Loading ...

المنهج الأخلاقي النبوي (مع الأعداء أنموذجًا)- أ. د/ محمد عبد الرازق خضر

الحمد لله أهلِ الحمد ومستحقِّه، والصَّلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وخير خلقه، وعلى كل من استن سنته واقتفى أثره واهتدى بهديه، أما بعد:

فإنَّ أخلاقَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم  لا تماثلها أخلاق، فقد جُمعت له محاسنُ الأخلاق والسَّجايا كلها، فهو القُدوة والأُسوة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}([1])، وبيَّن عظيمَ أخلاقه في قرآنٍ يُتلَى إلى يوم القيامة، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}([2])، وهيهاتَ لأحدٍ أن يُوفِّي بقَدره بعد أن صدعَ القرآن بمدحه.

وقد اتَّسم النَّبِي صلى الله عليه وسلم  بالأَخلاقِ الكَريمة؛ فكان خُلقُه القرآن، ووسِع صدرُه أعداءَه، فكيف بأحبَّائِه، وقد امتلك النَّبِي صلى الله عليه وسلم  قوةً لا تعادلها قوة، ألا وهي قوة الأخلاق، قال الشيخ الطَّنطاوي: "وإذا كانت قوةُ الجسد هي الانتصار على المقاومة الماديَّة، وقوة القلب هي الظَّفر في المعارك، فإن هنالك قوةٌ أكبر؛ لأنها نصرٌ على ما هو أكبر من المادة وأشقُّ من خوض المعارك؛ هي قوة الخلق، وهي نصر على النَّفس وطبائِعها وغرائِزها ورغباتِها وميولِها"([3])؛ وقد شهد بمحاسن خُلُقِه المنصِفون من الغَرب وإن لم يُسلموا، يقول الكاتب الروسي المعروف تولستوي: "ومما لا ريب فيه أنَّ النَّبِي محمدًا كان من عُظماء الرجال المصلحين، الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمةً جليلةً، ويكفيه فخرًا أنه هدى أمة بأكملها إلى نور الحق، وجعلها تجنح إلى السَّكينة والسَّلام، وتؤثر عيشة الزهد ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضَّحايا البشريَّة، وفتح لها طريقَ الرقيِّ والمدنيَّة، وهذا عملٌ عظيمٌ لا يقوم به شخص مهما أوتي من قوة، ورجل مثل هذا جديرٌ بالاحترام والإجلال"([4])، ويقول توماس كارليل: "أرى في محمد آياتٍ على أشرفِ المحامد وأكرمِ الخصال، وأتبيَّن فيه عقلًا راجحًا، وفؤادًا صادقًا، ورجلًا قويًّا عبقريًّا، لو شاء لكان شاعرًا فحلًا، أو فارسًا بطلًا، أو ملكًا جليلًا، أو أي صنف من أصناف الأبطال"([5])، وقال أيضًا:" لقد كان في فؤاد ذلك الرَّجلِ الكبير؛ ابنِ القِفَار والفَلَوات المتوقِّد المُقلَتَين، العظيمِ النفسِ، المملوءِ رحمةً وخيرًا وحنانًا وبرًّا وحكمةً وحجًى وإربةً ونُهى أفكارٍ غيرِ الطَّمع الدنيويّ، ونَوايا خلافَ طلب السُّلطة والجاه"([6])؛ فأرغم الأعداء على الانقياد له والاعتراف بجميل خُلُقه، ويظهر ذلك لمن يتأمل سيرته.

·       فمن معالي أخلاقِه حرصُه على هدايةِ قومه:

1- فهاهم أهلُ مكة كذَّبوه وعذَّبوه وطردوه، وأذاقوا أصحابه من العذاب ألوانًا، واتَّهموه بالجنون تارة وبالسِّحر تارة أخرى، وسمَّوه بما لم يسمه به الله، فقال النَّبِي r: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عنِّي شتم قريشٍ ولعنهم، يشتمون مذمَّمًا، ويلعنون مذمَّمًا وأنا محمَّد!»([7])، ووضعوا التُّراب على رأسه وسلَا الجَزُور على ظهره، وجاءته ابنته فاطمة؛ وهي امرأةٌ ضعيفةٌ لتدفع عنه، وهو يقول لها: إن اللهَ مانع أبيكِ ولو بعد حين[8] ومع ذلك كان رحيمًا بهم، حريصًا على هدايتهم.

