دراسة علمية بعنوان إشكالية التبعية الفكرية- د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فقد قدر الله تعالى على هذه الأمة الوقوع في " التبعية " للأمم الأخرى؛ حيث أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى ، قال: فمن"([1])، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم ؟، قال: فمن الناس غير أولئك؟"([2])

ففي الحديثين السابقين إخبار بأن التبعية ستقع في الأمة متابعة لأهل الكتاب (اليهود والنصارى )، وأيضاً متابعة للأعاجم ( فارس والروم ).

وهذا التقدير من الله تعالى ماضٍ  وحاصل لا شك فيه، ونحن نرى شواهده في التاريخ القديم، والواقع  المعاصر، وهو من التقدير الكوني الذي أُمرنا بمدافعته ومقاومته بأمره الشرعي، وتقديره الديني.

والنهي عن التبعية للكفار ومشابهتهم يعد من أصول العقيدة  الإسلامية لأنه يتعلق بأصل الولاء والبراء؛ فالتبعية عن اختيار يعتبر نوعاً من تولي الكفار، والله تعالى يقول " ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهة الكفار، ومخالفته لهديهم وطريقتهم  بلغ حد التواتر القطعي.

وقد وقعت التبعية ومشابهة الكفار في مجال العقائد، والأعمال، والأخلاق، والعادات وغيرها، فكثير من الفرق الضالة والتيارات الفكرية القديمة لها جذور تعود إلى الأمم الأخرى كأخذ الشيعة من اليهود والمجوس، وأخذ الصوفية من الثيوصوفية و الفلسفة الإشراقية الهندية، وأخذ الفلاسفة والمتكلمين من الفلسفة اليونانية، والصابئة، وكذلك أخذ القدرية من النصارى وغيرهم.([3]) فالتبعية الفكرية لدى التيارات الفكرية القديمة ثابتة علمياً وتاريخياً.

وقد فصل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، وبين أوجه التبعية والمشابهة للكفار في الحياة الإسلامية، وضرب على ذلك أمثلة كثيرة، وفي مجالات متعددة.

وحديثي في هذه الدراسة والمقالة العلمية سيكون في التبعية الفكرية في العصر الحديث، وبيان بعض مظاهرها، وأسبابها، وكيفية التحرر منها، وليس المقصود هنا المناقشة الشرعية لأحكام التشبه بالكفار؛ فهذا مع أهميته له مجال آخر.

وسيكون عرض هذه الدراسة في النقاط التالية:

-       مدخل توضيحي للإشكالية.

-       التبعية مصطلحاً ومفهوما .ً

-       بين التبعية والتغريب.

-       أدوات الهيمنة والتبعية.

-       تجليات ظاهرة التبعية ومجالاتها.

-       كيف نتحرر من التبعية الفكرية والثقافية.

-       توصيات الدراسة.

 

-       1 -

مدخل

فإن الحالة الجديدة التي ظهرت في العالم العربي خلال السنتين الماضيتين المعروفة إعلامياً بالربيع العربي تعتبر في مجملها في مصلحة الأمة الإسلامية، فقد أزالت أعتى النظم العلمانية المستبدة، وأظهرت  هوية الشعوب ومطالبها الشرعية، وقياداتها الحقيقية، وقد سقط  بسقوط هذه الأنظمة العلمانية بعض جوانب التغريب والتبعية، ولكن تحدي التبعية لا يمكن أن يزول بمجرد زوال نظام هنا أو هناك حيث أن هذا التحدي الكبير متجذر في المجتمعات الإسلامية، والمؤسس له والداعم القوي لاستمراره وهو الغرب وذيوله في البلاد العربية والإسلامية لا يزال موجوداً ويتمتع بقوة هائلة في مجالات عديدة من الحياة الاجتماعية، فالتبعية متجذرة في واقعنا المعاصر بصورة مخيفة، وهي تحتاج إلى جهود عالمية كبرى، ووقت طويل لتطهير الأمة الإسلامية منها.

فالتبعية مرض فتاك تظهر أعراضه في الأفكار والمناهج والنظم التعليمية والحياة الاجتماعية في الأمة، ولا تزال آثاره وأعراضه موجودة اليوم ، ولم يسلم منها الإسلاميون، ولهذا رأينا بعد وصول عدد من الحركات الإسلامية إلى الحكم أعراضاً لهذه الإشكالية الخطيرة؛ برزت في بعض الأفكار والطروحات الغريبة عن المنهج الإسلامي من بعض الإسلاميين المتأثرين بالفكر الغربي، وهو أحد إفرازات التبعية بسبب التأثير الفكري والثقافي للغرب.

لم تكن حالة التبعية موجودة في الأمة الإسلامية قبل أكثر من قرنين من الزمان، ولكنها تكونت من ثنائية التغلب الغربي ( الهيمنة )، والضعف العربي والإسلامي( الانهزامية)، هذه الثناية (الهيمنة / الانهزامية) المتداخلة بين الداخل والخارج هي التي أنتجت هذه التبعية المقيتة التي وصلت إلى العقل الباطن في المجتمعات الإسلامية، وأصبحت تمارس بعض أنماطها بصورة عفوية، ولا يرى صاحبها الأشياء إلا من خلال المنظار الغربي، بل قد يمارسها احياناً وهو لا يدري أنها غربية، بل ربما ظنها مترسخة في ثقافته وحضارته.

فما يعرف اليوم " بالثقافة العالمية" هو في الحقيقة " الثقافة الغربية "، فالمتغلب هو الذي يفرض فكره وثقافته على المغلوب، فإذا وصلت الهزيمة في المغلوب إلى قلبه وضميره وعقله أصبح يقلد غالبه، ولا يرى أو يفكر أو يعمل ... إلا من خلاله.

