Loading ...

قراءة لكتاب(مناهج الاستدلال على مسائل العقيدة الإسلامية في العصر الحديث (مصر نموذجا)- د. أحمد قوشتي عبد الرحيم)- د. عثمان علي حسن

بسم الله الرحمن الرحيم


هذه الدراسة تختص برصد الحالة العقدية في مصر في عصرها الحديث، وتحديدا في القرنيين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (التاسع عشر والعشرين الميلاديين) متخذة من القضايا والمسائل المثارة في هذه الحقبة محورا أساسيا تدور حوله، مع الأخذ في الاعتبار بمن نُسبت إليهم تلك القضايا والمسائل من الشخصيات العلمية والفكرية ذات الإنتاج الوافر، والتأثير الواضح، وعمدت الدراسة إلى توزيع هذه الشخصيات على اتجاهات فكرية ومذهبية حتى يسهل تناولها، وتستوعب كثرتها، وهذه الاتجاهات هي: الاتجاه الكلامي ـ الاتجاه السلفي ـ الاتجاه الصوفي ـ الاتجاه العقلي الانتقائي ـ الاتجاه العلمي التجريبي.

وعبّر الباحث ـ وفقه الله ـ عن الشخصيات الوارد ذكرها في الدراسة بالباحثين المحدثين إذ هو الوصف المناسب الذي يجمع بينهم. 

وجاءت الدراسة بعد المقدمة في تمهيد وثلاثة أبواب مستغرقة ما يربو على الثمانمائة صفحة، ومراجع تصل إلى أربعين وخمسمائة مرجعا بعضها باللغة الأجنبية.

أما التمهيد فقد عُني ببيان الأمور التالية:

1/ تعريف المصطلحات التي اشتمل عليها عنوان الدراسة، مثل: مناهج الاستدلال، والعقيدة، والعصر الحديث.

2/ مجمل أحوال الدراسات العقدية والكلامية بمصر في العصر الحديث.

3/ أبرز الاتجاهات العقدية والكلامية التي ظهرت بمصر في العصر الحديث.

أولا تعريف المصطلحات:

1/ مناهج الاستدلال: فهو يعني: "الطريقة العامة أو مجموعة الأسس والقواعد الكلية التي ارتضاها الباحثون المحدثون نظريا، ومن ثم عوّلوا عليها تطبيقيا، إما في مجال إثبات المسائل العقدية وتقريرها، وإما في مجال الدفاع عنها أمام شبهات الخصوم ومطاعنهم".

2/ العقيدة: عرَّفت الدراسة بهذا المصطلح في اللغة والاصطلاح، مع التنويه إلى أن هذا المصطلح لم يرد في القرآن ولا في السنة ولا في معاجم اللغة في القرون الخمسة الأول، وإنما وردت مشتقاته. وأما التعريف الاصطلاحي فقد عرفه المتكلمون معزولا عن الجانب العملي كما في تعريف الإيجي: "ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل". أما الباحثون المحدثون فقد تنوعت عباراتهم بين تعريف العقيدة بالمعنى العام الذي يشمل كل ما يدين به الناس من حق أو باطل، والمعنى الخاص الذي يقتصر على العقيدة الدينية أيا كان دين صاحبها، والمعنى الأخص الذي لا يطلق إلا على العقيدة الصحيحة وهي ما جاء به الإسلام.

3/ العصر الحديث: بعد استعراضٍ لآراء الباحثين حول التحديد الزمني للعصر الحديث بداية وانتهاء، فمنهم من قاس تاريخ مصر على تاريخ أوربا، ومنهم من ربطه بأحداث وقعت في العالم الإسلامي مثل: سقوط دولة المماليك وفتح العثمانيين مصر، أو بداية حركات الإصلاح كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أو الثورة العرابية، أو حتى حملة نابليون، أو تأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد علي باشا.. إلى أن استقر اختيار الباحث للقرنيين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (التاسع عشر والعشرين الميلاديين) ليكونا تعبيرا عن العصر الحديث في مصر خاصة، مع الاعتراف بما يكتنف هذا الاختيار من صعوبة، إلا أنه الأقرب من غيره.

ثانيا: مجمل أحوال الدراسات العقدية والكلامية بمصر في العصر الحديث:

بعد قرون طويلة من السبق الحضاري والإبداع الفكري للمسلمين، والإضافات التي تميزت بها وشهدتها مختلف جبهات الفكر وفروع العلم والمعرفة، وقف المسلمون عند ما تلقوه عن السابقين، وانحصر جهد العلماء في القرون الأخيرة عند مجرد الجمع والتصنيف والتهذيب والتنقيح والاختصار والشرح والتعليق والتحشية، وصارت الحالة العلمية والثقافية في مصر وغيرها من أقطار العالم الإسلامي بصفة عامة: رتيبة غير متنوعة، جامدة غير متحركة، مقلدة غير مبتكرة، لفظية غير موضوعية، تكاد تدور حول نفسها، تلخص الأفكار العملية في متون، ثم توضحها في شروح، وقد تفسر الشروح في حواش وتقارير، وكل ذلك أُخذ عن السابقين؛ لأنه ما ترك الأول للآخر شيئا ـ على حد تعبيرهم ـ وقد شمل هذا التدهور كافة العلوم تقريبا، لا فرق في ذلك بين العلوم الشرعية وغيرها، وفي الشرعية لا فرق بين علوم أصوليه وعلوم فروعية.

ويؤكد الباحث أن حالة الدراسات العقدية والكلامية ليست بأحسن حال من غيرها، مقسما تلك الفترة إلى مرحلتين:

الأولى: تمثل هيمنة الأزهر على العلوم الشرعية والعربية، فهو يخرّج المتصدرين لتعليم الناس وإفتائهم، وتولي المناصب الدينية من قضاء وخطابة وتدريس وما أشبه ذلك، حتى المساجد الكبرى في مصر لم تكن سوى فروع للأزهر.

وكان الطابع العام للكتب العقدية والكلامية في هذه الفترة يتسم بالتدهور والجمود والجفاف والتقليد واجترار الماضي؛ تلخيصا وشرحا وتعليقا، حتى كادت الصلة تُفقد بين مضامين هذه الكتب وواقع المسلمين والتحديات المتجددة التي تواجههم. مع التزام هذه الكتب المذهب الأشعري لا تكاد تخرج عنه إلا في القليل النادر، وهذا يؤكد سيطرة هذا المذهب على الحياة العلمية بسبب عوامل متنوعة توفرت له، منها: الحضاري والسياسي والاجتماعي والفكري.

إلى جانب التزام المؤلفين في تلك الفترة بطريقة المتون والحواشي، وهي تعتمد على وجود متن منظوم أو منثور يتسم بالاختصار الشديد للألفاظ والمعاني مما يستدعي البسط والشرح والبيان، وقد أشار المؤلف إلى ما تضمنته هذه الطريقة من فوائد ومآخذ، مع الاستدلال على كلامه من واقع الأزهر في تلك الفترة.

