Loading ...

الموقف الشَّرعي من العقل

 

إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فقد ميّز الله -تعالى- الإنسان بالعقل عن الحيوان والجماد، وجعله مَناطًا للتكليف، فلا يُكَلَّف المجنون؛ لأنه فاقِد للعقل، وهو صفة من الصفات الممدوحة، فلا يُوجد أحدٌ من العقلاء يذمّ العقل لذاته، وإنما يكون الذمّ لسوء استعماله، أو وَضْعه في غير موضعه، وهناك فرق ظاهر بين الأمر الحسن، وطريقة استعماله؛ فقد يَستعمل الإنسان أمرًا حسنًا في ذاته استعمالاً سيئًا، مثل جدال المنافق بالقرآن؛ فالقرآن لا ريب في حُسْنه، ولكنَّ جدال المنافق به قبيحٌ؛ لأنه تنزيل له في غير محله.

 

مفهوم العقل

قبل بيان الموقف الشرعي من العقل يَحْسُن أن نبيّن معناه ومدلوله؛ فالعقل في اللغة هو الحَبْس والمنع، ويُطلَق على الغريزة المُدْرِكة التي خلقها الله -تعالى- في الإنسان، وهي التي يُحَصّل بها العلم والمعرفة، وهي التي ميَّز الله بها الإنسان عن الحيوان والجماد، وهي مثل البصر في العين، والسمع في الأذن، كما يُطْلَق على العلوم الضرورية الأولية المتَّفق عليها بين الناس، ويشمل أيضًا العلوم النظرية التي تقوم على العلوم الضرورية بالطرق الصحيحة([1]).

ويدخل في معنى العقل: العمل بالعلم؛ لأن المعرفة التي لا تنفع صاحبها مخالفةٌ لمقتضى العقل، وهذا هو المراد في قوله -تعالى-: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: 10]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "العقل لا يُسمَّى به مجرد العلم الذي لم يَعمل به صاحبه، ولا العمل بلا عِلْم، بل الصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا"([2]).

وقد يُعرِّف البعض العقلَ بآثاره الحميدة النَّاتجة عنه، يقول ابن حبّان: "والعقل اسمٌ يقع على المعرفة بسلوك الصواب، والعلم باجتناب الخطأ، فإذا كان المرء في أول درجته يُسمَّى أديبًا، ثم أريبًا، ثم لبيبًا، ثم عاقلاً"([3]).

ولفظ العقل يُطلقه البعض ويريد به المعقولات المصنوعة حسب اجتهاد قائلها، وهذا الاستعمال فيه مخادعة؛ لأن المعقولات المصنوعة هي آراء لأصحابها، والمخالِف لها لا يصحُّ أن يقال عنه: إنه مخالف للعقل، والواجب أن يكون استعمال لفظ العقل يُرَاد به العقل العادي الذي يشترك فيه الناس دون اعتبار آراء الأشخاص، ومِن هنا قُسِّم العقل إلى: العقل العاديّ، والعقل الصناعيّ.

 

العقل في القرآن والسنة:

لم يأتِ لفظ العقل بصيغة المصدر في القرآن، ولكن ورد بصيغة الفعل "يعقلون، عَقَلُوه" ونحوها، وقد جاءت مادة (عقل) بتصرفاتها المختلفة (49) مرة، والوارد في القرآن من مرادفات العقل الأخرى مثل: الحِجْر، وسُمِّي بذلك لأنه يَحْجُر صاحبه -يعني يمنعه- عن المساوئ، والنُّهَى جمع نُهية، وسُمِّي العقل بذلك لأنه يَنْهى صاحبه عن القبيح، والألباب جمع لُبّ، وهو الخالص، ونقاوة الشيء تسمَّى لُبًّا أيضًا، وسُمّي العقل لُبًّا "لأنه خلاصة الإنسان، أو أنه لا يُسمَّى ذلك إلّا إذا خلص من الهوى وشوائب الأوهام، فعلى هذا هو أخص من العقل"([4])، فاللُّبّ نوع خاص من العقل، ولفظ العقل أشمل منه، والأحلام، فالحِلْم هو العقل، كما قال الله -تعالى-: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا} [الطور: 32]، أي عقولهم([5]).