ويمكن رصد هذه الحالة تاريخياً منذ دخول الاستعمار الفرنسي على يد نابليون إلى مصر، ثم سقوط الخلافة العثمانية، وبداية استعمار العالم الإسلامي؛  فقد استعمر الغرب أغلب البلاد العربية والإسلامية إن لم يكن كلها، وبعد خروجه منها تم دمج  البلاد العربية والإسلامية في منظومات دولية على أساس المراكز ( وهي الدول الصناعية الاستعمارية الكبرى)، والأطراف أو الهوامش وهي ما يسمى بالدول النامية والبلاد العربية والإسلامية منها، فأصبح العالم الغربي هو مركز العالم كله وقبلته التي يتلقون منها كافة الأمور في الحياة ومنها المجال الثقافي، ولا يخفى أن هذه الحالة من التنظيم الدولي السياسي والاقتصادي والعسكري والإعلامي والتقني ينتج ثقافة وفكراً عالمياً هو فكر السيد الحر والمتحكم القوي وهو مركز كل شيء وقبلته، وفي المقابل فإن الأطراف والهوامش ستكون في حالة التقليد والتبعية والعبودية والأسر والرق الفكري والثقافي.

وقد طردت هذه الثقافة العالمية الغربية الثقافات المحلية وأضعفتها، وغيرت مظاهر الحياة في اللباس والأكل والعادات الاجتماعية فضلاً عن الأفكار وطريقة النظر إلى الحياة والتاريخ والمجتمع واللغة.

ولو جئنا نعدد المظاهر الاجتماعية من الحياة التي صبغتها القيم والثقافة الغربية لعجزنا عن الحصر والتتبع، وهناك ما هو أعمق وأدق من المظاهر الحياتية العامة وهي طرائق التفكير، وأسلوب الحياة، وقد يتساهل البعض في التعامل مع هذه المظاهر بسبب النظرة الجزئية للموضوع فينظر إلى التعامل مع الغرب، ويستدعي كلام الفقهاء في جواز البيع والشراء من الكفار، ويغفل عن التأثير المجتمعي الكلي الذي جعل مجتمعاتنا تبع للغرب في كل شيء.

وتعود جذور التبعية للغرب في الأمة إلى بدايات التأثر بالتقنيات والتنظيمات الإدارية في مجال السياسة وتنظيم الجيش والقانون الإداري كما حصل في زمن الدولة العثمانية، وقد تطورت تدريجياً خاصة مع العلاقات والتواصل الدبلوماسي والبعثات، وقد وصل ذروته هذه الأيام بعد التشابك الدولي شديد التعقيد، وظهور الانترنت والهواتف الذكية والاعلام والاتصالات والمواصلات والسفر والسياحة والاقامة والدراسة والتبادل التجاري مع البلاد الغربية.

إن من أعظم مخاطر التبعية الفكرية أنها تخترق منظومة القيم العقدية والأخلاقية في المجتمع الإسلامي، وتدمر مرجعيته الإسلامية العليا، وتذيب القيم الإسلامية([4]) تحت شعار التقدم والمدنية والحرية والديمقراطية، وتقوم بعملية الاقتران الحتمي والضروري في اللاشعور بين التبعية ومفاهيم التقدم والمدنية والتطور والحداثة !!

ولهذا ينكر علينا التغريبيون رفض الحداثة الغربية بما تحمله من قيم وأخلاق ومنطلقات فلسفية ومنظومات معرفية عن الكون والإنسان والحياة .. بحجة أن هذه المفاهيم أصبحت مفاهيم عالمية وهي مرتبطة بالتراكم الحضاري والمشترك الإنساني، وبالتالي يخلطون بين توطين التقنية المادية المحضة وبين الثقافة والمعرفة التي انتجت هذه التقنية أو التي تنتجها التقنية كمحتوى لها، ولا يرون فرقا بين قبول الأجهزة الكهربائية بأنواعها المأخوذة من الغرب وبين ما يتضمنه الإعلام مثلا من أفلام وأفكار تهدد البنيان القيمي والأخلاقي والديني للمجتمع.

والتبعية المعاصرة للغرب تختلف اختلافاً كبيراً عن التشبه بالكفار قديماً من حيث شموليتها، وتهديدها لأصل المنهج الإسلامي، والاحتكام اليه، و اعتبار الشريعة الإسلامية المرجعية النهائية في حياة الإنسان والمجتمع.

وهي أيضا تتجاوز تبعية النخبة العلمانية في البلاد العربية والإسلامية إلى عموم المجتمع الذي صبغته أدوات العولمة بالقيم الحضارية المنبثقة عن الفكر الغربي المعاصر.

                           

                                           -      2 -

التبعية: مصطلحاً ومفهوماً

التبعية: مصدر صناعي من تَبَع، وهي تعني كون الشيء تابعاً لغيره، ومعانها الفلسفي: ملازمة التابع لمتبوعه.([5])

ومصطلح  " التبعية " ارتبط في دلالته المصطلحية بالمعجم الاجتماعي والاقتصادي الغربي، ويعرفونها بأنها " مجموعة من النظريات التي ترى أن فشل دول العالم الثالث في تحقيق مستويات ملائمة ومتواصلة من التنمية إنما يرجع إلى تبعيتها للدول الرأسمالية المتقدمة. وقد تطورت نظريات التبعية لمواجهة المزاعم المتفائلة لنظرية التحديث التي تقول ان بمقدور دول العالم الثالث ان تلحق بركب الدول المتقدمة. إذ يؤكد أصحاب نظرية التبعية ان للمجتمعات الغربية مصلحة في الحفاظ على وضعها المتميز بالنسبة للدول النامية، وأن لديها الإمكانيات المالية والتكنولوجية لتحقيق ذلك "([6])

وقد ظهر هذا المفهوم في الخمسينيات الميلادية على يد عدد من المفكرين الاقتصاديين في أمريكا الجنوبية وخاصة البرازيل.