الثانية:بعد أن كان الأزهر هو المكان الوحيد لتدريس العقيدة والتأليف فيها، ظهرت أماكن جديدة مثل: دار العلوم، ومدرسة القضاء الشرعي، وكلية الآداب، إضافة إلى النشاط العلمي الحر خارج المؤسسات التقليدية. وهنا اختلطت العلوم الشرعية بغيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية، وظهر على العلوم الشرعية ومنها العقدية روح التجديد في التناول والعرض، والربط بين مضامين التراث ومفاهيم العصر، والتسامح البريء من التعصب المذهبي والعقائدي.

ثالثا: أبرز الاتجاهات العقدية والكلامية التي ظهرت بمصر في العصر الحديث:

والمقصود هنا الوقوف على الاتجاهات العقدية والكلامية التي تبنتها رموز تلك الفترة (العصر الحديث) وتحديد مدى قربها أو بعدها من الاتجاهات القديمة، وقد سعى الباحث ـ وفقه الله ـ إلى تحديد المقصود بالاتجاه، وكيفية تحديده، وبيان الضابط الذي يضبط نسبة شخص ما إلى اتجاه ما. مستعرضا مذاهب المعاصرين في تقسيم هذه الاتجاهات، ثم ذهب إلى تقسيم خاص يحقق بيان الناحية الاستدلالية بالدرجة الأولى لدى كل اتجاه، وكان على النحو التالي:

أولا: الاتجاه الكلامي: المنتسب إلى الأشاعرة والماتريدية وهم على قسمين:

1/ اتجاه تقليدي ملتزم بالحواشي والمتون على طريقة متقدميهم.

2/ اتجاه تجديدي، خاصة في أسلوب الصياغة والعرض.

وللاتجاه الكلامي الحديث سمات بارزة من أهمها:

1ـ الإعلاء من شأن علم الكلام والدفاع عنه أمام خصومه.

2ـ الاعتداد بالدليل العقلي في مجال الاستدلال العقدي، وتقديمه على الدليل النقلي عند التعارض، وهذا مبني على زعمهم بإفادة الدليل العقلي القطع واليقين دون الدليل النقلي.

3ـ الصلة الوثيقة بين الاتجاه الكلامي والتصوف.

ثانيا: الاتجاه السلفي: ومن أبرز سماته:

1ـ تعظيم الأدلة النقلية من القرآن والسنة والإجماع وتقديمها على غيرها في الاستدلال.

2ـ الاهتمام الكبير بالسنة وأحاديثها دراسة وتأليفا واحتجاجا.

3ـ تعظيم قدر الصحابة والتابعين وسلف الأمة الأوائل، والإشادة بمناقبهم، والحرص على الانتساب إليهم وإلى طريقتهم في الفهم والتلقي.

4ـ رفض قانون التأويل الذي تبنته المدارس الكلامية.

5ـ العناية بقضايا التوحيد والعقيدة والتركيز عليها، لا سيما توحيد الألوهية (العبادة).

6ـ النقد الشديد للمدارس الكلامية والصوفية.

ونوه الباحث بإسهامات كل من رشيد رضا ومطبعته المنار، ومحب الدين الخطيب ومطبعته السلفية، وحامد الفقي ومطبعته السنة المحمدية في نشر الاتجاه السلفي من خلال الكتب والمجلات.

ثالثا: الاتجاه الصوفي:

وأبرز ما يميز هذا الاتجاه:

1ـ الإعجاب الشديد بالتصوف والمبالغة في مدحه والثناء عليه.

2ـ الاعتداد بالكشف الصوفي ونحوه من أدوات المعرفة الصوفية.

3ـ انقسام هذا الاتجاه في موقفه من علم الكلام بين مؤيد ومنتقد.

رابعا الاتجاه العقلي الانتقائي:

فهو اتجاه يعول على العقل دون التقيد بمذهب أو مدرسة معينه، فهو يتخير وينتقي ما يشاء من المسائل والقضايا ما يراه أرجح في ميزان العقل وأكثر تحقيقا للمصلحة. ولعل ذلك هو السبب في الاختلاف بين الدارسين حول نسبة بعض الشخصيات إلى اتجاه دون اتجاه، مثال ذلك شخصية: محمد عبده، فمنهم من ينسبه إلى الاتجاه السلفي، ومنهم من ينسبه إلى المذهب الماتريدي، ومنهم من ينسبه إلى الاعتزال وهكذا.. وسبب ذلك اختلاف النصوص والمواقف المنسوبة إليه.

خامسا: الاتجاه العلمي التجريبي:

والمقصود به ذلك الاتجاه الذي عُني بدراسة العلوم الطبيعية الحديثة ثم وظفها في تفسير بعض النصوص الشرعية، أو نصرة العقيدة والبرهنة على صحتها ودفع الشبه عنها، باعتباره الأمثل في مخاطبة أبناء العصر الحديث، عوضا عن المنهج الكلامي القديم.

ويتسم هذا الاتجاه بالخصائص التالية:

1ـ الإعجاب الشديد بالعلوم التجريبية، والاهتمام بدراستها، ومحاولة توظيفها في خدمة الإسلام، حتى أفردوا لذلك المؤلفات.

2ـ مهاجمة أكثر أتباع هذه الاتجاه لعلم الكلام واعتباره سببا في ضعف الثقة بالدين لدى بعض المتعلمين.

3ـ التركيز على إبراز عناية الإسلام بالعلم والعلماء.

4ـ اعتقادهم استحالة التعارض بين حقائق الدين ومقررات العلم.

أما الباب الأول من الدراسة فقد جاء لبيان مصادر الاستدلال على مسائل العقيدة، متناولا الأدلة النقلية والعقلية ودليل الفطرة والكشف والإلهام وحقائق العلم التجريبي.

فإذا كانت العقيدة تعني مجموعة الحقائق الأساسية عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، ورسله ورسالاته، والمبدأ والمصير والغاية، والإنسان والكون وما يتعلق بذلك من أمور، فمن الطبيعي أن يكون مصدر المعرفة الأول في هذا المجال هو النقل من قرآن وسنة. فهذه الأمور لم تعرف ابتداء ـ على جهة الإجمال والتفصيل ـ إلا من جهة الوحي.

وعليه، فإن مصادر معرفة العقيدة على نوعين: أحدها:مصادر مستقلة؛ فكل ما ثبت أنه من مسائل العقيدة الواجب الإيمان بها، وتعتبر حدا فاصلا بين الإيمان والكفر، فإن مصدرها الكتاب والسنة والإجماع.

والثاني: مصادر غير مستقلة مثل: العقل والفطرة والعلم التجريبي؛ مهمتها صحة الفهم، وحسن الإدراك، ودقة العرض لما أثبته النقل، ثم التأكيد له والدفاع عنه. مع الاعتراف بأن العقل ـ مثلا ـ قد يعرف بعض كليات العقيدة قبل ورود النصوص بها مثل وجود الله وكمالاته، لكن هذه المعرفة لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، ثم هي معرفة مفتقرة إلى كثير من التفاصيل التي لا تدرك ولا تطلب إلا من جهة الوحي.