كما ورد في القرآن أعمال العقل وهي: "التفكُّر، والنَّظر، والتدبُّر، والعِلْم، والفِقْه، والاعتبار".

أما في السُّنة النبوية فقد ورد العقل بصيغة المصدر في أكثر من حديث، ومنها: قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لم أرَ من ناقصات عقل ودين"، وفيه سألت المرأة: "وما نقصان العقل والدين؟، قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل"([6]).

والمتأمل في آيات القرآن والسنة يجد أنها مدحت المتَّصف بالعقل، وأثنت عليه، ولم يأتِ فيها ما يدلّ على ذمّ المتّصف، بل ورد ذمّ ما يقابل العقل من الحُمْق والجهل والسَّفه وعدم العمل والاعتبار، ونحو ذلك.

ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث صريح في فَضْل العقل، وكل الأحاديث المروية في ذلك موضوعة وضعيفة([7])، يقول ابن حبَّان: "لستُ أحفظُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرًا صحيحًا في العقل؛ لأنَّ أبان بن أبي عيَّاش، وسلمة بن وَرْدَان، وعُمير بن عمران، وعلي بن زيد، والحسن بن دينار، وعبَّاد بن كثير، وميسرة بن عبد ربه، وداود بن المحبَّر، ومنصور بن صُقَير، وذويهم ليسوا ممن أحتجّ بأخبارهم، فأُخَرِّج ما عندهم من الأحاديث في العقل"([8]).

 وقال بذلك أيضًا: الدار قطني، وابن الجوزي، والعقيلي([9])، وابن القيم([10])، والأحاديث السابقة ليست في فَضْل العقل، وهذا لا يعني ذمّ العقل، ولكن الأحاديث المروية في فضل محدّد معلّق على العقل ليست صحيحة.

 

العقل ومقاصد الشريعة

حِفْظ العقل من مقاصد الشريعة الضروريَّة، وحِفْظ العقل يكون من جهة الوجود، ومنه ما أوجب الله -تعالى- مِن العِلْم به، وبرُسُله، وبشريعته.. ويكون من جهة العدم، ومنه ما حَرَّمه الله -تعالى- من الخمر وكل مُسْكِر، وهذا من المُحْكَمَات الشرعية الظاهرة، وهو من الدين الجامع بين الأنبياء، فقد جاء الأنبياء جميعًا بالمحافظة على العقل من الشرك والخرافات والسحر والكهانة، ونحوها من الأمور الباطلة.

 

الاستدلال العقلي على العقيدة

 تضمَّن القرآن الكريم جملةً من الأدلة العقلية الدالَّة على وجود الله -تعالى-، وربوبيته، وكمال الله -تعالى-، وتنزيهه عن النقائص، واستحقاقه للعبادة، كما تضمَّن القرآن الكريم الدلائل العقلية على صدق الأنبياء، وصحة نبوتهم، وتضمَّن الدلائل العقلية على إمكان البعث والجزاء الأخروي، وهو إحدى الأدوات التي استعملها القرآن في تقرير صحة التوحيد والنبوات والمعاد.

وفي هذا دلالة بيِّنةٌ على أن الشرع خاطَب الناس بالبرهان والأدلة على صحة العقائد الإيمانية، وأن العقل دالٌّ على صحة الاعتقاد السليم، ومُوافِق للنقل الصحيح، وأن أهل الشرك والكفر والبدع والضلالة ليس معهم عقل صريح؛ وإنما هي شبهات وضلالات لا تُغْنِي من الحقِّ شيئًا.

ومن الأدلة على الاستعمال الشرعي للعقل على صحة المعاني العقدية السليمة: قول الله –تعالى-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[الطور:35]، وقوله -سبحانه-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك:14]، وقوله -عز وجل-: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الروم:27]، وقوله -جل شأنه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 21- 22]، وقوله -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء: 9]، وقوله -سبحانه-: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الأنبياء: 22]، وقوله -تعالى-: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[يس: 78- 83]، وكافة الآيات التي فيها ذِكْر المخلوقات كالسَّموات والأرض والسحاب والشجر والدواب والأنعام؛ كقوله –تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)[الحج:18]، والآيات في الاعتبار بخلق الإنسان ومراحل تطوُّره، ونحوها.

