إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات . 25 أكتوبر, 2022, 5:32 AM
إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات
بسم الله الرحمن الرحيم
وعناية أهل السنة والجماعة بمصادر الاستدلال وطرقه ومنهجيته وضوابطه نابعة عن إدراكهم لمدى خُطُورة الانحراف في باب الاستدلال؛ إذ إنَّ الخطأ فيه يعني الخطأ في فهمِ الدِّين، وعدم معرفة مراد الله ورسوله، لذا تمسَّك أهل السنة والجماعة بالمصادر الصحيحة وتميزوا بذلك، فالاستدلال الصحيح هو الذي يجعل الدين ثابتًا عل مبادئه وأصوله لا يتزحزح ولا يتغير ولا يسمح بدخول البدع؛ لأنه قائم على مصادر صحيحة منضبطة، يحتكم إليها أهل السنة والجماعة ويأخذون بها ولا يعارضونها بغيرها.
بدايةً يجب أن ندرك أنَّ ثمة مصادر للاستدلال، وهي عند أهل السنة والجماعة: الكتاب والسنة والإجماع، والفطرة والعقل دليلان فرعيَّان تابعان للكتاب والسنة. فهذه مصادر؛ وهناك استدلال وأدلة.
أمَّا الاستدلال فيقول فيه أبو البقاء الكفوي (ت: 1094هـ): "الاستدلال: لغة: طلب الدليل، ويُطلق في العرف على إقامة الدليل مطلقًا من نصِّ أو إجماع أو غيرهما، وعلى نوع خاص من الدليل، وقيل: هو في عرف أهل العلم: تقرير الدليل لإثبات المدلول سواء كان ذلك من الأثر إلى المؤثر أو بالعكس"([1])، وخلاصته: البحث والنظر في الدليل لطلب مدلوله.
أمَّا الدليل فقد عرَّفه السيوطي (ت: 911هـ) فقال: "الدليل: ما يؤدي إلى إدراك المطلوب، وقيل: ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وقيل: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، وقيل: هو كل أمر صح أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى علم ما لم يعلم باضطرار"([2])، وخلاصة القول في الدليل: أنه هو الذي تثبتُ به الأحكام.
فآيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أدلة نتوصل من خلالها إلى الأحكام الشرعية، والاستدلال هو إعمال الفكر في هذه الأدلة لنُثبت الحكم الشرعي.
وهذا التفريق مهم جدا حتى نعرف التجديد إذا كان فأين يكون، وأعود إلى سؤالنا: هل يحتاج الاستدلال فعلًا إلى تجديد؟
والجواب يعتمد على فهمنا للتجديد، هل التجديد هو هدمٌ للماضي، وبناءٌ جديد لطرق الاستدلال كما يقول به بعض المعاصرين الحداثيين الليبراليين ممن يرون أن طرق الاستدلال المأثورة عن السلف ما عادت تُجدي في عصرنا، ولذلك ابتكر الحداثيون طرقا جديدة في الاستدلال ونقد الأدلة مع قدر كبير من النسبية وتسييل المعاني حتى أدَّى إلى اختفاء مراد الله ورسوله! فلا شك أن هذا التجديد ليس هو المطلوب.
ومن جهة أخرى نجد أنَّ الحاجة إلى الاستدلال الصحيح القائم على مناهج السلف وتطويرها داخل إطار منهجهم ضرورة ملحَّة، فقد كثرت الشبهات، وفُتحت أبواب جديدة في الصراع الفكري المعاصر بين الإسلام والإلحاد، وبين الإسلام والعلمانية، فمن الضروري الاعتماد على طرق تعتمد على العقل السويِّ والواقع مثل الاستدلال بالمكتشفات الحديثة في مجال الكون والفيزياء والفلك وغير ذلك، مع عدم مخالفة منهج السلف في الاستدلال.