ولكن المفهوم توسع بشكل كبير ليدخل في مساحات اجتماعية أوسع من الاقتصاد مثل السياسة والأخلاق والثقافة وغيرها، وارتبط بمصطلحات مقاربة كالتغريب والتحديث والعلمنة وغيرها.

والمصطلح - وإن كان مرتبطاً بالجانب الاقتصادي- ليس مصطلحاً مهنياً فنياً بل هو مصطلح فكري وثقافي يتعلق بالفكر الاقتصادي والسياسي والثقافي في المجتمع.

وهناك حزمة من المصطلحات تتقاطع مع مفهوم التبعية كالعولمة والحداثة والتغريب والمركزية الغربية والهوية والتراث، فبعض هذه المصطلحات تتداخل مع مصطلح التبعية كمفهوم مثل التغريب والحداثة، وبعضها تتداخل معه كسبب مؤثر مثل العولمة والمركزية الغربية، وبعضها تتداخل معه كمحل اشتغال وتأثير للمصطلح مثل الهوية والتراث.

والتبعية الثقافية تتكون في المجتمع الإسلامي المعاصر من خلال امتزاج أمرين اثنين هما:

أولاً: قوة الثقافة الغربية الغالبة.

 وقد تكونت هذه القوة للثقافة الغربية من خلال القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية والصناعة التقنية، يساند هذه القوة رؤية غربية مغرقة في العنصرية جعلت الغرب يرى في نفسه مركز العالم وقبلة الدنيا ( المركزية الغربية )، وهذه المركزية حولها الغرب إلى ثقافة مقدسة حتمية ويريد أن يصنع من الثقافة الغربية مرجعاً للعالم كله، فالغرب يرى نفسه " مركز العالم ديناً وفلسفة وسياسة واقتصاداً وأخلاقاً"، والثقافة الغربية لا تعترف بخصوصيات الثقافات والمجتمعات الأخرى ([7])، فالغرب لا يرى إلا نفسه فالتاريخ هو التاريخ الغربي، والحضارة هي الحضارة الغربية، والثقافة هي الثقافة الغربية فقط.

ولهذا برر المفكرون الغربيون الاستعمار وسرقت ثروات الشعوب الأخرى تبريراً عقلانياً وأخلاقياً بأن الحضارة الغربية هي الحضارة الوحيدة التي بلغت الرشد، وبقية الحضارات لا تزال بدائية همجية متخلفة، ولهذا اعطوا انفسهم حق الوصاية على هذه البلدان حتى تبلغ رشدها !!.([8])

ثانياً: الهزيمة النفسية والانبهار الفكري بالغرب

وفي المقابل كان هناك " استعداد للتبعية  " في العالم الإسلامي بدأت جذوره من الانحراف العقدي، وضعف الالتزام بالإسلام، وهذا ما جعلت الهزيمة تدب في قلوب أبناء المجتمع الإسلامي، ولما حصل الاحتكاك مع الغرب تولد انبهار عظيم بالقوة الثقافية والحضارية الغربية؛ مما جعل البعض يرى ان المخرج للأمة من ضعفها أمام الأمم هو بالتبعية للغرب في كل شيء، ويرون فيه تقليداً مفيداً للناجحين في حياتهم.

وقد وضع طه حسين منهجاً شاملاً للنهضة فقال : " هي أن نسير سير الأوربيين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ما يُحَب منها، وما يعاب"([9])

ويؤكد ذلك بقوله: " نريد أن نتصل بأوروبا اتصالاً يزداد قوة من يومٍ إلى يوم، حتى نصبح جزءاً منها، لفظاً ومعنى، حقيقةً وشكلا"([10])

وهذا النص من أبلغ النصوص المؤسسة للتبعية والتغريب، وقوله ( لنكون لهم أندادا) مناقض لطلبه بالسير وراءهم، فالتبعية لا تنتج أنداداً بل تخرج مقلدين لهم في الخير والشر وما يحب وما يعاب، وهذه هي الامعية المذمومة !!

ويقول محمد عابد الجابري عن الحداثة ( وهو أحد دعاتها ): " تستوحي أطروحاتها وتطلب المصداقية لخطابها من الحداثة الأوربية التي تتخذها أصولاً لها "([11])

وهذا يدل على أن مشروع الحداثة والنهضة في الوطن العربي هو مشروع تبعية للغرب، وهو مشروع علمنة يقصي الدين والتراث التي يعتبرها عوائق أمام التقدم والحضارة.

يقول زكي الميلاد([12]): " لم تتجه عملية التحديث نحو إشاعة العلم والمعرفة كما كان متوقعاً([13])، وإنما سعت إلى إعادة تشكيل المجتمع على النمط الغربي، كما ظهر في النمط الفرنسي بخصوصية تجربته العلمانية المتطرفة"([14])

وهذه النتيجة التي توصل لها زكي الميلاد ليست جديدة فالحس  شاهد على أن خطاب الفكر العربي المعاصر خطاب علماني متابع للثقافة الغربية؛ وإن كان يوجد في تضاعيفه من يرفض التبعية ويطلب الاستقلال.

وفي تحليله للطريق الموصل للحداثة يقول زكي نجيب محمود " لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، وإن مصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وامريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء، وما استطعنا من القبول وتمثل ما قبلناه "([15])

 

ويقول أيضاً: " لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً، وعشنا مع من يعيشون علماً وحضارةً"([16])

وهذه النوعية التي تدعو للقطيعة الكلية التامة مع التراث الإسلامي موجودة إلى الآن لكنها قليلة في مقابل  المدرسة الجديدة التي تقوم بتوظيف التراث لخدمة أهدافها العلمانية.