المصدر الأول: القرآن الكريم:

لقد تتابعت نصوص الباحثين المحدثين على اختلاف مدارسهم واتجاهاتهم الفكرية، مؤكدة على اعتبار القرآن المصدر الأول للتشريع، ووجوب تدبره واتباعه، والعناية به دراسة وفهما، وذم الإعراض عنه وهجره، وجعله الأساس لأية حركة إصلاحية، وضرورة التعويل على حجج القرآن وأسلوبه في الاستدلال عند عرض قضايا العقيدة.

غير أن هذا الاهتمام البالغ بالقرآن جنح ببعض الباحثين إلى القول بوجوب عرض الأحاديث والمرويات على القرآن الكريم حتى يحكم بصحتها عند الموافقة، أو بعدم صحتها عند المخالفة، وجعلوا ذلك قاعدة في قبول الأحاديث والمرويات، بل وصل الأمر إلى أشنع من ذلك حين حصر بعضهم الإسلام في القرآن وحده غير ملتفت إلى السنة.

وأثار المؤلف سؤالا غاية في الأهمية: هل هؤلاء المعظمون للاستدلال بالقرآن؛ بسبب أنه الحاكم والمصحح للأقوال والمواقف، أم بسبب أنه المبرر لما اختاروه واعتقدوه ابتداء، ثم يطلبون نصرة القرآن لهم؟! وقد أجاب المؤلف على هذا التساؤل إجابة عجلى تفيد باختيار السبب الثاني وذلك عند أكثر الباحثين، ثم ترك التقرير والتفصيل إلى ما يأتي من أبواب وفصول.

المصدر الثاني: السنة النبوية

قد نالت السنة النبوية لدى كثير من الباحثين المحدثين عناية وتعظيما باعتبارها المصدر الثاني من مصادر الدين، وتأكيدا على حجيتها، ووجوب اتباعها، والإنكار على منْ طعن فيها أو انتقص من مكانتها، لكن صحب ذلك أيضا تقصير في الدراسات الحديثية، وندرة في عدد المشتغلين بها المميزين بين صحيحها وضعيفها؛ حتى صار أكثر علماء تلك الفترة وخطبائها وأدبائها يجهلون علم الحديث؛ فينقلون المنكرات والموضوعات، ويحتجون بها في أصول العقائد، وأحكام العبادات والقضاء، وفي المقابل شاع القول بإفادة أحاديث الآحاد الظن، وعدم الاحتجاج بها في المسائل العقدية، وعند بعضهم إهمال الاحتجاج بالسنة مطلقا.

ولبيان موقف الباحثين المحدثين من السنة النبوية باعتبارها مصدرا من مصادر الاستدلال ناقش الباحث ذلك من خلال العناصر التالية:

1ـ ظاهرة الهجوم على السنة والتشكيك في حجيتها أو صحة أحاديثها.

2ـ الموقف من أخبار الآحاد والاحتجاج بها، مع ذكر نماذج تطبيقية من مواقف الباحثين المحدثين.

وقد أشار المؤلف إلى أن ظاهرة الهجوم على السنة بمصر اتخذت عدة مسارات: منها دعوى الاقتصار على القرآن لكفايته، ومنها الطعن في طريقة نقل السنة والتشكيك في صحتها، ومنها الطعن في راوٍ بعينه كأبي هريرة، أو كتاب بعينه كصحيح البخاري، ومثَّل لهؤلاء الطاعنين برجال من أشهرهم وأخطرهم محمود أبو رية.

وهؤلاء الطاعنون إنما اعتمدوا فيما ذهبوا إليه إما على مصادر قديمة لطوائف من الشيعة والمعتزلة والقصص غير الثابتة التي احتشدت بها كتب الأدب متضمنة الطعن في بعض الأحاديث أو بعض الرواة من الصحابة، وإما على كتب المستشرقين وآرائهم.

ومع ذلك فليس التشكيك في السنة هو المظهر العام للباحثين المحدثين، بل الشائع لدى معظم الباحثين الاعتداد بالسنة، والقول بحجيتها، وعدها مصدرا رئيسا من مصادر التشريع، بل وإعلان النكير على أعداء السنة، ومن هؤلاء الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا ويوسف الدجوي وعبد الرحمن الوكيل والشيخ أحمد شاكر ومحمود شلتوت وغيرهم.. ولعله يعكر على هذا التأييد لحجية السنة مواقف بعض هؤلاء المؤيدين في مجال التطبيقات العملية، ويظهر ذلك جليا في موقفهم من أحاديث الآحاد ـ وهي غالب السنة وعمومها ـ خاصة في مجال العقيدة، باعتبار أن العقيد لا يستدل عليها إلا بالدليل القطعي، وعند هؤلاء سنة الآحاد ليست كذلك فلا حظ لها في إثبات العقائد، حتى تشمل ـ عند محمد عبده ـ عقيدة السمعيات (الغيبيات)، على ضد ما كان عليه المتكلمون المتقدمون فقد كانوا يقبلون أخبار الآحاد الصحيحة في مجال السمعيات دون غيرها، ما دام الخبر ممكن الوقوع عقلا. وبعض الباحثين المحدثين ـ كالشيخ شلتوت ـ يرى أن الظنية تلحق بالسنة الآحادية في الثبوت والدلالة، متجاوزا بذلك مذهب الأوائل من المحدِّثين والمتكلمين وغيرهم، وبعضهم ـ مثل محمد توفيق صدقي ـ يقول بعدم جواز العمل بالسنة الآحادية في مجال التعبد، متجاوزا من سبقه ممن يقصر العمل بها في العمليات دون العلميات. والمشكلة أن كثيرا من هؤلاء المنكرين إفادة خبر الواحد العلم وعدم الاحتجاج به في العقائد يروون الإجماع في ذلك متجاهلين مذهب السلف ومن سار على نهجهم من المتأخرين. وعليه فليس عند هؤلاء المنكرين حجة على مذهبهم إلا بعض النصوص والأدلة العقلية التي ينازعهم في فهمهما وتوجيهها خصومهم، ومن المعلوم أن التفريق بين الأحاديث من حيث التواتر والآحاد أمر محدث لم يعرفه الصحابة ولا السلف الأوائل، ولم يرد في القرآن ما يؤيده، مع ما يؤدي إليه هذا المذهب من إسقاط لعدد كبير من العقائد التي لم ترد إلا عن طريق أخبار الآحاد، خاصة في مجال السمعيات.

ومع ذلك فمن الباحثين المحدثين من يقول بأن خبر الواحد الصحيح المحتف بالقرائن قد يفيد العلم، مثله مثل المتواتر، ومن ثم يحتج به في العلميات، وتثبت به العقائد عموما، ومن هؤلاء أتباع المدرسة السلفية مثل أحمد شاكر ومحمد خليل هراس، وعبد الله الصديق الغماري، وممن اضطربت أقوالهم في ذلك رشيد رضا، ومحمد زاهد الكوثري.