لتجديد الاستدلال فقه خاصٌّ به، من أهم ضوابطه: الاستناد إلى المحكمات الشرعية:
- فلا نخترع طريقة في الاستدلال تخالف مراد الله ورسوله.
- ولا نترك ظواهر النصوص.
- ولا نؤولها لنجعلها موائمة لروح العصر كما يدعون.
لكننا نفهم النصوص الشرعية كما أنزلها الله على ظواهرها وكما فهمها الصحابة الكرام ومن تبعهم، ثم نأتي إلى طرق الاستدلال التي تكون منضبطة بالمحكمات الشرعية، مستندة إلى الكتاب والسنة، فنطورها ونجددها ونستدل بما يلائم الواقع المعاصر.
وخلاصة هذا الأمر: أنّ أهل السنة والجماعة تجديدهم للاستدلال وطرقه منضبطٌ بالمحكمات الشرعية، وهذه المحكمات قد ضاق بها الحداثيُّون ذرعًا فأرادوا إسقاطها، أو إسقاط التحاكم إليها؛ لأنهم يريدون مناهج بعيدة عن الدليل الشرعي المعصوم حتى يتسنى لهم ممارسة العبثية التأويلية، والتحاكم إلى هذه المحكمات في صونٌ لباب الاستدلال بالخصوص وباب الشريعة عمومًا.
حين نتكلم عن فقه التجديد في الاستدلال فإنَّ أهل السنة والجماعة قد تميزوا فيه تميزا باهرًا؛ وذلك لأنَّهم حافظوا على الاستدلال الصَّحيح مع عدم إغفال الواقع والمستجدات، فكانت طريقتهم جامعة بين الحفاظ على محكمات الدين وبين الالتفات للواقع، ومن أميز أهل السنة والجماعة في باب الاستدلال وضبطه: الإمام الشافعي رحمه الله.
ولا خلاف أنَّ الإمام الشافعي وفكره له مركزية كبيرة في الفكر الإسلامي، سواء عند أهل السنة والجماعة أو حتى عند مخالفيهم، فقد اعترف بعبقريته حتى الحداثيُّون أنفسهم والذين وضعوه تحت مقصلة نقدهم، وما ذاك إلا لأن الشافعي رحمه الله قد ترك أثرًا منهجيًّا وعلميًّا واضحًا في علوم المسلمين، خاصة فيما يتعلق بطريقة التفقه، وتلقي العلم وفهمه، وكيفية التعامل مع النصوص الشرعية، فضبط ذلك كله بضوابط أخذها من النصوص الشرعية نفسها ومن فعل الصحابة الكرام مع النصوص الشرعية، فهو بلا شك المجدد الأبرز في العلوم الإسلامية في عصره وحتى بعد عصره، فإن الناس عالة على قواعده وضوابطه وموازين القياس التي وضعها كما قال الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241هـ): "ما أحد مس محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في عنقه منة"([3])
أما في باب الاستدلال بالخصوص فإنَّ الشافعي قد جدد فيه كثيرًا، وأثبت كيف أن التجديد في الخطاب والاستدلال يكون دون إخلال بالمحكمات بل بناء عليها، ويظهر فقه تجديد الاستدلال عند الشافعي في الآتي:
أول ما ينبغي على المجدِّد فعله هو أن يضع يده على المحكمات أولا فيثبتها ويبني عليها، فإنَّ من يريد أن يجدد في أيِّ قضية دون أن يرجع إلى المحكمات فيها يكون كمن نقض غزله من بعد قوة أنكاثًا! وهو ما يفعله بعض الحداثيين حين يريدون الانفلات من المعاني الملزمة للنصوص الشرعية، أو يريدون الاحتكام إلى سواها من العقل أو الواقع أو المصلحة أو أيَّ أمر كان، فإن عدم الالتفات إلى المحكم يجعل الدين عبثيًّا فوضويًّا يحكم فيه كل أحد برأيه النسبي لننتهي في الأخير إلى أديان لا دين واحد.