يقول الجابري وهو أحد رموز هذه المدرسة الجديدة " لا سبيل إلى التجديد والحداثة .. إلا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصة وإمكاناته الذاتية "([17])

وفي كتابه " التراث والحداثة " ذكر الجابري عتب أصدقائه الحداثيين عليه اهتمامه بالتراث وكثرة الاعتماد عليه، وان هذه الطريقة لا تتناسب مع الحداثة المعاصرة، فأجابهم بأنه لا مجال لأن يتقبل المجتمع الحداثة إلا من خلال التراث، والعمل على توظيفه لتحقيق أهداف الحداثة.

يقول في موضع آخر " إن الحداثة تبدأ باحتواء التراث وامتلاكه لأن ذلك وحده هو السبيل إلى تدشين سلسلة من الوقائع معه إلى تحقيق تجاوز عميق له، إلى تراث جديد نصنعه، تراث جديد فعلاً"([18])

وهذه المدرسة استعملت التأويل والانتقاء من التراث وتوظيف الأحداث التاريخية والمواقف السياسية وآراء الفرق الضالة ونحوها كأدوات للوصول إلى غايتهم.

ولا شك ان هذه الطريقة ذات تأثير في المجتمع لأنها تعتمد على الخداع لكنها مفلسة علمياً وأخلاقياً.

وممن يتوافق مع الجابري في هذا المنهج الدكتور حسن حنفي حيث يقول " التراث هو نقطة البداية كمسؤولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقاً لحاجات العصر، فالقديم يسبق الجديد، والأصالة أساس المعاصرة، والوسيلة تؤدي إلى الغاية.. التراث هو الوسيلة، والتجديد هو  الغاية، وهي المساهمة في تطوير الواقع"([19])

وهذا النمط الجديد من التبعية والتغريب يتوافق مع الخط العام للخطاب التغريبي في الغاية وإن كان يخالفه في الوسيلة المستخدمة.

                            


 

-      3 -

  • بين التبعية والتغريب

هناك توافق كبير بين مصطلح التبعية والتغريب، ولعل الفرق بينهما أن مصطلح التبعية استعمل في التداول الاقتصادي أكثر، والتغريب أوسع تداولاً منه في المجال الثقافي والفكري.

فالتغريب  (  westernization = وسترنايزيشن ) هو : " جعْل الشرق تابعًا للغرب في الثقافة وأساليب العيش وطرق التفكير "([20])

يقول  الدكتور محمد مصطفى هدارة إن " اصطلاح  (التغـريب ) ليس من ابتكارنا في الشرق، ولكنه ظهر في المعجم السياسي الغربي باسم ( Westernyation، وكانوا يعنُون به نشْر الحضارة الغربية في البلاد الآسيوية والإفريقية الواقعة تحت سيطرتهم عن طريق إزالة القُوى المضادَّة التي تحفظ لهذه البلاد كِِيانَها وشخصيتها وعاداتها وتقاليدها، وأهمّها الدين واللغة، وفي زوال هذه القوى ضمانٌ لاستمرار السيطرة الغربية السياسية والاقتصادية حتى بعد إعلان استقلال هذه البلاد وتحرُّرها من نَيْر الاستعمار الغربي ظاهـريًا"([21])

وقد أشار المستشرق الانجليزي  (جب ) في كتابه " إلى أين يتجه الإسلام " إلى أن هدف تأليفه لهذا الكتاب معرفة إلى أي مدى وصل التغريب في الشرق الإسلامي، وأن التغريب أحد المهام الرئيسية التي عمل عليها الاستعمار، وأن من أهم سياسات التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام بالحضارات الجاهلية القديمة.

-      4 -

أدوات الهيمنة والتبعية

استخدم الغرب المتغلب مجموعة من الوسائل لترويض الأمم الأخرى لا سيما الأمة العربية والإسلامية، ودمجها في منظومته الفكرية والثقافية العالمية، ولعل من أبرز الأدوات المستعملة في الهيمنة الغربية التي تقتضي التبعية في الطرف الآخر ما يلي:

1-            المنظمات الدولية

أنشأت الدول الصناعية الاستعمارية الكبرى " هيئة الأمم المتحدة " و أذرعتها المختلفة كاليونسكو ومنظمة التجارة العالمية لتكون وسيلة فعالة في الهيمنة على بقية دول وشعوب العالم، فالسيطرة السياسية والاقتصادية والإعلامية والتقنية تنتج ثقافة مهيمنة على بقية الثقافات الأخرى.

وإذا أردنا أن نأخذ نموذجاً لهذه الأداة الفعالة فعلينا النظر إلى منتجات اليونسكو ونوعية الثقافة التي تروج لها، وكذلك مؤتمرات المرأة والسكان التي عقدت في القاهرة وبكين وغيرها.

2-            الإعلام والتقنية

لقد اصبح الإعلام بكل أنواعه المختلفة يغسل عقول الناس، ويغير مفاهيمهم ونظرتهم للكون والحياة، فالأخبار وصياغتها وتوجيهها، والبرامج التفاعلية، والأفلام، والصحافة، ومواقع التواصل الاجتماعي تقوم بعملية برمجة للحياة والفكر والثقافة، وهي تملك سلطة قاهرة على العقول والعادات والتقاليد ...

وهكذا التقنية – مع ما فيها من خدمة للإنسان –  فهي ذات تأثير في أسره لثقافة منتج التقنية والمتحكم في محتواها.

لقد أصبح الإعلام والتقنية أقوى طرق الدول الصناعية القوية في إيصال ثقافتها، وفرضها على الناس بطريقة ناعمة، فالكثافة والاحتكار وقوة التسويق والهيمنة هي التي جعلت الغرب يشكل ثقافات الشعوب، ويجعلها ثقافات مستهلكة للفكر والثقافة كما هي مستهلكة لمنتجاته الأخرى، فأمام هذه الهيمنة الغلاّبة يوجد هزال شديد، وتقليد مقيت في الطرق المقابل، وباتحادهما تنتج عملية التبعية والعبودية الثقافية.