المصدر الثالث: الإجماع

وقد تركز الحديث عن الإجماع ـ قديما وحديثا ـ على مفهومه وإمكان وقوعه، وشروط تحققه وحجيته.

وتأتي أهمية الحديث عن الإجماع بسبب التشويه المتعمد أو شبه المتعمد الذي يمارسه المستشرقون حين يشبهون الإجماع الشرعي بما حدث في المجامع الدينية في أوربا النصرانية، وأن سلطة المجمعين تشبه سلطة رجال الكنيسة فلهم أن يضيفوا أو يحذفوا من الأحكام والعقائد ما يرونه يحقق المصلحة، وأيضا بسبب الممارسات الخاطئة لبعض الطوائف حين يشهرون سيف دعوى الإجماع في وجوه خصومهم لإسكاتهم، وإرهابهم أدبيا وفكريا. ولعل المقولة المنسوبة إلى الإمام أحمد تعبر عن ذلك: من ادعى الإجماع فقد كذب، ما يدريه أن الناس قد اختلفوا، وقد قيل إنه قال ذلك في مواجهة المعتزلة الذي كانوا يسندون مذاهبهم بدعوى الإجماع عليها.

يذهب أكثر الباحثين المعاصرين بالإجماع إلى مفهوم الأصوليين وإن كان بعض هؤلاء يوسّع من دائرة أهل الإجماع حتى تشمل كافة الأمة، على اختلاف بينهم في إدخال مخالفي أهل السنة فيهم. بينما يذهب البعض الآخر إلى قصر الإجماع على أهل الحل والعقد وإن لم يصلوا إلى درجة الاجتهاد لتحقيق مصالح المسلمين الآنية مما له علاقة بالمعاملات، أما العبادات والعقائد فمردها النصوص الشرعية، ولا يختص هذا الإجماع بعصر أو جيل معين، فللمتأخرين أن ينقضوا إجماع المتقدمين. وهذا رأي محمد عبده وتلميذه رشيد رضا.

والدراسة تختص بالإجماع على مفهوم الأصوليين ومن سار عليه من الباحثين المحدثين فهو الألصق بالدراسات العقدية.

وممن تابعوا القدماء في القول بحجية الإجماع الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر الأسبق مع أنه يرى صعوبة انعقاده بعد عصر الصحابة، لكنه إن وقع فهو حجة قاطعة. ومنهم الشيخ محمد بخيت المطيعي، ومحمد زاهد الكوثري، وعبد الله الصديق الغماري، والشيخ مصطفى صبري، والشيخ عليش، ومحب الدين الخطيب، والدكتور محمد خليل هراس وغيرهم وهو الرأي المعتمد لدى الأزهر.

بينما تزعَّم محمد عبده التشكيك في حجية الإجماع بالمفهوم الأصولي، وجعل بدلا عنه اتفاق أهل الحل والعقد، مستفَزَّا بحالة الجمود على أقوال السابقين، وعدم الجرأة على مخالفتها، والقول بغلق باب الاجتهاد، ومستفَزَّا أيضا بهجوم الأنماط الأوربية على الساحة المصرية، وتسللت فكرة محمد عبده إلى تلاميذه من بعده وفي مقدمتهم رشيد رضا..

أما الشيخ عبد الوهاب خلاف فقد منع وقوع الإجماع بالمفهوم الأصولي حتى في عصر الصحابة، مع إمكانية وقوعه إذا تبنته الحكومات..ووافقه الشيخ محمد الخضري، وجعل كثيرا مما ينسب إلى الصحابة من الإجماعات من باب عدم العلم بالمخالف.

ومنع الشيخ أحمد شاكر وقوع الإجماع بالمفهوم الأصولي، وفسره بالأمور المعلومة من الدين بالضرورة إذا ليس هناك شيء غيرها يسمى إجماعا.

ولعل الدافع الذي يجمع بين هؤلاء المانعين لوقوع الإجماع ـ عدا الشيخ شاكر ـ هو إيثار المنزع العقلي والتأكيد على حرية الرأي، والدعوة إلى الاجتهاد، وذم التقليد.

وهناك من المحدثين ـ مثل عبد المتعال الصعيدي ـ من رفض حجية الإجماع بالكلية، أيا كان مفهومه ونوعه، ولم يرو أدنى مبرر لعدّه مصدرا من مصادر الاستدلال، ففي القرآن والسنة الغنية، معللا بأن الإجماع يفرق كلمة المسلمين؛ فيكون هناك إجماع لأهل السنة وآخر للشيعة وثالث لغيرهم.

وتبقى هناك إشارات مهمة ذكرها المؤلف لا بد من الوقوف عندها بالتأمل ومحاولة بحثها ورعايتها، منها:

ـ ربما كان من الصعب وقوع الإجماع بشروط الأصوليين في الأعصار التالية لعصر الصحابة، لتفرق العلماء في الأصقاع وتعسُّر التواصل بينهم، لكن مع وجود وسائل التواصل المعاصرة: انتقالا واتصالا فلم يبق ما يبرر التشكيك في إمكانية وقوع الإجماع، إضافة إلى وجود المجامع الفقهية التي تجمع أبرز العلماء من مختلف المدارس الفقهية.

ـ للإجماع فوائد غير إثبات أحكام جديدة، تتركز في أنه مظهر من مظاهر وحدة الأمة واجتماع كلمتها، ومن ثم إظهار قوتها، يضمن لها حفظ دينها وعدم ضياعه كما ضاعت أديان سابقة.

ـ ومن الفوائد أيضا الرد على المتنصلين من أحكام الإسلام الثابتة بحسبانها قراءات خاصة للنصوص لدى الفقهاء والمفسرين، واجتهادات غير ملزمة ونحو ذلك من الدعاوى، فيأتي الإجماع لحسم ذلك.

ـ القول بأن ليس في الإسلام كهنوت، وإنما يحث على الاجتهاد والنظر والتدبر لا يعني ذلك بأن الإسلام همل لكل راتع، يقول من شاء ما شاء متى شاء، بل هذا لا يُقبل في العلوم الدنيوية فكيف بالعلوم الشرعية التي أساسها الوحي المنزل والتي يناط بها صلاح العباد في الدنيا وبعد الممات.

ـ ثم إن الإجماع يفيد في تعاضد الأدلة وتضافرها، ويفيد في تقوية الأدلة الضعيفة، وإكساب الظنية منها القطع واليقين، ويغني عن البحث عن مستنده فالأمة لا تجتمع على ضلالة.

المصدر الرابع: العقل

لم ينشغل الباحثون المعاصرون بتعريف العقل وتحديد مفهومه كما هو حال المتقدمين، وإنما قفزوا إلى الناحية العملية من توظيف الملكة العقلية في الاستدلال، فعمدوا إلى الكلام عن حجيته ومجالاته التي يعمل فيها.