وهو ما سعى الشافعيُّ إلى القضاء عليه فوضع الضوابط وقعَّد القواعد، وبنى استدلالاته على تلك المحكمات في الدين.
ومن مظاهر ذلك: أنه لو وقع خلافٌ في الاستدلال بالنصوص الشرعيِّة من الكتاب أو السنة يكون الحكم في هذا النزاع هو: المحكم من الكتاب والسنة، ومستند أهل السنة والجماعة في منهجهم هذا هو قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، يقول ابن كثير رحمه الله (ت: 774هـ): "وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [الشورى: 10] فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال"([4]).
وقد أعمل الشافعي هذا كثيرًا وذكره في كتبه، يقول: "ومن تنازع ممَّن بعد رسول الله ردَّ الأمر إلى قضاء الله ثم قضاء رسوله، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء نصًّا فيهما ولا في واحد منهما ردوه قياسًا على أحدهما، كما وصفت من ذكر القبلة والعدل والمثل، مع ما قال الله في غير آية مثل هذا المعنى"([5]).
ومن مظاهر ذلك عند الشافعي: أنه كان يختار من أقوال الصحابة إن اختلفت ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة، يقول: "قلت: أقول ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر عمن سمعهما مقطوع إلا باتباعهما، فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحد منهم، ثم كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان إذا صرنا فيه إلى التقليد أحب إلينا وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة فيتبع القول الذي معه الدلالة"([6]).
ومن مظاهر ذلك: تأكيدُه على أنَّه لو خالف قوله أيَّ دليل من الكتاب والسنة فإنه يرجع إليهما، ويترك قوله، يقول الشافعي لأحمد: "أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا"([7])، وهي المنهجية التي اتبعها مع أقواله هو وكذا مع أقوال غيره، فإنه يردُّ الأقوال إلى الكتاب والسنة ويأخذ الأقرب إليهما، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): "ثم إن الشافعي رضي الله عنه لما كان مجتهدًا في العلم ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعُه وإن خالف قولَ أصحاب المدنيين=قام بما رآه واجبًا عليه، وصنَّف الإملاء على مسائل ابن القاسم، وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه، وقد أحسن الشافعي فيما فعل، وقام بما يجب عليه وإن كان قد كره ذلك من كرهه وآذوه وجرت محنة مصرية معروفة"([8]).
من فقه الإمام الشافعي رحمه الله أنه لا يفرق بين المتماثلات في الوجه الذي تماثلا فيه، ومن ذلك أن الشافعي كان واحدًا من أبرز من أظهر حجِّية السنة، وكتبه مليئة بتقريرات حجية السنة، وواحد من الأوجه التي استند إليها: أن السنة وحيٌ من الله مثل القرآن، وأنَّ الله كما أمر بطاعة الله سبحانه وتعالى فكذلك أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتفريق بين الطاعتين وبين الوحيين تفريق بلا دليل، يقول الشافعي في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]: "ذكر الله منه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرض، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به"([9])، فالله قد أمر بالإيمان بالله وبرسوله فوجب طاعتهما باتباع القرآن والسنة، ولا يجوز التفريق بين هذين المتماثلين، وهو ما ينبغي أن يلتفت إليه الحداثيون حين يفرقون بين الأخذ بالوحي في العبادات الشخصية ويرفضون الأخذ به في العلاقات الخارجية مع غير المسلم -مثلًا-.
فإنَّ الشافعي رحمه الله قد ألمَّ بعلم أهل الحديث وبرع فيه، فقد أخذ عن مالك بن أنس (ت: 179هـ)، وتميز بالمدرسة الحديثية حتى قال عنه أبو حاتم الرازي (ت: 277هـ): "لولا الشافعي لكان أصحاب الحديث في عمى"([10])، ثم رحل إلى العراق فالتقى بتلميذ أبي حنيفة: محمد بن الحسن الشيباني (ت: 189هـ) فأخذ عنه علم أهل العراق، وكان كثيرًا منه مبنيًّا على الرأي مع الدَّليل الشرعي، إلا أن هذا الجمع بين المدرستين جعله يدرك أنَّ الاستدلال يجب أن يتحاكم إلى المحكمات من كتاب وسنة، كما أنه لا ينبغي لنا أن نترك الواقع.