3-            التيار العلماني في البلاد الإسلامية

وهذا التيار يعد طابوراً خامساً تربى على الثقافة الغربية، ويمثل التبعية واقعاً فكرياً، وأصبح احد دعاتها، وقد مكّنه الاستعمار الغربي من رقاب المسلمين، وزرعه في مفاصل الدول الإسلامية، وجعله قائداً لمسيرة الشعوب الاسلامية؛ فقام بتسخير ثروات البلاد الإسلامية لتطويع الناس للغرب وثقافته، وقام بتوظيف الإعلام والتعليم والمنظمات العربية لصبغ المجتمع الإسلامي بالتبعية للغرب، وتربية أبناء المسلمين في التعليم العام والجامعات على المفاهيم الغربية، واستغل المنظمات العربية لترسيخ ثقافة الغالب في حياة الناس.([22])

4-            الاحتلال المباشر وملحقاته

يعتبر الاحتلال المعروف اصطلاحاً بالاستعمار وملحقاته كالاستشراق والتنصير والغزو الفكري أحد أهم وسائل إخضاع الأمة الإسلامية للثقافة الغربية، فلم يكن هناك حاجة حقيقية للمذاهب الفكرية المعاصرة، ومن الثابت تاريخياً أن هذه المذاهب لم تنشأ من تفكير داخل الأمة، ولكنها جاءت على أيدي الغزاة، وقام الاحتلال بتوطينها، وتدريسها في الجامعات العربية والإسلامية قسراً، وتعليم وتخريج بعض النخب في هذه الجامعات، فالعلمانية والليبرالية، والقومية والاشتراكية وغيرها هي مذاهب مستوردة يستهلكها الطلاب بسبب فرض الاحتلال والاستبداد لها.

وإذا أردنا أن نأخذ نموذجاً تاريخياً لذلك فعلينا مراجعة جامعة القاهرة كنموذج، فقد أسست الجامعة واستمرت فترة طويلة من الزمن تستهلك نظريات المذاهب الفكرية في كافة حقول العلوم الإنسانية والطبيعية، واخرجت آلاف المدرسين والكتاب والاعلاميين المقتنعين بأفكارها، والمؤمنين بصدقها دون أي فحص نقدي حقيقي لها.

                       


-      5 -

تجليات ظاهرة التبعية ومجالاتها

في هذه الفقرة سوف أعرض لبعض المظاهر والصور والتجليات لحالة التبعية في المجال الفكري والثقافي، ولتوسع الموضوع سوف أكتفي بمجالين مهمين في مجال الاجتماع البشري المعاصر، وهما: المجال الاقتصادي، والمجال السياسي:

1-            في الفكر الاقتصادي

المتأمل في الطرح الفكري في المجال الاقتصادي يجد انه لا يخرج عن الإطار العام لنظريتين غربيتين متناقضين كلاهما من افرازات عصر التنوير الأوروبي وهما: الرأسمالية، والاشتراكية.

وكلا النظامين يقومان على الربا والائتمان بالفائدة، وقد عاش العالم المعاصر النتائج المرة والمدمرة للنظام المصرفي الربوي، والفكر الاقتصادي الغربي المعاصر يقر ويعترف بالأضرار الفادحة لهذا النظام، وهو لا يستطيع الخروج منه جراء الأساس الفلسفي الذي قام عليه وهو الاعلاء من الحرية الاقتصادية سواء بترك تنظيم الأسواق ( الرأسمالية )، أو تحفيز الأسواق نحو الحرية بتدخل الدولة في الاقتصاد لمصلحة الحرية ( الاشتراكية ).

وفي العالم الاسلامي لا يخرج الكثير من المفكرين عن هذين المذهبين، بل أصبح الكثير من المثقفين يرى استحالة وجود اقتصاد نام خارج المنظومة الاقتصادية الغربية، وان التنظيم الاقتصادي الدولي حتمي وضروي لأي نمو اقتصادي؛ ربما يرى البعض ذلك من باب الواقع الاضطراري الذي لا يمكن تغييره، لكن الأكثر يرون فيه المنهجية الاقتصادية المتطابقة مع العلم والتطور والمعرفة.

وقد وقفت على نقد عميق لبعض الاقتصاديين العرب للرأسمالية لا مثيل له، مثل كتابات الدكتور رمزي زكي([23])، وسمير أمين، ولكن هذه العقلية النقدية العميقة للفكر الاقتصادي الرأسمالي لم تستطع الخروج من الاستلاب الحضاري للغرب، فكان المخرج لديها في الاشتراكية التي هي وجه ثان للفكر الغربي، وكأن الحق لا يخرج عن الفكر الغربي ومنتجاته الثقافية.

" وفي خلال المائة سنة الماضية وجد علماء أجلاء في العالم الاسلامي يسلمون بالتصور نفسه، ويرون أن لا بديل للنظام البنكي الربوي آلية رئيسة يقوم عليها اقتصاد قوي مزدهر غلاب.

وبما أن هذا التصور يناقض حكماً شرعياً معروفاً من الدين بالضرورة وهو تحريم الربا الذي عد القرآن ارتكابه مؤذنا بحرب من الله ورسوله، فلم يكن أمامهم - تحت التأثير السحري القاهر للثقافة الغربية- إلا أن يقتحموا عقبة التعامي عن البديهية العقلية، فينكروا أن يكون ما تسميه البنوك الربوية قرضاً بفائدة هو الربا المحرم، غافلين عن أن رجل الشارع في لندن أو باريس أو روما يسميه (الربا) بل أن البنوك الربوية العربية حينما تتحدث بغير العربية تسميه (ربا)، بل إذا أنكر كونه (الربا) فمعنى ذلك أنه لم يوجد قط ولا يوجد في الدنيا (ربا)، أن ما تسميه البنوك الربوية العربية قرضاً بفائدة هو الصورة الأساسية للربا التي عرفت على مر التاريخ، وسمتها (ربا) كل الشعوب.