يكاد يكون العقل محل الاتفاق بين الطوائف الإسلامية في اعتماده دليلا على المطالب الشرعية، وإن كانت المدارس الكلامية يُنسب إليها العناية بالعقل أكثر من غيرها، في حين تُتهم المدرسة السلفية بمعاداته وهذا كله محل نظر، والمتصوفة يعولون على الكشف والذوق دون العقل؛ فالعقل عندهم محل اتهام واحتقار.

والمهم هنا بيان المجالات التي يُحسن العقل العمل فيها، والإتيان بأحكام مفيدة، وهل يمكن أن يستقل بالمعرفة دون معاونة؟ ثم ما علاقته بالنقل هل هي علاقة تعاضد أم علاقة تناقض، وأيهما يقدم على الآخر عند ظهور التعارض؟ وما وظيفة العقل في الأحكام التي لا تعرف إلا بالشرع؟ كل هذا مما أثير الحديث حوله في الساحة الفكرية قديما وحديثا.

يُعتبر محمد عبده من أشهر رواد النزعة العقلية، ومع ذلك جعل لعمل العقل ضوابط ترشده وتوجهه من ذلك:

1/ قصور العقل البشري ومحدودية إدراكه، حيث تقتصر معرفته على عوارض بعض الأشياء دون كنهها وحقائقها.

2/ التفاوت بين عقول البشر في الإدراك والمعرفة، وهذا يصح في العقل النظري الاستدلالي، أم العقل الفطري الضروري الاضطراري فالناس فيه سواء.

3/ عجز العقل عن إدراك بعض الأمور فيما يتعلق بالغيبيات، أو ما يسمى بما وراء الطبيعة؛ وذلك لأن وسائل التواصل مع هذه العوالم مقطوعة، فلم يبق أمام العقل إلا أن يتلقاها من جهة الخبر والسمع، ولهذا سميت في خطاب أهل الشرع بالسمعيات.

ومع ذلك فمحمد عبده لا يلتزم دائما بهذه الضوابط، فأحيانا يخالفها، حين يقدم العقل على النقل عند التعارض. وأحسن حالا منه تلميذه رشيد رضا الذي غلبت عليه النزعة السلفية في التعامل مع العقل، وقريبا منه الشيخ المراغي وكذلك الشيخ شلتوت على الرغم من نزعته العقلية الصارخة، لكنه جعل العقل أسيرا للنقل في الغيبيات، وعلى نفس النسق سار سيد قطب وأصحاب المدرسة السلفية: محمد حامد الفقي وأحمد شاكر ومحمد خليل هراس مما يؤكد أن الباحثين المحدثين شبه متفقين على محدودية العقل في الإدراك وتحصيل المعرفة، مما يجعله عاجزا عن إدراك بعض الأمور إلا من خلال خطاب الشرع، وهذا الاتفاق يصدق على المستوى النظري على أقل تقدير، أما عند التطبيق فيحدث هناك التفاوت بين الاتجاهات والشخصيات، وتظهر النزعة العقلية التي تقدم العقل على النقل، وتظهر الاتجاهات التأويلية التي تروض النصوص لتوافق مقتضيات العقول على حد زعمهم.

المصدر الخامس: الفطرة

  من أبرز خصائص الإنسان أنه متدين بالفطرة، وقد تفسر الفطرة هنا بالطبيعة التي يولد عليها الإنسان، وتبقى هذه الفطرة موجودة تنمو بالتعلُّم والإرشاد، وهو مهمة الرسل والدعاة والمصلحين، وقد يطرأ على الإنسان الانحراف وقد يظهر عليه الإلحاد، لكن تبقى فطرة التدين كامنة فيه تشعره بالتناقض والاضطراب، وتتحين فرصة الظهور والانبعاث، ولهذا كان الملاحدة يبادرون إلى إعلان الإيمان وقت الشدائد والمحن؛ حين تتساقط الأقنعة، وتتراجع الدعاوى: "حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ" يونس: ٩٠. قال محمد فريد وجدي: لو سئلنا يوما عن أكذب الناس على نفسه؟ لقلنا على الفور: هو الرجل الذي يزعم أنه ملحد.

والتدين عند محمد عبده شعور فطري عند جميع الأمم، يستوي في ذلك القبائل الهمجية، وأرقى الشعوب المدنية.. والإلحاد ليس إلا مرضا طارئا.

والدكتور محمد عبد الله دراز جعل من أسباب ضرورة التدين وفطريته: الشوق الغريزي إلى الأزلي الأبدي المتعالي عن المحسوسات، وإرواء حاجة العواطف النبيلة..

وعند سيد قطب أن الدين يمثل حاجة ضرورية مودعة في كينونة الإنسان لا تقل عن الحاجة إلى الطعام والشراب لحفظ الذات، فكما أن الممتنع عن الطعام والشراب يموت لا محالة، فإن الذي يعرض عن الاعتقاد بمثابة انتحار للفرد والمجتمع تترتب عليه نتائج مدمرة. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن ظاهرة الإلحاد وجفاف الروح وراء الكثير من الأمراض النفسية، والتي قد تؤدي بالبعض إلى الانتحار، وذلك في الدول الأكثر تطورا وتمدنا. وكلما كان إشباع هذه الحاجة الفطرية من الدين الحق وبالطريقة الصحيحة كانت الاستقامة والسعادة، تماما مثلما في تناول الأغذية الصحيحة وبالطريقة السلمية. ولهذا حارب الإسلام الإلحاد والشرك والكفر، كما حارب الابتداع والإحداث في الدين. وبذلك يفهم حديث: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. فاليهودية والنصرانية والمجوسية أديان منحرفة عن الفطرة التي يولد عليها الإنسان.

ولهذا حرص الباحثون المحدثون على التأكيد بأن الإسلام دين الفطرة، وهو الدين الوحيد الصالح لمخاطبة البشرية، وإرواء ظمئها الدائم والمتأجج نحو التأله للإله الحق. فمحمد عبده يؤكد على أن الإسلام كله مبني على الفطرة، وبالتالي فهو دين المستقبل، وأن مخالفته سبب للشقاء، وأن مصير الأمم طلب المخرج من تعاستها في الإسلام دين الفطرة..

فلا يوجد في عقائد الإسلام أو أحكامه التعبدية أو التشريعية ما تنفر منه فطر بني آدم، والأمر نفسه ينطبق على العقول، وهو ما يجعل الإسلام أعظم قبولا وأيسر انتشارا عند الناس ـ ما تخلوا عن العصبية والاستكبار ومتابعة الأهواء ـ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) الأنعام: ٣٣  وهذا الأمر يؤكده الواقع حين نرى الإسلام يُهاجم من قِبل الآلة الإعلامية العالمية، ويُهاجم من قِبل دول الاستكبار العالمي، وتجتمع مؤسسات الاستشراق والتنصير على تشويه صورته، ومع ذلك فهو يتسلل في بلاد الكفر وينساب بسهولة ويسر مع ضعف الإمكانات، بل مع تقديم صورة مضادة عنه من قِبل أهله، فيستجيب لنداء الإسلام كبار القوم من مثقفين وأكاديميين وأعيان ومشاهير، بل وممن أفنوا شبابهم في معاداته وصدِّ الناس عنه.