2- فلما يئِسوا من ثَنْيِه عن دينه بالقوة لجأوا إلى الحوار والمناقشة، فأرسلوا عُتبة ليُكلِّمه، فقال: يا محمد أأنت خيرٌ أم عبدالله؟ أأنت خيرٌ أم عبد المطلب؟ وكان النَّبِي صلى الله عليه وسلم  لا يجيبه تأدبًا منه r ولكي لا يدخل معه في أمور لا طائلَ وَرَاءها ولا جَدوى منها، فقال له: يا محمد أنت سَخْلة على قومك، يا محمد إن كنت تريد السِّيادة سوَّدناك علينا، وإن كنت تريد مالًا أعطيناك، وإن كنت تريد النِّساء فاختر من أجمل نساء قريشٍ عشرة، فلو كان من أمامه حديدًا لَلَان ولكنه أشدُّ من الحديد، فأجابه النَّبِي r في أدبٍ رفيعٍ ونادَاه بِكُنْيَتِه: أَفَرغت يا أبا الوليد، ثم تلَا عليه صدرَ سورة فصلت، إلى أن بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}([9])، فوضع يده على فمِه وأقسَم عليه ألا يُكمِل؛ لأنه يعلم أن محمدًا إذا قال لا يكذب، ثم قام عُتبة ما يَدري ما يَرجع به إلى نادِي قومِه، فلما رأوه مقبلًا قالوا: لقد رجع إليكم بوجهٍ غير ما قام من عندِكم، فجلس إليهم فقال: يا معشر قريشٍ قد كلَّمتُه بالذي أمرتُموني به حتى إذا فرغتُ كلَّمني بكلامٍ لا والله ما سمعَت أُذُناي مثلَه قطّ، وما دَرَيت ما أقول له يا معشر قريشٍ، فأطيعوني اليوم واعصُوني فيما بعده، واتركوا الرَّجلَ واعتزلوه، فوالله ما هو بتاركٍ ما هو عليه وخلُّوا بينه وبين سائر العرب فإن يظهر عليهم يكن شرفُه شرفُكم وعزُّه عزُّكم، وإن يظهروا عليه تكونوا قد كُفِيتُمُوه بِغيركم، فقالوا مقالة يملأها الكبر والعناد: صبأت يا أبا الوليد([10])".

3- وكذلك يظهر حرصُه على هدايتهم ورحمتُه بهم من خلال موقف حُصَين أبي عمران وكان مهابًا في قريش فكلموه في شأن النَّبِي صلى الله عليه وسلم  فذهب معهم ولما أراد الدخول على النَّبِي صلى الله عليه وسلم  قال النَّبِي لأصحابه رحمة به ومراعاة لشَيخُوخته: أوسِعوا للشيخ، فلما وصل إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم  قال: يا محمد ما الذي بلغنا عنك تُسفِّه أحلامنا وتسُبُّ آلهتنا؟! فعدل النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن حِواره في هذا الباب فقال: يا حُصَين كم تعبد اليوم من الآلهة؟ قال: سبعة؛ ستَّةً في الأرض وواحدًا في السماء، قال: فأيُّهم تعبدُ لرَغبتك ورَهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: يا حُصَين أما إنَّك لو أَسلمت، علَّمتُك كَلِمَتين تنفعانك، فنظر حُصَين في الأمر وللأمر تدبر؛ وشهد ألَّا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فلما أسلم حُصَين، قال: يا رسول الله، علمني الكَلِمتَين اللَّتَين وعدتَني، فقال: قل اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي"([11])، فكان النَّبِي r يردُّ الحجة بالحجة ولا يلجأ للقوة إلا عند الضرورة.

