفسير وقراءة نهائية موثوقة، وبذلك نعلم أن جوهر هذا الشعار لا يختلف عن باقي عناصر التفكيك ومنها لا نهائية الدلالة والتناص
والاخترجلاف وانفتاح النص.
فسبب
بروز هذا الشعار – في النظر التفكيكي – راجع إلى طبيعة اللغة السائلة، وبهذا
المعنى يفسره صاحب الشعار نفسه" بول دي مان" قائلاً: " إننا نصل
إلى استنتاج أن السمة الحاسمة للغة الأدبية هي في الحقيقة مجازها، بمعنى أوسع
قليلاً من معنى البلاغة، لكن البلاغة بدلاً من أن تكون الأساس الموضوعي للدراسة
الأدبية، تعني ضمناً قيام تهديد مستمر بإساءة القراءة"([52]).
فكل
قراءة للنص تنتج معنى لا يمكن تثبتيه إلا إلى حين، بمعنى تأجيل تثبيت هذا المعنى
إلى حين خروج قراءة جديدة أخرى تقوم
بتفكيك القراءة السابقة والنص، وهكذا إلى ما لا نهاية، فكل قراءة لاحقة تسيء
للقراءة السابقة وذلك بتفكيكها وقراءتها قراءة معاكسة لما صرَّحت به.
فالقراءة
السابقة تعيش لحظتها ولا يعني أنها صحيحة أو خاطئة لأن معناها مؤجل إلى أن تجيء
القراءة اللاحقة عندئذ تظهر سوء القراءة السابقة، وهكذا بالنسبة للقراءة اللاحقة
يطبق عليها ما يطبق على القراءة السابقة إلى ما لا نهاية ، فمعنى إساءة القراءة –
عند التفكيكيين – هو تلك القراءة التي تفسح المجال لإساءة قراءة أخرى.
وهذا
بعينه ما عناه عبد السلام المسدي في سياق وصفه لمنهجية القراءة، كما يراها في
اللسانيات العامة، إذ يقول : "كل قراءة – كما هو معلوم في اللسانيات العامة –
هي تفكيك لرسالة قائمة بنفسها، وما التراث إلا موجود لغوي قائم الذات باعتباره كتلة
من الدوال المتراصفة، وإرادة قراءته هي تجديد لتفكيك رسالته عبر الزمن وهي بذلك
إثبات لديمومة وجوده..." ([53]).
والدافع
الفلسفي لهذا الشعار التفكيكي في منهجية قراءة النص، هو غياب المركزية، والوقوع في
شبكة الصيرورة الدائمة، وإبطال ثبات اللغة المتمثل في أداء وظيفتها التواصلية
والتي تؤدي إلى ثبات المعاني، فلا ثبات للعقل ولا للحس ولا للغة، إذن لا ثبات للتفسير
أو القراءة.
وقد
أظهر هذا الجانب والدافع الفلسفي المعرفي الناقد "إليس" في سياق نقده
لفوضى التفكيك قائلا:" تم التخلي منذ زمن طويل عن إمكانية اليقين certainty والموضوعية الكاملة، ومن باب التكرار فإن أكثر
الأفكار قبولاً الآن هي القول بأن المعرفة كلها ذات طبيعة افتراضية ، فهي تنتظر
دائماً أن تقلب أو تعدل عن طريق معرفة لاحقة، لا توجد جزئية معرفية ذات موضوعية
كاملة في عقل العارف ... المعرفة إذن ليست موضوعية تماماً إذا كنا نعني بذلك" حقيقية إلى درجة لا
تقبل الجدل"([54]).
فكما
أن المعرفة – في نظر التفكيكيين – افتراضية لا موضوعية لها ولا يقين، وهي دائماً
في صيرورة ، إذ كل معرفة افتراضية قابلة للتعديل والنسق عن طرق معرفة أخرى، فكذلك
القراءة، ما هي إلا عملية تغيير للمعرفة وللحقيقة وليست أداة نقل لها لأن النص غير
قابل للقراءة أصلاً، فكل القراءات والتفسيرات للنصوص في دوامة الصيرورة، إذ كل
قراءة قابلة للتعديل وللإساءة بقراءة أخرى إلى ما لا نهاية
([55]).
تعقيب
ونقد
لا ريب أن المشروع التفكيكي قد أخفق
إخفاقاً ذريعاً في بناء فلسفةٍ أو فكرةٍ ، ذلك لأنه مشروع عبثي لا غاية له ولا هدف
مثمر ، وهذا ما اعترف به رائد التفكيكية
"دريدا" حول إستراتيجية قراءاته التفكيكية ، إذ لما سئل " ما الهدف
من هذه الإستراتيجية؟ ... قال: " إن إستراتيجيته دون غاية وتفكيره لا هدف
له" .. أشبه بالجنون .. وأنا أرضى بالجنون " . !! ([56]) .