ومن ناحية أخرى فلم يتنبه هؤلاء العلماء إلى أن الواقع العملي، والتجارب الناجحة التي طبقت خلال العقود الثلاثة الماضية أثبتت إمكانية التحول في الوساطة المالية بين المدخرين والمستثمرين من النظام الربوي إلى نظام يبرأ من الربا شكلاً وجوهراً.

إن قوة الأسر الثقافي الذي أجبر هؤلاء العلماء على أن يعموا عن بديهة عقلية، وأن يتعاموا عن الحقائق الواقعية لا يمثل في حقيقة الأمر شذوذا من أفراد في مجال الأسر الثقافي بل هو في الحقيقة ظاهرة عامة واتجاه سائد، فقد أظهرت العقود الثلاثة الماضية التي وجدت فيها مؤسسات مالية سميت "بالمصارف الإسلامية" أو "النوافذ الإسلامية" في البنوك الربوية، أن عمل المصرفيين الإسلاميين يعاونهم - بحسن نية - أعضاء الهيئات الشرعية في المصارف من العلماء على بذل جهود نشطة لاكتشاف وابتكار مناورات فقهية تمكنهم من متابعة آليات النظام البنكي الربوية وتبنيها بعد إلباسها ثوباً لا يستر العورة في الغالب باسم "المعاملات الشرعية"، لقد تمكنوا من تبني التعامل المصرفي بالفائدة البسيطة، ثم بالمعدل العائم للفائدة، وحتى عمليات التحوَّط والمشتقات المالية في صور يستحيل إيجاد الفرق بينها وبين أصولها من آليات التعامل الربوي سواء من ناحية الجوهر والحقيقة أم من ناحية الآثار السلبية...  لم تكن الخسارة الثقافية التي فرضها الرق الثقافي الذي مارسته وتمارسه الثقافة الغربية على العالم الإسلامي خسارة فكرية بل كانت خسارة عملية كبرى تمثلت في شلل العالم الإسلامي وعجزه عن إنقاذ نفسه وإنقاذ البشرية من البلاء العظيم (الربا)، وعجزه عن إيجاد بديل يحقق المبادئ الثلاثة الكبرى للاقتصاد الإسلامي: 1- أن يكون المال قياماً للناس، 2- وأن لا يكون دولة بين الأغنياء، 3- وأن يحقق العدل في التعامل."([24])

2-            في الفكر السياسي

أشهر نظام سياسي معاصر تروج له الدول الصناعية الكبرى هو " الديمقراطية"، وربما تكون مفردة الديمقراطية من اكثر المفردات تردداً في الخطابات الفكرية، بل اصبحت معياراً مقوماً للفكر من حيث تقدمه أو رجعيته.

ومع كثرة النقد الموجه للديمقراطية إلا أن الغشاوة على الأعين، والوقر في الآذان يمنعان من مجرد التفكير في احتمال وجود نظام سياسي آخر أكثر عدلاً وإنصافاً وتحقيقاً للقيم الأخلاقية من الديمقراطية، وكأن المجتمعات كلها التي حكمت بغير الديمقراطية مجتمعات متخلفة لا تعرف العدل ولا الحرية، وهذا ما يجعل هذه النتيجة تشمل تاريخ الأنبياء، والصحابة الكرام، والسلف الصالح الفاضل.

لقد أصبحت الديمقراطية صنماً معاصراً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وأصبح الجميع يحاول الالتصاق بها، والتعوذ من مخالفتها، أو انتقادها.

وهذه العبودية للديمقراطية لم يستطع أن يتخلص منها بعض الإسلاميين المنهزمين لضغط الواقع، وربما يبدأ بعض الدعاة في المشاركة السياسية من خلال فقه الممكن، ولكن مع طول الوقت يتحول الاستثناء الى أصل يدعو إليه، وتختلط الأوراق في عقول الأتباع، وتأسرنا قوة الترويج للديمقراطية، وتبدأ بعد ذلك حركة التأويل للمفاهيم الشرعية، وتهذيبها لتتوافق مع هذا المنتج الغربي.

وقد رأينا بعد الربيع العربي كيف اصبح الخطاب الإسلامي المشارك في السياسة يجعل الديمقراطية أصلاً يدعو إليه، ولا يكاد يذكر تحكيم الشريعة إلا نادراً، وأصبحت سيادة الشعب والأمة هي الأصل، وتطبيق الشريعة تابعاً لها.

قد تعتذر البعض بأن هذا خطاب المرحلة، أو هو استثناء ولا نستطيع المشاركة بدونه، وقد يتأول البعض مفهوم السيادة بأنها تعني السلطة وليس التشريع، ولكن الجميع نسي أن الفكرة في أصلها منتج غربي معيب على مستوى المفهوم الثقافي او الآليات الإجرائية، وان العقل المسلم لا يمكن ان يقبل بالمفهوم الثقافي الذي يرى استحقاق الإنسان للتشريع من دون الله، أو يرى الحريات المفتوحة دون ضبط شرعي، كما أن العقل المسلم قادر على إنتاج نظم إجرائية تتوافق مع القيم والمناهج الشرعية.

وهذه القضية في غاية الأهمية، وهي عدم الارتهان للثقافة الغربية، وضرورة وجود الإحساس بمخاطر الاستحواذ الثقافي الغربي خاصة وان أدواته الإعلامية الغلاّبة لا يزاحمها أحد.