المصدر السادس: الكشف والإلهام

هذه المصطلحات أكثر من عُرف بها المتصوفة، فهي ـ عندهم ـ طريقة في المعرفة تعتمد على تصفية القلب من العوالق والموانع بأنواع الرياضات الروحية حتى تتجلي المعرفة اليقينية على القلب من غير كسب ولا تعلُّم ومن غير مقدمات ولا استدلال، فهي تختلف عن المعرفة التي تحصل بالنصوص الشرعية والتي تحصل بالنظر العقلي. يذكر الدكتور عبد الحليم محمود أن التصوف ليس ثقافة كسبية تتأثر بهذا الاتجاه أو ذاك، وإنما هو ذوق ومشاهدة يصل إليها الإنسان عن طريق الخلوة والرياضة والمجاهدة، وهذا هو جوهر الشعور الصوفي.

ومن المتصوفة المحدثين من يدافع عن ذلك ويؤصل له تأصيلا شرعيا، بل من يغلو في ذلك حتى يجعل النبوة والولاية تخرجان من مشكاة واحدة، وأن الولي له وحي خاص، وكشف مقدس لا يخطئ أبدا. ومن الكشف عند الغلاة من هؤلاء رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقظة لا مناما. ويستعرض الدكتور عبد الحليم محمود الوسائل المعرفية المتاحة للوصول إلى المعرفة المباشرة لما وراء الطبيعة وهي: الحس والعقل والنقل ثم ينتقدها جميعا، ثم يعتمد الكشف طريقا وحيدا لحصول هذه المعرفة.

وفي المقابل يقف أصحاب الاتجاه الكلامي والاتجاه السلفي والاتجاه العقلي الانتقائي موقف الرافض لأن يكون الكشف والإلهام حجة تقوم مقام الدليل العقلي أو الشرعي..

والاستدلال الكشفي لا يتماشى مع المنهج الكلامي الذي يواجه المخالفين من غير المسلمين مستدلا عليهم بالحجج العقلية، والكشف والإلهام حجة ذاتية تختصر على منْ زاول تلك الرياضات الروحية.

لكن بعض الباحثين المحدثين الذين خلطوا بين المذهب الأشعري والتأثر الصوفي وقعوا في تناقض، فتجدهم في خطابهم الكلامي ينكرون حجة الكشف والإلهام معولين على الأدلة العقلية، بينما يعلون على الكشف والإلهام عندما يتحدثون بلسان الصوفية، ومن أبرز هؤلاء الشيخ عليش، ومحمد عرفة الدسوقي.

المصدر السابع: العلم التجريبي

القرآن الكريم كتاب هداية بالدرجة الأولى، وما ورد فيه من إشارات ـ وإن كثرت وتنوعت ـ إلى مشاهد الكون والحياة والإنسان بشيء من الإجمال أو بشيء من التفصيل فهو لهداية الناس بسوق الحجج والبراهين، ومنها توظيف هذا الجانب المشهود من الكون والحياة لتحقيق ذلك الغرض، ولإقامة الدليل على صدق كلمة الله: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)فصلت: ٥٣.

وبما أن القرآن هو كلمة الله والكون بقوانينه هو فعل الله، فهذا يقتضي أن لا تعارض بين كلمة الله وخلق الله.

وقد كان الأوائل يستدلون على عظمة الله بما ورد في القرآن من تلك الإشارات وذلك التصوير البديع لصنع الله في الكون، بما عرف عندهم بدليل العناية والنظام ونحو ذلك، ثم حدثت قفزات عظيمة في العصر الحديث وما زالت تحدث في مجال الكشوفات العلمية، فهل يمكن الاستفادة منها باعتبارها حقائق نهائية في الاستدلال على الحقائق الشرعية خاصة فيما يتعلق بالعقائد؟ وكشف أسرار وحكم التكليفات الشرعية، أم أن بعضها لا يزال في طور النظرية، ولهذا ما تلبث إلا ويكتشف العلماء ما يخالفها، فلماذا نعرض الحقائق الشرعية للتأرجح بين أفهام الناس؟!

لا يخفى الاهتمام البالغ لكثير من الباحثين المحدثين بتوظيف العلوم التجريبية الحديثة لنصرة الإسلام بعقائده وأحكامه، ولعل من فوائد ذلك ـ على حد رؤيتهم ـ : مواجهة حال الانبهار الشديد بهذه العلوم التجريبية، وبالغرب الذي تطورت فيه، وعدم التفريق عند الكثيرين بين العلم الطبيعي والثقافة، مما جعل شباب الأمة يتطبع بثقافة القوم في المأكل والمشرب واللباس وغيرها من العوائد بحجة أنهم برعوا في مجال المنجزات العلمية، مما يكون له الأثر السيء على الانتماء إلى الإسلام وأمة الإسلام والاعتزاز بذلك، فنحن يمكن أن نستفيد من علوم القوم دون التأثر بثقافتهم المخالفة لديننا، كما أنهم يفعلون ذلك معنا، فهم يستفيدون من خيراتنا ومواردنا، بل ويعتمدون على ذلك في صناعاتهم، ومع ذلك لا يلتزمون ثقافتنا، فنحن أولى، وقد جاء في الحديث الأمر بتوطين النفس وترك الأمعية والتبعية.

ومن فوائده أيضا: إلى جانب تثبيت المسلمين، خاصة أصحاب الثقافة غير الإسلامية على دينهم، وزيادة ثقتهم فيه، مع  استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق العلمي.

ومن فوائده أيضا: دفع العداوة المزعومة بين العلم والدين، على وفق ما صنع الأوائل من دفع العداوة بين العقل والنقل.

وعليه، فإن الاعتداد بالعلوم التجريبية يمثل سمة عامة لكافة التيارات الحديثة من متكلمين وسلفيين وعقلانيين، ربما كان ذلك لشعور منهم بعدم كفاية الأدلة الكلامية القديمة، أو الأدلة العقلية بصورة عامة، لتثبيت الإيمان في نفوس الناشئة خاصة في ظل التطورات العلمية الهائلة، وربما أيضا بسبب أن هذه القفزات العلمية تتم في بيئة لا ترفع للإيمان ولا للدين رأسا، بل ربما يتم توظيف هذه العلوم لإبعاد الإنسان عن الإيمان والأخلاق، فاحتاج هؤلاء الباحثون المعاصرون إلى ربطها بحقائق الإيمان.  