يتمثل هذا الإخفاق في مظاهر منها:-
أولاً: من محاولة البناء إلى تحقيق التدمير المحض.
الفلسفة التفكيكية فرت من شر ووقعت في
أشد منه شراً ، رفضت تصور المشروع البنيوي في تحقيق المعنى وأسلمت نفسها إلى عبثية
اللامعنى ، لقد جاءت التفكيكية ثورة على البنيوية ، ولكنها ثورة هائجة مائجة تدمر
كل شيء لا مركز لها ولا ثبات ولا هدف ولا غاية.
فالتفكيكية مشروع هدمي أعمى لا يقدم سوى
التفكيك والتدمير والتقويض، وهو عاجز عن تقديم البدائل خشية من تحول تلك البدائل
إلى ثوابت ومراكز ومراجع،فهو ينقض الميتافيزيقيا لا ليقدم بديلاً لها، ويرفض
الإحالة في العلامة اللغوية لا ليقدم تثبيت عدم الإحالة، فالتفكيكية كما يقول بييرف
ريما : " لم تستطيع البقاء حية في المؤسسات إلا عبر مهاجمة التقاليد من دون
أن تقدم يوماً خياراً ذا قيمة"([57])
إذن هي فلسفة
سلبية لا يرجى منها خير أو نفع كما وصفها "لتش"
كالشيطان الذي يرقص فوق أشلاء التقاليد المتناثرة وكل
شيء يمسه يصبح شيئاً ممزقاً، أو هي كالثور المنطلق دون قيد داخل حانوت العاديات
للتقاليد الغربية([58]).
والعجب أنها تفر من إثبات ميتافيزيقا
الحضور وتقع في نظير ما فرت منه، فدعوتهم المتشنجة لمشروعهم التفكيكي هي في
حقيقتها دعوة إلى التمركز حول نقطة ثبات فـ" دريدا" "في نقده
للميتافيزيقا الغربية التي يرى أنها تتسم بالطلاسم الماورائية "، هو نفسه
يرسي دعائم طلاسم ما ورائية لاهوتية مألوفة ([59]).
والحق- بالنظر إلى منهجهم- لابد من تفكيك
فلسفتهم لأنها أصبحت مركزاً ومحوراً يتمركز حوله التفكيكيون، ولهذا المأزق المنهجي يتجاهل
الفيلسوف "دريدا" سؤال الدكتور المسيري حينما التقى به في مصر، إذ يقول
المسيري : " ... لهذا يتجاهل تماماً سؤالي هل يمكن تفكيك التفكيك؟ لأننا لو
لم نفعل فإنه يتحول إلى مطلق لوجوس" ([60]).
ثانياً: إبطال وظيفة اللغة :
للغة وظيفتان
أساسيتان: الأولى تعبيرية تكشف عما يدور من المعاني داخل الإنسان، والثانية
تواصلية تنقل المعاني إلى المتلقين للتفاهم، فروح اللغة هي المعاني ولولا المعنى لم يكن هناك
تواصل ولا علوم ولا حضارات، ولذلك" قال بعضهم إنه بدون المعنى لا يمكن أن تكون هناك لغة، وعرف
بعضهم اللغة بأنها معنى موضوع في صوت" ([61]).
ومن أعظم
المشاريع الهدامة للغة ووظيفتها التواصلية وما يترتب عليها من بناء العلوم والحضارات
هو المشروع التفكيكي، ذلك لأنه دمر العملية التواصلية للغة برمتها، فقد نسف أثافي
تلك العملية الحضارية المكونة من المؤلف والقارئ والنص أو إن شئت قلت القائل
والمتلقي واللغة المسموعة.
أما النص فاجتاحته التفكيكية من داخله
بالاختر جلاف ومن خارجه بالتناص فأصبح هلامياً لا حقيقة لوجوده، وأما القارئ
فسلبوا وجوده المحدد الثابت، إذ ربطوه
بأفق توقعاته من معرفته وثقافته التي يستحيل أن تكتمل أو يكون لها مركز، وأما
المؤلف فقد أعلنوا موته رسمياً وكانوا أكثر النقاد صخباً في نفي "
القصدية" وتأكيد خرافتها.
حاول التفكيكيون إغراقنا في عالم افتراضي
موحش لا قرار له ولا ثبات في دوامة من العدمية والعبثية التي تلفها الثقوب السوداء، نحاول النهوض من هذا
الكابوس المزعج متلمسين سبيلاً للنجاة مدركين أنه لا خيار لنا سوى الفرار إلى
ثقافتنا الإسلامية والعربية التي سنجد فيها راحة البال واطمئنان النفس ونور العقل
وحكمة المنطق.