         *****

ليس المقصود في هذه الفقرة الاستطراد في المظاهر خاصة وان التبعية أصبحت مظاهرها في كل حياتنا المعاصرة: في الملبس والمأكل والتعليم والعادات والاحتفالات والعلاقات ... وغيرها


 

-      6 -

كيف نتحرر من التبعية الفكرية والثقافية؟

قد يبدو الجواب على هذا السؤال سهلاً على المستوى النظري، فلا يوجد استحالة عقلية تمنع ذلك، ولكن يبدو أن الواقع في غاية التعقيد والصعوبة، ولا شك أن التحرر من التبعية للغرب واقع في المستقبل ولا بد بإذن الله تعالى، ولكن هل يكون ذلك على أيدينا، وهل سيكون لنا دور فعال في تهيئة الأمة للتحرر والاستقلال؟ ، تحقق ذلك يحتاج إلى عمل دؤوب، وجهد متواصل، وقبل ذلك اعتماد على الله، وثقة به، وصحة في المنهج والمعتقد.

إن من أوليّات البدء في التحرر من التبعية: الاقتناع التام بإمكان ذلك، والشعور بخيبة هذه التعبية وذلتها وخسائرها الماحقة للدين والنفس والمجتمع، فلا يمكن أن يتحرر المستسلم الذي يعتقد باستحالة الخروج من نفق التبعية.

والهزيمة النفسية أمام منجزات الغرب يورث فكراً اعتذارياً يقوم على التلفيق والتأويل، وهذا ما نلحظه في عدد كبير من المثقفين الاسلاميين الذين يدافعون عن الإسلام بمنهجية منهزمة تجعلهم يتأولون النصوص الشرعية ويحرفونها لتتوافق مع الفكر الغربي، ومثل هذا الفكر نجزم بأنه لا يزال مرتهناً للفكر الغربي ومسكوناً باستعلائه وعظمته، ولهذا يريد ان يقرب الفكر الغر بي منه حتى لا يتهم بالرجعية والتخلف.

ومن الأشياء التي تساعد المثقف المسلم على الخروج من تيه التبعية والانهزام أمام الفكر الغربي النظر النقدي الفاحص له، و التأمل العميق في القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي وإسهامات الأمة الإسلامية في بناء الحضارة، والقيم الأخلاقية العظيمة التي أثرت في بقية الأمم، ومقارنة ذلك بالدمار الفكري والأخلاقي والقيمي الذي أوصلت الحضارة الغربية الإنسان المعاصر إليه.

ففي السياسة تعاملت الأمة الإسلامية مع بقية الأمم بقيمة " العدل " وهو قانون أخلاقي عظيم يتضمن الرحمة والانصاف والتسامح والتساوي أمام الحق.

في الوقت الذي تعاملت الحضارة الغربية المعاصرة مع بقية الأمم بمنهج مادي نفعي ينظر إلى الإنسان كشيء من الأشياء المادية فلا يوجد أي فرق بينه وبين البنايات التي إذا انتهت صلاحيتها تهدم دون أدنى شعور بالذنب، وهذا ما يفسر هدم الإنسان في الحروب العالمية وغيرها.

فالمقارنة بين المنهج الإسلامي والمنهج الغربي إذا كان مقارنة علمية نقدية مع استعلاء المؤمن بإيمانه سوف يولّد معرفة يقينية بضرورة الاستقلال وخسارة التبعية لأمة جاهلية متخبطة.

فإذا جمع القارئ المعلومات الصحيحة وقارنها تبين له ان الثقة بالفكر الغربي ما هو إلا غرور وتقدير أكثر مما يستحق .. وهذه خطوة مهمة من الانعتاق من هيمنة الثقافة الغربية على عقول المسلمين وقلوبهم، وانه لم يعد هناك مبرر للثقة المفرطة في النظم الغربية كالديمقراطية وغيرها.

وبدون الثقة الكاملة في الإسلام فإنه لا يمكن الوعي بإمكاناته العظيمة، وبالتالي لا يمكن الاستفادة منها والانتفاع بها، وكذلك بدون إجراء المشرط النقدي في الثقافة الغربية لا يمكن معرفة عوارها، وبالتالي لا يمكن الخروج من أسرها وعبوديتها.

 


 

-      7 -

توصيات الدراسة

        لابد عند وضع توصيات عملية وذلك من خلال رسم خارطة طريق للخروج من نفق التبعية، وخطة استراتيجية للتحرر من الرق والعبودية للغرب، ويمكن الاشارة إلى نقاط سريعة كمعالم لهذه الخطة ومنطلقاتها فيما يلي:

-       تربية الأمة على الإيمان والتوحيد والتعلق بالله تعالى، وربطها بالقرآن والسنة، واستعمال كافة الوسائل المتاحة في ذلك، وهذا العمل هو الغاية التي لا يجوز الانشغال عنها بالوسائل كالعمل السياسي او المناصب الإدارية بل يجب أن تطوع كل الوسائل لتحقيق هذه الغاية.

والانشغال عن معايشة الأمة وتربيتها على الإيمان والعلم والعقيدة الصحيحة علامة خذلان وضياع للجهود واشتغال بما لا يفيد.

وينبغي على إخواننا الذين وجدوا فرصة المشاركة السياسية في دول الربيع العربي أن لا ينسوا أن هذه المشاركة وسيلة وليست غاية، فلا ينبغي نسيان تربية المة على الإيمان والتوحيد، أو اهمال بناء المشاريع والمؤسسات بشتى أشكالها لإحداث عملية تغيير فكري وعقدي وأخلاقي في الأمة لتخرج من التبعية والتغريب.

-       تنمية روح العزة والاستقلال والثقة بالمنهج الإسلامي، وتربية الأمة على أخلاق النصر والتمكين كالإباء وعدم القبول بالضيم ...