مع ملاحظة أن هذه العلوم ليست الوسيلة القطعية الوحيدة في تحصيل المعرفة اليقينية، بل ويعترف علماء الغرب بأن ما وصولوا إليه من معلومات يكاد يكون شيئا لا يذكر في جانب العالم المجهول وقد قال تعالى:"  فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون"الحاقة: ٣٨ - ٣٩. يقول الدكتور سليمان دنيا واصفا الاعتماد على التجربة الحسية وحدها وإنكار ما عداها بأنه: "نكسة في تاريخ الإنسانية، تأخر ورجعية، إنه يمثل دور الطفولة في مراحل تطور البشرية...". فالتجربة الحسية في حاجة ماسة إلى حكم العقل، بل لا تكتمل ولا تصدق أحكامها حتى يكون العقل جزءا منها؛ ألا ترى إلى الشمس كيف تكون في الأفق على حجم ولون لا تكون عليه وهي في كبد السماء، ونحن نعلم يقينا أنها لا تتغير وفق ما نراه عليها، فلولا حكم العقل لخدعتنا الحواس.

وبعض ما جاء به الوحي من العلم والمعلومات، كالسمعيات مثلا، لا يُدرك حسا، ولا يدرك ابتداء عقلا، إلا أن العقل لا يحكم باستحالته، وإنما يحكم بعدم معرفته، لعدم الوسائل الحسية المفضية لذلك، ففرق بين المعدوم وغير المعلوم.

فالحذر الحذر من تطويع الإسلام ليكون موافقا لما يُظن أنه حقائق علمية، طلبا لنفي المخالفة بين الدين والعلم، فهذا يؤدي إلى أن تكون حقائق الإسلام مفتقرة في الإيمان بها إلى شيء من الخارج، فكيف إذا كان هذا الشيء ما زال في طور الإثبات ولم يحصل له الاستقرار بعد!

أما الباب الثاني من الدراسة فكان لبيان طبيعة العلاقة بين مصادر الاستدلال المذكورة آنفا. وفصوله كالتالي:

الفصل الأول: العلاقة بين النقل والواقع

الفصل الثاني: العلاقة بين النقل والعقل

الفصل الثالث: العلاقة بين النقل والعلم

أشار المؤلف إلى أن الأصل في مصادر الاستدلال المذكورة آنفا أن تتعاضد وتتكامل لا أن تتنافر أو تتعارض، ومن ثم فلا حاجة إلى إقامة قوانين أو قواعد تضبط حالات التعارض بين هذه المصادر، فضلا عن محاولة تقديم أحدها على الآخر. لكن مع ذلك فقد اشتهر عند المتكلمين القدامى وتابعهم عدد غير قليل من المحدثين قانون التأويل الذي يقوم على افتراض تعارض العقل مع النقل، ومن ثم يوجبون تقديم العقل على النقل، والنقل إما أن يُفوَّض العلم به إلى الله، أو يُؤوَّل بما يدفع عنه التعارض.

ثم جرى البحث ين الباحثين المحدثين في العلاقة بين النقل والواقع، والنقل والعلم، متأثرين بما قيل في مسألة التعارض بين النقل والعقل.

الفصل الأول: العلاقة بين النقل والواقع

الإسلام دين واقعي بمعنى أنه ممكن التطبيق؛ إذ إنه جاء لمخاطبة الإنسان حيثما كان، وأينما كان، وبغض النظر عن نوعه، أو جنسه، أو لونه، أو طبقته، أو مستواه الفكري. واقعي إذ إنه يستجيب لحاجات الإنسان الفطرية والعقلية والجسدية.. ولا يكلف أحدا فوق طاقته: العقلية أو النفسية أو الجسدية أو المالية، بحيث يقع الحرج عليه، ولا يرمي إلى مثاليات ليس لها من الواقع نصيب.. ولا يعني ذلك أنه يبرر الواقع السيء أيا كانت درجة السوء، بل يرقى بهذا الواقع إلى سمو الطهر، ونبل المقصد، يجذبه إليه ويرتفع به، لا أن ينجذب إليه وينحط به، مع إقرار الإسلام بالأحوال الاستثنائية التي قد تمر ببعض الناس، فهذه تقدر بقدرها، وتعالج بما يعينهم على تخطي هذه المرحلة المؤقتة، والعودة إلى الأصل الطاهر والطبع المستقر، والإسلام دين واقعي يعرف في الإنسان قوته وضعفه، وقدرته وعجزه، وغناه وفقره، وصحته ومرضه، وحربه وسلمه، وعلمه وجهله، وغرائزه وشهواته، وحاجة الفرد إلى الجماعة، وحاجة الجماعة إلى الفرد، فكل ذلك له في الإسلام من التشريعات العادلة والحكيمة ما يحقق العيش الكريم، والسعادة في الدارين.    

والإسلام دين واقعي بمعنى أنه لا يصطدم بحقائق الكون، وقوانينه، فهو كلمة الله:" وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا" النساء ١٢٢  والكون بقوانينه" صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)"النمل: ٨٨ فلا تعارض بين هذا وهذا، إلا ما يُوهم التعارض بسبب أن النقل ليس بصحيح أو فهمه غير صحيح، أو بسبب أن النظر إلى الواقع ليس بصحيح، وعند ذلك يقدم الصحيح على غيره، سواء كان نقلا أو واقعا، لا باعتبار طبيعته: النقل أو الواقع، وإنما باعتبار صحته.

وعليه، فلا حاجة لأن يقال: إنه يجب تأويل النصوص التي تعارض الواقع الثابت بطريق العيان. فإن هذا القول يفترض ظنية النص، وصحة الواقع، وهذا غير صحيح على إطلاقة، بل الواجب هو تقديم الصحيح الثابت سواء كان نقلا أم واقعا كما تقدم.

والأمثلة التي استندوا عليها في معارضة النقل للواقع، ينبغي عدم التعجل في افتراض المعارضة، لأنه في مثال حديث الذبابة وبعد أن تجرأ بعضهم على معارضته بالواقع، وتضعيف الحديث بهذا السبب المتوهم، بل تحامق أحدهم فزعم أن الحديث مجرد رأي للنبي صلى الله عليه وسلم، يأخذ برأي الطبيب الكافر ولا يأخذ برأي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجد في ذلك حرجا البتة.

ثم ثبت علميا صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم على نحو التفصيل التي أشار إليه الحديث. فلنتهم فهمنا للواقع الصحيح أو الوحي المعصوم، فربما لم يبلغ علمنا ما نريده، ففوق كل ذي علم عليم، وما خفي اليوم ربما يتضح غدا، وعدم العلم بالشيء ليس علما بالعدم كما هو مقرر في الأصول.