فهذا الجرجاني يؤكد على ضرورة الاتصال
اللغوي في بناء العلوم الذي يدور حول إثبات المعاني، إذ يقول:"اعلم أن الكلام
هو الذي يعطي العلوم منازلها ويبين مراتبها ويكشف عن صورها ويجني صنوف ثمرها ويدل
على سرائرها ويبرز مكنون ضمائرها ... فلولاه لم تكن لتتعدى فوائد العلم عالمه، ولا
صح من العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه، ولتعطلت قوى الأفكار من معانيها
واستوت القضية في موجودها وفانيها، نعم ولوقع الحي الحساس في مرتبة الجماد، ولكان
الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيت القلوب المقفلة على ودائعها، والمعاني
مسجونة في مواضعها" ([62]).
وفي موضع آخر من كتبه يؤكد على ضرورة قصد
المتكلم ومراده في الخطاب بناء على العلاقة المتوازنة بين الدال والمدلول، إذ يقول
: " الدلالة على الشيء هي لامحالة إعلامك السامع إياه، وليس بدليل ما أنت لا
تعلم به مدلولاً عليه، وإذا كان ذلك كذلك مما يعلم ببدائه المعقول أن الناس يكلم
بعضهم بعضاً ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر من
خبره وما هو ؟ أهو أن يعلم السامع وجود المخبر عنه ؟ أم أن يعلمه إثبات المعنى
المخبر به للمخبر عنه؟"([63]).
فتوازن العلاقة بين الدال والمدلول وعدم
مراوغتها ناشئٌ من البديهية العقلية التي تنص على ضرورة معرفة السامع غرض المتكلم،
تلك المعرفة التي تضبط عملية التفسير والتأويل، وهذا ما أدركه ابن تيمية في سياق
نقده لتأويلات المتكلمين، إذ يقول : " التأويل المقبول هو ما دل على مراد
المتكلم... فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله
من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب هو من باب التحريف والإلحاد لا من
باب التفسير وبيان المراد" ([64]).
رحم الله ابن تيمية كيف لو رأى شراذم
التفكيكية وأتباعهم في العالم العربي الذين لا ينفون قصد المتكلم ومراده فحسب، بل
ينسفون وجوده من الأصل بعد أن يدمروا نصوصه ويفككوا قارئها!!.
الخاتمة :
في خاتمة هذا البحث أود التأكيد على
حقيقة وكلية واحدة تفسر لنا الفلسفة التفكيكية وما تضمنتها من مفاهيم معقدة، وتكشف
لنا سراديبها المتعرجة المظلمة وهي أنه إذا كنا لا نستطيع أن نبحث عناصر التفكيك
من لا نهائية الدلالة والتناص والاخترجلاف إلا من خلال منظور لغوي، فهذا لا يعني أن
مشكلة التفكيكية لغوية بل وراء هذه المشكلة اللغوية مشكلة فلسفية ومعرفية، وما
واقع المشكلة اللغوية إلا نتيجة للمشكلة الفلسفية وليست سبباً، بل لا نبعد القول
إذا قلنا إن المواقف الفلسفية في الجملة سبب لنشوء المشكلات اللغوية من منظورها
الفلسفي في العصور المتأخرة، وهذا ما أشرت إليه في المدخل لهذا البحث .
وجوهر المشكلة الفلسفية التفكيكية يتمثل
في انفكاكها عن ثابت أو مركز أو مرجع، وسقوطها في بحور الشك الهائجة ومتاهات
العدمية والعبثية التي لا هدف لها ولا غاية، فلا يوجد في قاموسها المفاهيمي عقل
ولا حس ولا لغة ولا إنسان.
ولذلك كان أعدى أعداء الفلسفة التفكيكية
هو الثبات والمركز والنظام أياً كان سواءٌ، أكان نظاماً دينياً أم علمانياً، فليست
التفكيكية عدواً للثوابت الدينية فحسب، بل هي عدو لكل النظم والثوابت.
بقى أن أنبه – في ختام هذا البحث – إلى قضية
أثارها كثير من النقاد الفلاسفة وهي علاقة التفكيكية – لاسيما تفكيكية دريدا – باليهودية
وخصوصاً تراثها القبالي!
فقد أكد عدد من النقاد تأثر مفاهيم
التفكيكية بـ" القبالا " اليهودية لاسيما في قراءتها للتوراة، ومن هؤلاء
"بلوم" فيما نقله عنه بييرف زيما، إذ يقول في سياق نقده لبعض المفاهيم
التفكيكية عند "دريدا:" إن لهذه الطريقة ... في تصور النص وقراءته تراث
طويل يعود وفقاً لبلوم إلى القبلانية اليهودية ... " ([65]).
ومن هؤلاء النقاد مؤلفا " دليل
الناقد الأدبي" إذ يقولان : " ... أشار كثير من النقاد والفلاسفة إلى أن
تقويضية دريدا تدين بمنهجها ومسلماتها لممارسات التفسير التوارتي اليهودي وأساليبه،
وكل ما فعله هو نقل الممارسات التأويلية للنصوص المقدسة اليهودية وتطبيقها على
الخطاب الفلسفي"([66])
.