·       ومن معالي أخلاقه ودلائل رحمته بأعدائه وحرصه على هدايتهم عفوه صلى الله عليه وسلم  عنهم والتجاوز عما قد سلف من أفعالهم المشينة، وهذا يتجلى في سيرته العطرة، ومن ذلك:

1- عفوه عن أهل مكة الذين آذَوه وعذَّبوه هو وأصحابه، وحاصروه وحاولوا قتله ثم أخرجوه من بلده.

2- خرج إلى الطَّائف فعاملوه أسوأَ معاملة، سلَّطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم، وكانوا يرشقونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، وهو يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"([12]).

3- خرج من الطائف لا يدري ماذا يصنع؛ وكان في حيرة بين الطائف ومكة، بين أُناس رفضوا دعوتَه، ولم يستقبلوه وعاملوه أسوأَ معاملة؛ وهم أهل الطائف، وبين أهل مكة الذين أخرجوه منها ولم يمكِّنُوه من دعوته، إنه همٌّ تنوءُ به الجبال الرَّواسي، وعندها جاء جبريل ومعه ملك الجبال، يُخيِّره فيما يريد، فقال جبريل: "يا محمد هذا ملَكُ الجبال فمُرْه بما شئت"، فقال ملك الجبال: يا محمد، إن الله قد سمع قولَ قومِك لك، وأنا ملَكُ الجبال، وقد بعثني ربُّكَ إليك لتأمُرني بأمرِك، فما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأَخشَبَيْن"، فتأمَّل، كلمةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قالها لهلكوا جميعًا، وعلى الرغم مما فعلوه معه عفا عنهم، وقال في حِلم وَأَناة، مجسِّدًا للحِلم في أَسْمى مَبَانِيه ومعانيه،: "لا؛ علَّه أن يخرُج من أصلاب الرجال، أو أرحام النساء مَن يعبُد الله ولا يشرك به شيئًا"، فقال جبريل: "صدق من سمَّاك الرَّؤوف الرحيم"([13]).

4- وكذلك لما ظفر بهم وانتصر عليهم في فتح مكة وجاؤُوا إليه في ذلٍّ وصَغَارٍ وانكسار وهم يعلمون أنه لو فَعَل بهم أيَّ شيءٍ لا يلومه أحد، فقال لهم النَّبِي r: "ما تظنُّون أني فاعل بكم؟" فعندها اشرَأَبَّت الأعناق وتذكَّروا عفوَه وحلمَه، فقالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ، فقال -والدُّنيا كلُّها في انتظار سماع كلامه- "اذهبوا فأنتم الطلقاء"([14])، قال ابن العربي: "فإن له الإحاطةُ بالمحاسن والمعارف والتودُّد والرحمة والرفق {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}([15])، وما أظهر في وقت غلظة على أحد إلا عن أمر إلهي حين قال له: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}([16]) فأمر بما لم يقتضِ طبعه ذلك([17])

قال الطَّنطاوي معلقًا رحمه الله: "وهاكم الموقفُ الأكبرُ، المثلُ الأعلى في بابه في كل العصور: أهل مكة الذين جرَّعوه وأصحابه الصابَ والعَلقَم، وآذوه في جسده ونفسه وعقيدته، وقالوا عنه، ونالوا منه ومن أصحابه، وقاطعوه، وحبَسُوه في الشعب، ووضعوا الشوك في طريقه، وألقوا على رأسِه كرشَ النَّاقة وهو ساجد، وسخِروا منه أنواع السُّخرِيات، واستمر ذلك لا يومًا ولا يومين، ولا سنةً ولا سنتين، ولكن ثلاث عشرة سنة، ثم حاربوه وذبحوا أقرباءه وأصحابه، حتى ظَفِر بهم، وأقامَهم أمامه حول الكعبة أذلَّاء لا يملكون دفاعًا، وجاءت ساعةُ الانتقام... لا؛ دعوا كلمة الانتقام فإنها لا تليق بالمقام، ساعةَ العقوبة المشروعة التي يكون فيها الرَّد على هذه السلسلة الطويلة من التعدِّيات والإساءَات، وها هو ذا يقول لهم: «ما ترون أني فاعل بكم؟»، إنهم يذكرون ما صنعوا ويعرفون ما يستحقون، ولكن يذكرون أيضًا خُلقَ محمدٍ يعرفون مثله، فيقولون: « أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ»، ويسكتون في انتظار الحكمِ القطعيِّ، ولو كان الحكمُ بقتلهم جميعًا لما وجد من كُتَّاب التاريخ (الصديق منهم والعدو) من يلومه بكلمة، ولكن حكمَ محمدٍ كان غير ذلك؛ كان مفاجأة لا يتوقعها أحد، مفاجأة أدهشت عصره وكل عصر يأتي بعده، قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».([18])

