إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات . 31 أكتوبر, 2022, 8:39 PM
إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه:
حينما نتحدث عن دعوة الأنبياء وقيامهم بالإصلاح في الأرض، فإن هذه الدعوة وذلك المشروع الإصلاحي إنما قام على أساس المحكمات، وأعظم المحكمات تناولاً من قبيل رسل الله تعالى، هو محكم التوحيد، لأن أعظم انحراف واجهته البشرية هو انحراف مفهوم البشر عن الله تعالى، هذا المفهوم البشري، الذي تغير مع تعاقب السنين من وسطية التوحيد، إلى شذوذ الشرك، فجوزوا تعدد الآلهة، ونسبوا لله الولد والصاحبة، حتى خرجت البشرية عن الفطرة السليمة، والفكر النقي.
جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على الإسلام. هذه الاستقامة البشرية طيلة عشرة قرون، إنما كانت لصلاح التوحيد، فلما انحرفت البشرية في توحيدها لربها، سلكت طريق الفساد، وضلت وأضلت وتبع ذلك الانحراف العقدي، انحرافات أخرى خطيرة، فمارست البشرية صوراً عديدة من الانحراف منها ما يتعلق بالظلم والقتل، ومنها ما يتعلق بأكل الأموال، ومنها ما يتعلق بالسلوك والأخلاق، وقام رسل الله بمعالجة تلك الانحرافات عن طريق تأسيس المحكمات وتأصيلها والدعوة إليها.
فصلاح الناس إنما بقيامهم بهذه المحكمات والمحافظة عليها وكل نقص في البشر إنما هو نقص في تلك المحكمات وانحراف عنها.
ولقد ضرب الله ببني إسرائيل مثلاً فما ضلالهم وانحرافهم وتفرقهم إلا بعد وضوح الشرائع وبيانها، واختلافهم على أنبيائهم في المحكمات، وكذلك اختلافهم فيما بينهم، قال سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ ۖ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [سورة الجاثية:16-17].
وقال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [سورة البقرة:213].
فهذه الآيات بينت كيف ضل بنو إسرائيل وغيرهم من الأمم في محكمات الشريعة والدين، وختم الله تلك المشاريع الإصلاحية، بأعظم مشروع وهو مشروع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هذا المشروع الذي قام على أساس الكتاب والسنة، والتي أحكمت الدين وبينته قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) [سورة النساء:174]. وقال سبحانه: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [سورة الجاثية:18]. وقال جل وعلا: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل:103].
فهذه الآيات جاءت مؤكدة وضوح الشريعة وإحكامها وتفصيلها الحلال والحرام، وأنها شافية كافية، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمم ستتفرق كما افترقت الأمم السابقة
فعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) ( وقال عليه أفضل الصلاة والسلام ((قال سألت ربي عز وجل ثلاثا سألته ان لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته ان لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته ان لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)) () وقد وقع ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من افتراق الأمة إلى هذه الفرق، وهذا الافتراق من الافتراق المذموم لأنه وقع في محكمات الدين وأصولها.
ولهذه الانحرافات مسالك لعلنا نشير إليها:
المسلك الأول: الانحراف بإنكار محكم معلوم من الدين بالضرورة، كإنكار فضل صحابة رسول الله تعالى وسبهم وشتمهم، أو إنكار فضل آل بيت رسول الله تعالى، أو إنكار الشفاعة، أو دعاء الأموات والتوسل بالقبور وهي من الشرك الصريح، أو الحلف بغير الله تعالى، أو إنكار القدر، فكثير من طوائف أهل البدع يجوزن هذه الأمور المنافية للتوحيد، أو يقعون في تلك المنهيات، ومن الأمثلة المعاصرة لهذا المسلك إنكار الاحتجاج بالسنة ودعوى جواز ردها وعدم وجوب الأخذ بها، مع أن صريح القرآن جاء بالأمر باتباع الرسول وطاعته وعلى ذلك أجمعت أمة الإسلام في مختلف العصور.
المسلك الثاني: الغلو في محكم من المحكمات، وهذا المسلك هو مسلك أهل الغلو فيأتون إلى محكم من محكمات الشريعة فيخرجون به عما امر الله تعالى، كغلو الرافضة وفي آل بيت رسول الله وغلوهم في علي بن أبي طالب، حتى جعلوهم شركاء لله تعالى، وكغلو الخوارج في مرتكب الكبيرة حتى خلدوه في النار، وغلو أهل التصوف في الأولياء حتى عبدوهم من دون الله تعالى، وغلو طوائف منهم في طرائق التنسك والتعبد، حتى أنهم ضلو وأضلوا وأصل هذا المسلك، الثلاثة نفر الذين سمعوا بعدة النبي صلى الله عليه وسلم فتقالوها عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ((سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فراش فحمد الله وأثنى عليه فقال ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) () ومن الأمثلة المعاصرة: غلو بعضهم في مفهوم الجهاد في سبيل الله حتى سمي قتل المسلمين، وتفجير المساجد، وقتل المعاهدين جهاداً في سبيل الله.
المسلك الثالث: التفريط بالمحكم والتقصير فيه، فأصحاب هذا المسلك لا ينكرون المحكم وإنما يفرطون فيه ويقصرون فيه وهؤلاء أقل أهل الانحراف، ولا يصل مسلكهم إلى الابتداع في الدين، ولكنه مسلك من مسالك الانحراف، وهذا المسلك الأكثر انتشارا، كالتقصير في الصلوات أو ارتكاب الموبقات وهؤلاء على خطر عظيم، إن لم يتوبوا ويرجعوا عن غيهم وقد تهدد الله أمثال هؤلاء في كتابه فقال قال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) [سورة مريم:59].
المسلك الرابع: اتباع المتشابهات وتأويل المحكمات: وهؤلاء الذين ذكر الله في كتابه ووصفهم بأهل الزيغ. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [سورة آل عمران:7]. ومن أمثلة هذا النوع ما فعله الحرورية في أزمنة الصحابة، فعن أبي غالب، قال: لما أتي برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق جاء أبو أمامة رضي الله عنه فلما رآهم دمعت عيناه، ثم قال: «كلاب النار كلاب النار , هؤلاء لشر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء» , قلت: فما شأنك دمعت عيناك؟ قال: رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام , قال: قلت: أبرأيك قلت: كلاب النار , أو شيء سمعته؟ قال: إني إذا لجريء، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا اثنتين ولا ثلاثا، فعدد مرارا، ثم تلا: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} [آل عمران: 106] حتى بلغ {هم فيها خالدون} [آل عمران: 107] وتلا: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} [آل عمران: 7] حتى بلغ: {أولو الألباب} ثم أخذ بيدي فقال: «أما إنهم بأرضك كثير فأعاذك الله تعالى منهم»
ومن الأمثلة ما قام به متأولة الصفات، من تأويلهم صفات الله تعالى وإنكارها واتباع النصوص المتشابهة بغرض نفي الصفات تحت حجج واهية ودعاوى باطلة.
ومن الأمثلة المعاصرة أيضا ما يعمد إليه كثير من مدعي الفقه والفتوى، فيأتون إلى ما تشبه من نصوص التشريع في قضايا الحجاب والمرأة ومسائل الدين بغية إبطال المحكم ونشر الانحراف والشهوات والشبهات فيضلون الناس بغير علم.
فالواجب على طلبة العلم وعامة المسلمين الحذر من هذه المسالك والتمسك بهذا الدين، وغرس المحكمات في قلوب الناس، فبصلاح هذه المحكمات تصلح الأمم والشعوب.
والله أعلم.