ومن هؤلاء النقاد " سوزان هاند لمان
" التي كتبت أطروحتها للدكتوراه عن هذا الموضوع ثم ألفت مجموعة من الكتب تدور
حول القضية نفسها وتطرح التصور نفسه" ([67]).
وقد أكد الدكتور
المسيري تشابه التفكيكية والقبالا اليهودية، وعرض لمفاهيم التفكيكية وقارنها
بالمفاهيم القبالية اليهودية كما أكد أن "جاك دريدا " نفسه كان يربط بين
اليهودية والتفكيكية وبين وضعه يهودياً واتجاهه التفكيكي ([68]).
لكن الدكتور
المسيري وإن كان يرى علاقة التشابه والتبادل بين اليهودية والتفكيكية إلا أنه عارض
الاطروحات القائلة بأن اليهودية سبب لظهور التفكيكية كما تزعمه "سوزان "
في اطروحتها.
وخلص إلى أن " الانتماء إلى العقيدة
أو الاثنية اليهودية لا يفسر النزعة التفكيكية في فكر المثقفين من أعضاء الجماعات
اليهودية ابتداءً من القرن التاسع عشر، وإنما يفسرها الانتماء إلى الحضارة الغربية
التي يهيمن عليها النموذج المادي اللاعقلاني السائل"([69])
.
فوصف مشروع دريدا التفكيكي بأنه ما هو
إلا نقل الممارسات التأويلية للنصوص المقدسة اليهودية وتطبيقها على الخطاب الفلسفي
كما صرح به مؤلفا دليل الناقد الأدبي فيه شيء من المبالغة، والحق كما يقوله
المسيري : " إن دريدا ... لا يقدم فلسفة يهودية ولا يمكن فهم فلسفته إلا في
سياق تاريخ الفلسفة الغربية ... ورغم وجود أفكار تفكيكية وما بعد حداثية في مدارس
التفسير اليهودية ... إلا أنه يظل مفكراً غربياً بالدرجة الأولى ولا تشكل يهوديته
سوى عنصر مساعد في تصعيد التفكيكية وتعميقها" ([70]).
([3]) دلائل
الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، قراءة وتعليق محمود محمد شاكر، مكتبة الأسرة،
القاهرة، 2000م، ص405.
([7]) انظر: المرايا المحدبة، من البنيوية إلى
التفكيكية، عبدالعزيز حمودة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،
1418هـ -1998/، ص67.
([8]) انظر: الحداثة وما بعد الحداثة، عبدالوهاب
المسيري مع فتحي التريكي، سلسلة حوارات لقرن جديد ، دار الفكر ، ط الأولى، 2003م،
ص30.
([9]) انظر: الخروج من التيه، عبدالعزيز حمودة،
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2003م، ص198، وانظر: المعجم
الفلسفي، جميل صليبا، الشركة العالمية للكتاب، 1994م، 2/436-437و478-479.
([11]) انظر في فلسفة أفلاطون على سبيل المثال:
موسوعة الفلسفة ، بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط الاولى، 1984م،
2/154-189.
([14]) انظر:
تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، دار القلم ، بيروت، ص170. وتاريخ الفلسفة
الغربية، برتراند رسل، ترجمة زكي نجيب محمود ، ط الثالثة، 1978م، 3/269.
([17]) انظر:
التفكيكية ، دراسة نقدية، بييرف زيما، تعريب أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر، بيروت، ط الأولى 1417هـ -1996م، ص57.
([23]) انظر :
أصول اللسانيات الحديثة وعلم العلامات، فرديناند دي سوسير، جمع جوناثان كللر،
ترجمة، عز الدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية ، 2000م، القاهرة، ص50-51.
([25]) أسرار البلاغة في علم البيان، عبدالقاهر
الجرجاني، تعليق وتصحيح محمد رشيد رضا، مكتبة محمد علي صبيح، القاهرة، ص2.
([27]) الماركسية والنقد الأدبي، تيري ابجلتون، ترجمة
جابر عصفور، مجلة فصول المجلد الخامس، العدد الثالث 1985م، ص31.
([55]) قام
الدكتور حمودة بتطبيق مقولات التفكيكية ، لاسيما مقولة" كل قراءة إساءة
قراءة" على نص أدبي لشكسبير " الملك لير" وقد أعرضت عن ذكره لأمرين
لطوله ولموضوعه الأدبي، يمكن مراجعته في"الخروج من التيه" ص213-316.
([63]) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني ، قراءة
وتعليق محمود محمد شاكر ، القاهرة ، مكتبة الأسرة ، 2000م ، ص408 .