-       تنمية الروح النقدية للغرب وحضارته الزائفة بالأدلة العلمية والأرقام والاحصاءات والوثائق الثبوتية التي تكشف حقيقة الغرب فكرياً وأخلاقياً ..

-       العناية بالنخب الفكرية والعلمية والاهتمام بالتعليم  بكافة حقوله وتهيئة الجيل القادم ليكون مستقلا في فكره ونفسيته عن الاستلاب الغربي.

-       بناء نظريات علمية محكمة في كافة المجالات المجتمعية تنطلق من المنهج الإسلامي، وتعتمد على أخلاقيات الإسلام، وتستفيد مما وصلت إليه الخبرة الإنسانية، والعمل على اختبارها في الواقع وتطويرها مع الزمن.

-       العمل على إخراج المثقفين الإسلاميين من نفق الانهزام، ومناقشتهم، ونقد أطروحاتهم الثقافية، وبيان خطورة التأويلات والتحريفات للنصوص حتى تتوافق مع منجزات الغرب الثقافية، فهذه الفئة من اكبر التحديات أمام الدعاة والمصلحين من أهل السنة والجماعة.

-       استثمار حالة الربيع العربي، وزوال الضغوط على الدعوة، وعدم وضع العراقيل أمام الدعاة، وذلك بالعمل النشط والاستراتيجي مع الأمة، والتركيز على التربية الإيمانية والعلمية، وبناء أجيال قوية من حيث التحصيل الشرعي والبناء الإيماني والمنهجي والوعي الواقعي فالصراع الحقيقي سوف يواجهنا في المستقبل.

-       تنقية الخطاب السياسي الإسلامي من لوثات الليبرالية التي بدأت باختراقه من خلال الإعلاء من شأن الديمقراطية وهي منتج ليبرالي بامتياز، ومعالجة إشكاليات المثقفين الإسلاميين المنهزمين أمام الغرب.

-       العناية بالمصالح الشرعية الكبرى للأمة من نشر العلم والإيمان والتربية المجتمعية وكشف حقيقة الفكر الغربي وابراز التحديات الكبرى التي تواجهها ووضع الحلول لذلك ...

-       التوسع في المشاركة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاعلامية والتعليمية في المجتمع، وإقامة الجامعات ومراكز الدعوة والبحث والثقافة لبناء جيل جديد يتربى على الاستقلال عن كافة أشكال التبعية المقيتة.

-        ابراز الخطاب الإسلامي القائم على محكمات الشريعة وتعظيم النص الشرعي والالتزام بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.

 



([1]) رواه البخاري ( 7320 )، ومسلم ( 2669 )

([2]) رواه البخاري  ( 7319 )

(([3] من أكثر من فصّل في أصول الفرق وأخذها من الفلسفات القديمة: الدكتور علي سامي النشار في كتابه ( نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ) ثلاث مجلدات.

([4]) انظر كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في أن المشاركة والمشاكلة في الظاهر تورث مشاركة ومشاكلة في الباطن وهو يشمل العقائد والأعمال واللباس والأخلاق، انظر: الاقتضاء ص 82 ( ت العقل ).

(([5]  انظر: المعجم الوسيط، ومعجم اللغة العربية المعاصر مادة ( تبع )

(([6] موسوعة علم الاجتماع، المجلد الأول ، ص 340، تحرير جوردن مارشال، ترجمة محمد الجوهري، المجلس الأعلى للثقافة.

(([7] انظر حول المركزية الغربية كتاب عبدالله إبراهيم ( المركزية الغربية )، وكتاب المركزية الغربية وتناقضها مع حقوق الانسان للأستاذ عبداللطيف الغامدي ( رسالة ماجستير في جامعة نايف الأمنية ) وهي رسالة ثرية ومفيدة.

([8]) انظر في هذه الفكرة كتاب ( الحرية ) جون ستيوارت مل، ص 30، روح القوانين، مونتسكيو ( تراث الانسانية ص 1/712

(([9] مستقبل الثقافة في مصر ص 43

(([10] المصدر السابق 48

(([11]  التراث والحداثة ص 16

([12])كاتب ومثقف شيعي سعودي

([13])توقع زكي الميلاد لم يكن في محله لأنه يجعل التحديث للجانب المادي والحداثة للجانب المعرفي الثقافي، والحقيقة أنهما طُرحا في المشروع النهضوي العربي بمعنى واحد

([14]) الفكر الإسلامي ص 80

(([15] تجديد الفكر العربي ص82

(([16] المصدر السابق ص 8

([17])العقل الأخلاقي العربي ص568

([18])حوار الشرق والغرب ص 67

([19])التراث والتجديد ص 13

([20])معجم اكسفورد   ( westernization )

([21])محمد مصطفى هدارة: التغريب وأثره في الشعر العربي الحديث، مجلة «الأدب الإسلامي»، مج.1، ع.2، 1994، ص8.

([22]) انظر في التفصيل لهذه القضية ونماذج لها: كتاب حصوننا مهددة من داخلها ، د. محمد محمد حسين، وكتابات الأستاذ محمد قطب في واقعنا المعاصر وغيرها، وكتابات الأستاذ أنور الجندي

(([23]  للدكتور رمزي زكي مقالات علمية في نقد النظام الرأسمالي في غاية الروعة في مجلة الاهرام الاقتصادي، ولكنه مع كل أسف ارتهن للشق الفكري الآخر في العقل الغربي وهو الاشتراكية، ولم يحاول التفكير المستقل فضلاً ان يبني نظرية اقتصادية من واقع المنهج الاسلامي الذي جاء بالخير والصلاح والبركة على المال والمجتمع

(([24] مقال : هل من الممكن التخلص من الرق الثقافي، الشيخ صالح الحصين، موقع المسلم.


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...