والمطلوب من الإنسان أن يوازن بين المحكمات من النصوص الشرعية ووجوب الرجوع إليها وبين الواقع والمصالح وغير ذلك، فلا يُتعدى على النصوص بحجة فهم الواقع، ولكن يضبط الواقع بالنصوص الشرعية ومحكمات الدين.
ومن فوائد ذلك:
1/ أمن من يدرك المدارس الموجودة ويأخذ بالصالح منها يمكنه أن يُرجع الناس إلى المحكمات مع عدم إغفال أساليبهم.
2/ التوسط والاعتدال، سواء بين النص والمصلحة، أو بين النص والواقع، أو بين النص والعقل، والتوسط والاعتدال هنا هو الرجوع إلى المحكم من الكتاب والسنة وفهمه فهمًا صحيحًا مع اليقين بأنه لا يعارضه لاعقل ولا واقع ولا مصلحة.
منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال: أنهم يأخذون بجميع نصوص الكتاب والسنة، فيأخذون بكل القرآن الكريم، وبكل ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك خلافا لجمهور المتكلمين في عدم قبول أحاديث الآحاد في العقائد.
وقد أفاض الشافعي رحمه الله في "الرسالة" في تقرير حجية خبر الآحاد واستدل لها بأدلة عديدة، والشاهد من صنيعه أن النص لو ثبت عن قائله الصادق وجب الأخذ به في كل أبواب الدين.
يجب على من يريد التجديد في الاستدلال أن يعرف الواقع ويلتزم به ويبني عليه لكن لا يخالف الأصول الشرعية، وقد احتج الشافعي على الاستدلال على حجية الإجماع بأن المراد ليس اجتماع أبدانهم لأن الواقع يقول غير ذلك، فمراد الشرع إذن: اجتماع الفكر في التحليل والتحريم، يقول الشافعي: "قال: فما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟
قلت: لا معنى له إلا واحد.
قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدا؟
قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجار فلم يكن في لزوم الأبدان معنى لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئًا فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما.
ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم"([11]).
والشاهد: ملاحظته للواقع في استدلاله، وهو ما ينبغي على المسلمين فعله، ولا يعني هذا أن الواقع يفرض رأيه على النص الشرعي؛ فيغير النص أو يؤول، بل المراد: أن النص الشرعي الثابت يخدم الواقع ولا يصادمه، والعاقل هو من يبين عن هذه العلاقة بين النص والواقع.
من فقه الاستدلال -وهو مما يميز عن العقلية الفذَّة لعلماء المسلمين-: السبر والتقسيم، وفيه حصر للعلل كلها ثم اختبارها علة علة حتى يصلون إلى العلة الصحيحة، ويمكن أن يعبر عنه بجمع الأوصاف المؤثرة، وقد وضع الشافعي رحمه الله قواعد وضوابط لضبط الاستدلال هي مبنية على جمع الأوصاف المؤثرة، فحين تحدث رحمه الله -مثلا- عن شروط الحديث، بدأ يذكر الأوصاف التي تكون مؤثرة في قبول الحديث الصحيح، وهي شروط عقلية استخرجت بعد سبر وتقسيم ليتلافى الأوصاف غير الضرورية ثم يعتمد الضرورية منها([12]).