5- كذلك تأمل عفوه وصفحه وحلمه عمَّن أراد قتله فتمكَّن النَّبِيصلى الله عليه وسلم  منه وعفا عنه، فقد جاء أن جابرًا أخبر: أنه غَزَا مع رسول الله r قبل نجدٍ، فلما قَفَل رسول الله r قَفَل معه، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثيرِ العِضَاه [أي: الشَّجر]، فنزل رسولُ الله r وتفرَّق الناس يستظلُّون بالشَّجر، فنزل رسولُ الله r تحت سمرةٍ وعلَّق بها سَيفه، [مثله مثلهم لا تفضيل ولا تمييز] فقال: ونمنا نومةً، فإذا رسول الله r يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: "إن هذا اخترط عليَّ سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، -ثلاثًا- " ولم يعاقبه وجلس([19]) وفي لفظ أحمد: "فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله r فقال: " من يمنعك مني؟" قال: كن كخير آخذٍ، قال: " أتشهد أن لا إله إلا الله"، قال: لا، ولكني أعاهدك ألَّا أقاتلك، ولا أكون مع قومٍ يقاتلونك، فخلَّى سبيله، قال: فذهب إلى أصحابه، قال: قد جئتكم من عند خيرِ الناس"([20])، فقد عفا النَّبِي صلى الله عليه وسلم  عنه مع كونه لم يدخل في الإسلام.

6- وكذلك عفوُه عن رأسِ المنافقين عبدالله بن أُبيِّ، الذي سعى في حربه وخَذَله غيرَ ما مرَّة وحَالفَ أعداءَهُ وأَشَاع حادثةَ الإفكِ على زوجه عائشةَ رضي الله عنها، ومع علمِه r بذلك عفا عنه ولما كُلِّمَ في قتله، قال: "أخشى أن يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه"([21])، بل يقف العَجَبُ متعجِّبًا من عفوه صلى الله عليه وسلم ، فلم يكتفِ بذلك؛ بل لمَّا طَلَب ولدُه من النَّبِي صلى الله عليه وسلم أن يكفن ابن أُبيّ –والده- في قميصِه وافق ولم يتردَّد، بل سارع لكي يصليَ عليه لولا أن نزل القرآن بتركِ ذلك، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه : أن عبدَ الله بن أُبيّ لما توفي، جاء ابنه إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، أعطني قميصَك أُكفِّنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفِر له، فأعطاه النَّبِي صلى الله عليه وسلم  قميصَه، فقال: «آذنِّي أصلِّي عليه»، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذَبَه عمر رضي الله عنه ، فقال: أليس الله نهاك أن تصلِّي على المنافقين؟ فقال:" أنا بين خيرتين، قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} " فصلى عليه، فنزلت: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ([22])}([23])

7- ويظهر بجَلَاء سمو خُلُقه ورحمته وسعة عفوه ورحابة صدره؛ لما وقف على عمِّه حمزة وقد قُتل، وشُق بطنه، واصطُلم أنفه، وجُدعت أذناه، ومُثِّل به؛ فلم ير منظرًا كان أوجع لقلبه منه، وقال: "لم أصب بمثلك أبدًا، ما وَقفت موقفًا قطُّ أغيظ لي من هذا"([24])، حتى كاد أن يتركه يُحشر من بطون السباع والطير، فقال: "لولا أن تجزع النساء، ويكون سنة بعدي؛ لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير"([25])، ثم قال: "رحمك الله- أي عم"، وأثنى عليه بصفاته الحميدة، فقال: "لقد كنت وصولًا للرحم فعولًا للخيرات، فوالله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثلن بسبعين منهم"، قال فما برح حتى نزلت: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}([26]) فاختار الصبرَ الذي هو خيرٌ له، فقال صلى الله عليه وسلم : "بل نصبر"؛ فكفر عن يمينه([27]).