والقرآن ذاته هو الآية الكبرى الدالَّة على نُبُوَّة نبينا محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا تحدَّاهم الله أن يأتوا بمثله أو بسورة منه؛ فلم يستطيعوا؛ لإعجاز نَظْمه وبلاغته وبيانه، وما تضمَّنه من التشريعات والسُّنَن الربانية.

 

دعوى التعارض بين العقل والنقل

يستحيل حصول التعارض بين العقل والنقل؛ لأن العقل من مخلوقات الله -تعالى-، والنقل من أمْرِهِ وكلامِهِ، ولا يتعارضان والمصدر واحد، والتعارض يحصل في عقل بعض الناس، وليس بين العقل والنقل في ذاته.

وما يذكره البعض من دعوى التعارض مرفوضة ابتداءً، وهو وَهْم موجود في عقولٍ لا تُعظِّم الشرع، وما يزعمونه من معارضة العقل للنقل: إمَّا أنَّ ما ذكروه من معقولات فاسدة متناقضة، وإما أن يكون النقل المذكور ليس صحيحًا من جهة الثبوت، أو خطأ من جهة الفهم والدلالة، فيكون العقل معارضًا لنص باطل لا يصح نِسْبته للرسول، أو يعارض فَهْمهم الباطل للنصّ وليس النص نفسه.

وقد وقع في التراث الفكري لدى المسلمين عقائد مبتدعة مبنية على المعارض العقليّ، مثل نَفْي صفات الله -تعالى-، ونَفْي الرؤية، وأن القرآن مخلوق، ونحوها من العقائد الباطل،  وقد أدَّى دعوى المعارض العقليّ إلى تَحريف النصوص الشرعيَّة؛ من خلال التأويل لمعانيها على غير مراد الله ورسوله، وامتلأت كتب التفسير وشروح الأحاديث، وكتب أصول الفقه وغيرها من هذه التأصيلات الباطلة، والتأويلات الفاسدة لمعاني النصوص، وقد تَكّون على هذه البِدَع طوائف وأحزاب؛ مثل المعتزلة والأشاعرة، وغيرهم.

ومن هذه الفِرَق الضالة، وتأصيلاتها الباطل مثل دعوى المُعارِض العقليّ، وتأويلاتها الفاسدة للنصوص: المدرسة العقلانيَّة التي تُخالِف السُّنَّة النبويَّة.

وأصل ضلالهم: تَرْك ما تَضمَّنه القرآن والسُّنَّة من الأدلة العقليَّة السَّليمة، وتأصيل إمكان التَّعارُض بين العقل والنقل، ثم تأسيس أدلة عقليَّة مُبتدِعَة مثل دليل حدوث الأجسام، وتقرير وُجُود المُعارِض العقليّ؛ لأن دليل الحدوث مُخالِف لبعض النصوص الشرعيَّة، ثم اعتمدوا التَّحريف والتأويل لتغيير معاني النصوص لتوافق دليلهم الفاسد، وعليه: فإنها مدرسة عقليَّة تتَّبع الأهواء والبِدَع الضَّالَّة، وتُعارِض ظواهر النصوص الشرعية([11]).

 

 

 

 



[1]- بغية المرتاد ص 252، وانظر شرحًا توضيحيًّا لهذه الفكرة: مسألة في النفس والعقل – مجموع الفتاوى 9/ 286.

[2]- مسألة في النفس والعقل – مجموع الفتوى 9/ 287.

[3]- روضة العقلاء ص 89 ت محمد عايش.

[4]- تاج العروس 4/ 187.

[5]- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/ 436 ت السلامة.

[6]- رواه البخاري (304 )، ومسلم (889)، وأبو داود (4679)، والترمذي (2613)، والنسائي (1579)، وابن ماجه (1288)، وأحمد في المسند (5343) واللفظ لمسلم.

[7]- انظر بغية المرتاد 1/ 247-249.

[8]- روضة العقلاء ص 87-89  ت محمد عايش.

[9]- انظر بغية المرتاد 1/247.

[10]- انظر المنار المنيف.

[11]  - فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة في كتابه الكبير (درء تعارض العقل والنقل).


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...