من أهم ما ينبغي على المستدل فعله أثناء استدلاله: ترتيبه للأدلة، الأقوى فالأقوى، وهذ باب من أعظم الأبواب التي ينبغي على المسلم تعلمه والتفقه فيه أثناء حواره مع غير المسلمين من المشركين والكفار أو الملحدين، وكذا يحتاجه أهل السنة والجماعة في حواراتهم مع الفرق المخالفة لهم، وذلك لأن المراد هو إظهار الحق واتباعه وذلك يكون بطرح الأدلة الأقوى؛ سواء من جهة ثبوتها أو من جهة دلالتها، ويقدم القطعي على الظني.
وقد ذكر الشافعي هذا في كتبه، يقول: "والعلم طبقات شتى؛ الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة، ثم الثانية الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم له مخالفا منهم، والرابعة اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، الخامسة القياس على بعض الطبقات، ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى"([13]).
وفائدة هذا هي ما بينها الشافعي بقوله: "إنما يؤخذ العلم من أعلى"، فلو وجدنا دليلا قطعيا كان الاستدلال به أولى من الاستدلال بدليل ظني، وإذا وجد الحكم الشرعي في الكتاب والسنة لا نتجاوز إلى غيرهما من معارض عقلي أو ذوقي أو مصلحي مزعوم.
كان الشافعي رحمه الله لا ينظر إلى الدليل على أنه منفصل عن العلوم الأخرى، فهناك من يدعي اليوم بأننا مأمورون بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلا أننا لا نفهمهما كما فهم الصحابة أو التابعون، لأن المراد أننا نرجع إلى النصِّ مباشرة ونفهم منه حسب ما يمليه واقعنا، وهذا يؤدي في الحقيقة إلى تعدد المعاني للدليل الواحد وهو ما يخالف مقصد الشريعة من اجتماع الناس على الحق، أما ما ذهب إليه الشافعي فهو أخذ العلوم المؤثرة في الدليل وإتقانها وفهم الدليل بناء عليها، فنصوص الكتاب والسنة مثلا يجب أن نفهمها على ضوء اللغة العربية، ولذا اهتم الشافعي بالعربية، وشنَّع الحداثيون عليه لاهتمامه بهذه اللغة، يقول الشافعي: "وإنما بدأت بما وصفت من أنَّ القرآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه، وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها"([14]).
الأصل في الدليل أنه على ظاهره، فلا يُبحث له عن معنى متكلف حتى نصيِّره إليه، وذلك لأن الشارع أراد البيان والإيضاح لا الإلغاز فوجب حمل كلامه على ظاهر اللغة حتى يعين الشارع أن هذا الظاهر غير مراد، يقول الشافعي: "والقرآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه أو سنة أو إجماع بأنه على باطن دون ظاهر"([15]).
رأينا كيف أنَّ الشافعي رحمه الله قد أدخل التجديد في الاستدلال، وتميز في إرساء القواعد والضوابط في فهم النصوص الشرعية حتى أشاع لنا هذا العلم الكبير، وهو: علم أصول الفقه، إلا أننا نجد في كل سطر يكتبه: التحاكم إلى المحكمات، فالعقل والتفكير والنظر يجب أن يكون مرتبطًا بالمحكمات الشرعية حتى يكون تفكيرنا واستدلالنا منضبطا لا لوازم باطلة له، فلا نقدم على المحكمات شيئًا لأنها محكمة حقها أن تتقدم على غيرها، يقول الشافعي: "فيسقط كل شيء خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقوم معه رأي ولا قياس فإن الله عز وجل قطع العذر بقوله صلى الله عليه وسلم"([16]).
أما واقعنا المعاصر، فإننا نجد أن كثيرا من الناس يعيش قلق المتغيرات، فالمتغيرات جزء أساسي في بنية التفكير، وهي كما أنها حاضرة في التفكير المعاصر فهي موجودة أيضا في التفكير الفقهي الأصولي.