وبعد ذلك يعفو النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  عن قاتلِ عمِّه وحشِيٍّ؛ ولا يتعرَّض له بأذى، على الرغم من عظم المصاب، يقول وحشيُّ: فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فَشَا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم  رسولًا، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآني قال: «آنت وحشي؟» قلت: نعم، قال: «أنتَ قتلتَ حمزة؟» قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: «فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟»([28]).

يقول طنطاوي: "تصور لو أن رجلًا قَتَل أحبَّ الناس إليك وأعزَّهم عليك، ثم جاءك مستسلمًا لدعوتك (وأنت الداعية)، هل تنسى ما ذَرَفت من ماء العين على قريبك، وما أرقت عليه من دمع القلب... وتعفو؟ لقد عَفَا الرسول عن وحشيٍّ قاتلِ حمزةَ لمَّا أسلم، لكن غلبَتْه طبيعتُه البشريَّة (فيما لا يخالف الإسلام ولا يضر الرجل فقال له: «لا تجعلني أراك»، فكان يتوارى عن عينيه([29]).

8- وكذلك عفوُه عن هندٍ بنتِ عُتبة التي أعانت على قتلِ عمه، وبلغ من حِقدِها على محمد ودعوته أن فَعَلت ما لا تفعله امرأة، ولا يفعله إنسان، ولا يفعله الذئب، ولا النمر فمثَّلت بحمزة؛ وبَقَرت بطنه واستخرجَت كبِده، وأرادت أكلَها فما استطاعت فلفظَتها، فها هو صلى الله عليه وسلم  لما جاءت هندٌ وأعلَنت إسلامَها وبيَّنت ما كان في مكنون سرِها، قالت: يا رسول الله، ما كان على ظهر الأرض من أهل خباءٍ أحبَّ إلي أن يذلُّوا من أهل خبائِك، ثم ما أصبحَ اليوم على ظهر الأرض أهل خباءٍ أحبَّ إلي أن يعزُّوا من أهل خبائِك([30])، فعفا عنها وتجاوز عن فعلها.

9- وكذلك عفوُه عن أبي سُفيان الذي عادَاه أشدَّ المعاداة، وجيَّش الجيُوش لمحاربته وحزَّب الأحزابَ ضدَّه، بل قاد الجيوش للقضاءِ عليه وأصحابه، فقَتَل من قتل منهم في أُحد، ومع ذلك لما فتح مكة وجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله، أُبِيحَت خَضْرَاءُ قريشٍ، لَا قريش بعد اليوم، ثم قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»([31]).

·       ومن معالي أخلاقه ورحمتِه بأعدائه وحرصِه على إخراجهم من الظلمات إلى النور وفاؤُه صلى الله عليه وسلم ؛ فقد ضرب أروع الأمثلة في الوفاءِ مع أعدائه، فكيف بأقاربه وأصدقائه؛ إنه رأى أعداءَه ضحايا يجب إنقاذُهم، ومرضَى يجب إسعافُهم، عامَلَهم بالوفاء.

1- لم يحفظ أنه أخلَف وعدًا، أو غيَّر عهدًا، بل عدَّ عدم الوفاءِ بالوعد، والغدر بالعهد من صفات المنافقين، فقال: "آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان"([32]).

وقال أيضًا: "أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن؛ كانت فيه خصلة من النِّفاق حتى يدَعَها: إذا اؤتُمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"([33])

2- وقد شهد له أعداؤُه أنه ما غدَرَ قطّ؛ ففي قصة هِرقل مع أبي سفيان لما قرَّبه هو وأصحابه ليسأله عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، فقال هِرقل لتُرجمَانه: قل لهم: إنِّي سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه. فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه([34])، وكانت هذه فرصةٌ سانحةٌ لأبي سفيان أن يكذب، وكان مما سأله: هل يغدر محمد؟ فقال: لا، ثم بيَّن له هِرقل علَّة سؤالِه هذا قائلًا: "وسألتك: هل يغدر؟، فذكرت أن لا، وكذلك الرُّسل لا تغدر"([35]).

3- ويشهد التاريخ أنه ما من أحد شهد له أعداؤه مثلما شهد أعداء النَّبِي صلى الله عليه وسلم  بالوفاء ومحاسن الأخلاق، ومما يدلِّل على ذلك ما جاء عن حُذيفة أنه قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريشٍ، قالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرناه الخبر، فقال: «انصرفا، نَفِي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم»([36])، قال النووي: "أراد النبي r أن لا يشيع عن أصحابه نقضَ العهد، وإن كان لا يلزمهم ذلك؛ لأن المشيع عليهم لا يذكر تأويلًا"([37]).

4- وتظهر أسمى معاني الوفاء وأرقاها التي تدلِّل على أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم  أبرُّ بني الدُّنيا وأوفاها ما جاء من وفائه مع أعدائه في صلح الحديبية، فقد سجل التَّاريخ كلمات تكتب بماء الذهب أو بماء العيون على صفحات من نور، وذلك لما قدِم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  مكة، وأراد أداء العمرة في ذي القعدة من العام السادس من الهجرة، ولكن حَالَ المشركون بينه وبين ذلك، فعَقَد النَّبِي معهم معاهدةً، ظاهرها الانتقاصُ من حقِّ المسلمين، ولكن كان في طيَّات مآلها فتحٌ ونصرٌ للمسلمين، وكان من بُنُود هذه المعاهدة أنه إذا جاء رجل من قريشٍ إلى المسلمين يجب عليهم أن يردُّوه، وإذا كان العكس لا تردُّه قريش([38])؛ ومن ذلك ردُّه لأبي جَندَل، فبينما كانت المعاهدة تُعقَد؛ إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرٍو يرسُفُ في قيوده، وقد خرج من أسفلِ مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فانتهزها سُهيل فرصةً لوضع النَّبِي صلى الله عليه وسلم  في اختبارِ وفاء، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أُقاضيك عليه أن تردَّه إلي، فقال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : «إنا لم نَقضِ الكتاب بعد»، قال: فوالله إذًا لم أصالحك على شيءٍ أبدًا، قال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : «فأَجِزه لي»، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال أبو جندلٍ: أي معشر المسلمين، أُردُّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عُذب عذابًا شديدًا في الله([39])، وفي رواية أحمد أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم  قال يوصيه ويخفف من ألَمَه في ثقةٍ بوعد الله له: "يا أبا جندل اصبر واحتسب؛ فإن الله عز وجل جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نغدر بهم"([40]).

وكذلك فعله مع أَبِي بصير حين جاءه مسلمًا؛ فأرسلوا في طلبه رجُلَين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين([41])؛ وفاء منه صلى الله عليه وسلم  بما عاهدهم عليه.

5- ولم يكن وفاؤه قاصر على الأحياء فقط بل كان مع الأموات أيضًا فلم ينس معروفًا قُدِّم إليه أو عهدًا قطعَه على نفسه؛ فعن محمد بن جبيرٍ، عن أبيه : أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم  قال في أسارى بدرٍ: «لو كان المطعمُ بنُ عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النتنَى لتركتهم له»([42])؛ فلم ينس النَّبِي صلى الله عليه وسلم  موقفَ المطعمِ بني عديٍّ معه عندما أدخله في جواره، لما عاد من الطائف وأراد دخول مكة.