ولا شك أن المتغيرات اليوم كثيرة جدا، ويجب على الفقيه والأصولي والعقدي أن يتأملها ويراعيها في استدلالاته، ومنها مثلا: النظر في المصالح المتغيرة، وفي الحاجيات التي تتغير من زمان إلى آخر، ومآلات تطبيق الأحكام، والنظر في الأعراف والعادات، والقوة والضعف التي تطال المجتمعات، إلى غير ذلك من بحر المتغيرات التي تعاقبت الأجيال على النظر فيها وضبطها وفحصها، ومن يهتم بالدين الإسلامي وتقرير أصوله والدفاع عنه ورد الشبهات التي تحوم حوله فإنه يجب عليه أن يضبط باب المحكمات حتى لا تتلقفه المتغيرات الفكرية، ويجب أن يكون الاستدلال المعاصر -والذي توسعت مجالاته وأدواته- يجب أن يكون مرتهنًا إلى هذه المحكمات الشرعية بانيًا استدلاله عليها.
ومن أهم الأسباب التي تدعونا إلى الالتزام بالمحكمات: أنه ليست كل المتغيرات حقيقية ومقيدة بضوابط صحيحة، فبعض المتغيرات غير معتبرة بل هي انحرافات عن الشريعة، وبعض المتغيرات لا يمكن الحكم عليها أو الأخذ بها دون ضوابط ومقيِّدات، فكيف تكون هذه الضوابط إذا لم نحتكم إلى المحكمات؟
وخلاصة الأمر: أن الاستدلال واستنهاض العقل المسلم للتجديد فيه لمواكبة التحديات المعاصرة ينبغي أن يكون وفق المحكمات، وبذلك نكون قد حافظنا على ديننا ثابتًا راسخًا وفككنا خيوط الشكوك التي تحاك حول الدين وشرائعه، وضبطنا باب الانفلات الذي سيفتح دون التحاكم إلى المحكمات، وقد رأينا كيف أن الحداثيين حين ابتعدوا عن المحكمات وصلوا إلى تضييع الدين بالكلية، فإن أول ما تدركه حين تقرأ لمشاريع الحداثيين في تجديد الدين أنهم ألغوا المحكمات، فالفكر الحداثي يرى أن النصوص التي جاءت في زمن معين لا يمكن أن تنظِّم الحياة بنفس مفهومها في وقتنا المعاصر، بل يحتاج إلى تجديدٍ على مستوى المفاهيم والتفاسير حتى وإن كان النصُّ قطعيًّا، يقول أحمد كمال([17]): "وتطبيق النَّص على الوقائع المتجددة لا تحسمه قضيَّة الورود القطعي وحدها، وإنما يظلُّ المجال واسعًا ومفتوحًا للنظر في دلالات النصوص ووجوه تفسيرها وما إذا كان حكمها تشريعًا عامًّا دائمًا أو حكمًا موقوتًا يتغير بتغير الأزمن والأمكنة، أمَّا اجتهاد القدماء من السلف فإنه يظل تجربة غير ملزمة لا يكفي القدم وحده مسوغًا للالتزام بها"([18]).
وليس الإنكار هنا على أن التجديد يجب أن يكون في الخطاب والوسائل وحتى طريقة الاستدلال لكن الإنكار على فتح الباب على مصراعيه دون التزام بالمحكمات، والنتيجة: تقديم دين جديد بالكلية مع المحافظة على النصوص الشرعية كألفاظٍ فقط! فإنهم قد أدخلوا القرآن والسنة في فوضى تأويلية بقولهم بالتاريخية والأنسنة والنسبية بدعوى التجديد، فالنص الشرعي ثابت ومفهومه سيَّال متغير يتغير دائمًا حسب من يقرؤها، وهو ما يعبر عنه أيضا بالنص المفتوح.
وهو ما أراد العقل الإسلامي السني (الشافعي أيضا) استئصاله وإغلاق الباب عليه حتى يبقى الدين ثابتا صحيحا قائما على المحكمات.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?
Muchas gracias. ?Como puedo iniciar sesion?