6- وكذلك فعله مع شيبة بن عثمان قال: لما دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  مكة دعا شَيبة ابنَ عثمان بالمفتاح مفتاح الكعبة، فتلكَّأَ فقال لعمر: قم فاذهب معه، فإن جاء بها وإلا فاجلد رأسه، قال: فجاء بها، قال: فأَجَالها في حجره وشيبةَ قائمٌ، قال: فبكى شيبةُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هاكَ فخُذها، فإن الله قد رَضِي لكم بها في الجاهليَّة والإسلام»([43])، فلم يأخذها النَّبِي صلى الله عليه وسلم  منه مع إمكانه فِعل ذلك لكنَّه الوفاء الذي نحن في أمس الحاجة إليه في أيامنا، وإنما يعرف الفضل ذوُوه.

وهكذا يتجلَّى تعاملُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم  مع أعدائه؛ فقد كان همُّه هدايتَهم لا الانتقامَ منهم، وما انتَقَم النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم  لنفسه قط، بل كان قدوةً وأسوةً في كلِّ شيء، فقد كان مع أعدائه وفيًّا للعهود، أمينًا يعفُو عنهم ويرغب في تأليف قلوبهم؛ رحمةً بهم وحرصًا على هدايتهم كما وصفه الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[44]، وما ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض، وقليل من كثير، ولو ظللنا نكتب عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم  إلى انتهاء العمر ما وفَّيناه ذرة من قدره، ونسأل الله أن يجعلنا من أهل سنته، والمقتفين أثره، وممن يُحشرون تحت لوائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 



([1]) الأحزاب: 21.

([2]) القلم: 4.

([3]) سيد رجال التاريخ محمد، علي طنطاوي، ص20.

([4]) حكم النبي محمد، تولستوي ص187.

([5]) الأبطال، توماس كارليل ص76.

([6]) المرجع السابق ص 64.

([7]) أخرجه البخاري (3533).

[8] دلائل النبوة للبيهقي محققا (2/ 350)

([9]) .فصلت: 13.

([10]) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني ص: 234

([11]) رواه أحمد في مسنده 33/ 199 وأخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" 1/277، بإسناد ضعيف، ورواه الترمذي في جامعه (5/ 397) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ"، وضعفه الألباني.

([12]) أخرجه البخاري 4/ 176.

([13]) أخرجه مسلم 3/ 1420.

([14]) السنن الكبرى للبيهقي برقم 18276، 9/ 200.

([15]) الأحزاب: 43.

([16]) التوبة: 73.

([17]) فيض القدير للمناوي 5/ 171

([18]) سيد رجال التاريخ محمد، علي طنطاوي ص21.

([19]) متفق عليه، أخرجه البخاري 4/ 39 ومسلم 4/ 1786.

([20]) مسند أحمد ط الرسالة 23/ 193.

([21]) أخرجه البخاري (4/ 184).

([22]) التوبة: 80 - 84.

([23]) أخرجه البخاري برقم 1269 2/ 76.

([24]) سيرة ابن هشام ت السقا 2/ 96.

([25]) مغازي الواقدي 1/ 289.

([26]) النحل: 126.

([27]) رواه البزار في مسنده 17/ 21، والحاكم في مستدركه (3/ 218)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 288)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 143), وقال ابن حجر في فتح الباري (7/ 371) بإسناد فيه ضعف.

([28]) أخرجه البخاري 5/ 100.

([29]) سيد رجال التاريخ محمد، علي طنطاوي، ص20.

([30]) أخرجه البخاري 5/ 40.

([31]) أخرجه مسلم 3/ 1406.

([32]) متفق عليه، أخرجه البخاري 1/ 16 ومسلم 1/ 78.

([33]) متفق عليه، أخرجه البخاري 1/ 16 ومسلم 1/ 78.

([34]) أخرجه البخاري 1/ 8.

([35]) أخرجه البخاري 1/ 9.

([36]) أخرجه مسلم 3/ 1414.

([37]) شرح النووي على مسلم 12/ 144.

([38]) أخرجه البخاري 3/ 196.

([39]) أخرجه البخاري 3/ 196.

([40]) مسند أحمد ط الرسالة 31/ 219.

([41]) أخرجه البخاري 3/ 196.

([42]) أخرجه البخاري برقم 3139 4/ 91.

([43]) مصنف ابن أبي شيبة 7/ 409.

[44] التوبة: 128.


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...