ويلحق بهؤلاء من زعم أن القرآن اشتمل على أساطير تاريخية لخدمة أغراض ومقاصد خاصة على نحو ما يفعله الفنانون والروائيون وهي شنشنة من أخزم أشار إليها ابن تيمية في قوله عن بعض المتقدمين من الفلاسفة الباطنيين سماهم ابن تيمية بأهل الوهم والتخييل فنقل عنهم:"إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر وعن الجنة والنار بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه ولكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيما محسوسا وعقابا محسوسا، وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر؛ لأن من مصلحة الجمهور أن يُخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا، وإن كان هذا كذبا فهو كذب لمصلحة الجمهور، إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريق" وما ذكره المعاصرون من أمثال طه حسين لم يزد عما ذكره هؤلاء المتفلسفة الباطنيون.

والإسلام يستجيب للواقع الإنساني بجميع صوره المتطورة حسب الزمان والمكان، فالإسلام دين عالمي: زمانا ومكانا، وهذا من خصائصه التي تفتقر إليها الأنظمة البشرية, وذلك لأنه يراعي حقيقتين في الواقع الإنساني، هما: أن الإنسان يشتمل على ثوابت ومتغيرات، فيعطي الإسلام كل حقيقة ما يتناسب مع طبيعتها، فالأحكام الثابتة تعمل على الاستقرار، والأحكام المتغيرة تعمل على التطور والازدهار، ومثال ذلك في أحكام العقائد والعبادات والحلال والحرام وقيم العدل والشورى فكل ذلك من الثوابت التي لا يزيدها تغير الزمان والمكان إلا رسوخا وأصالة، وأما صور إقامة العدل وتطبيق الشورى وما سكت عنه التشريع من المآكل والمشارب والملابس ونحوها من المباحات فهي مجال الإبداع والتطوير بما يتناسب مع متغيرات الحياة الإنسانية.

الفصل الثاني: العلاقة بين النقل والعقل

المقابلة بين العقل والنقل في الاستدلال قضية قديمة متجددة، ابتدأها المتكلمون ثم صارت أكثر ظهورا وحدية لدى الفخر الرازي، وتلقفها بعض الباحثين المحدثين تقريرا لها واستنادا عليها في تعاملهم من نصوص الشرع، وخلاصتها تقوم على افتراض التعارض بين النقل والعقل، فإذا حدث ذلك كان الواجب تقديم العقل على النقل، وليس العكس، لأن العقل ـ بحسب زعمهم ـ أساس النقل، فالعقل أصل والنقل فرع، وتقديم الفرع على الأصل باطل في بدايه العقول، فكان الواجب تقديم العقل على النقل، والنقل إما أن يؤول بما يتفق مع العقل، وإما أن يفوض العلم به إلى الله حفاظا على قدسيته.

حتى أن محمد عبد ينسب هذا الرأي إلى اتفاق أهل الملة الإسلامية ـ إلا قليلا ممن لا يُنظر إليه ـ على حد قوله، كما نقل عنه ذلك الباحث وفقه الله، وأضاف إليه آخرين من أتباع المدرسة العقلية منهم: عبد العزيز جاويش، وعبد المتعال الصعيدي، ومن أتباع الاتجاه العلمي التجريبي طنطاوي جوهري وفريد وجدي، ومن أصحاب الاتجاه الكلامي: الشيخ عليش، ومحمد بخيت المطيعي.

مع أن هؤلاء الباحثين أنفسهم يكثرون في مؤلفاتهم من ذكر عناية الإسلام بالعقل، ومدى انسجامه معه، لكن عند التطبيق تظهر عندهم مسألة التعارض المتوهمة.

وفي المقابل نجد من الباحثين المحدثين من انتقد قانون التعارض هذا، ومن أبرزهم رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده، وحسن البنا، وسيد قطب، إضافة إلى الدكتور محمد خليل هراس.

والحقيقة أن هذه المسألة تقوم على توهمات منها:

1ـ إمكانية تعارض النقل والعقل.

2ـ أن العقل كله قطعي ولا مجال للتشكيك فيه.

3ـ أن العقل الذي يعارض النقل هو أساس النقل.

أما الأول: إمكانية تعارض النقل والعقل، فالنقل منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني، فالقرآن كله قطعي الثبوت وبعضه ظني الدلالة، والحديث ترد عليه القطعية والظنية في الثبوت والدلالة، وعليه، فإن كان الدليل النقلي قطعيا في ثبوته ودلالته فلا يمكن أن يعارضه الدليل العقلي، إلا إذا كان دونه في الدرجة، لأن الدليلين القطعيين لا يتعارضان أبدا، سواء كان عقليين أو نقليين، أو أحدهما عقليا والآخر نقليا، ويلحق بهما الدليل الحسي. وعليه فالتقديم هو حق القطعي مطلقا، سواء كان نقليا أو عقليا، ولا مخرج لهم من ذلك إلا أن يقولوا: الدليل النقلي لا يكون قطعيا، وقد قال ذلك بعض المتكلمين الأوائل، خاصة الرازي، وهذا ـ كما قال ابن تيمية ـ لا يفيدهم، لأنه حينئذ يقدم الدليل العقلي لكونه قطعيا، لا لكونه عقليا.

وأما الثاني: الدليل العقلي كله قطعي ولا مجال للتشكيك فيه، فالعقل يطلق ويراد به العلوم الضرورية البدهية الفطرية التي لا يختلف حولها اثنان، ولا ينتطح فيها عنزان، مثل قانون التناقض، وأن الكل أكبر من الجزء، ونحو ذلك مما هو محل اتفاق بين جميع العقلاء، ولعل الفيلسوف الرياضي ديكارت كان يشير إليه بقوله: العقل من أكثر الأشياء توزعا بالتساوي بين الناس.

ويراد بالعقل أيضا العلوم النظرية الاستدلالية، وهذه يكثر حولها الاختلاف والتباين، وهذا معلوم وموجود لدى طوائف الناس وفي جميع المجالات.

فالقطعية ليس صفة ملازمة للدليل العقلي، بل منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني، حاله حال الدليل النقلي سواء بسواء، بل أكثر الطوائف اختلافا وتنازعا إلى درجة التنابز بالألقاب، والتشهير بالتكفير، هم طوائف المتكلمين، مع ادعاء كل طائفة لدليلهم القطع واليقين.

أما الثالث: أن العقل الذي يعارض النقل هو أساس النقل، فيقال: ليس كل دليل عقلي ادعي فيه معارضته للنقل هو أساس النقل، فالأدلة العقلية التي ثبت بها النقل محصورة فيما عرفنا به وجود الله وكمالاته وصدق رسالاته ونحو ذلك، فإذا ثبت ذلك بدليل العقل فالواجب أن يتلقى الإنسان بعد ذلك من مشكاة النبوة التي ثبتت صحتها، وقد قيل: العقل مولٍّ ولّى الرسول ثم عزل نفسه. فالعقل الذي دلّ على صحة النبوة لا يُقبل منه أن يعارض ما تلقيناه صحيحا من مشكاة النبوة، وإلا وقع في التناقض، وعادة ما يساق في هذه المسألة المثال التالي: رجل سأل آخر عن طبيب يطببه، فدله عليه، فهل يٌقبل منه بعد ذلك أن ينازعه فيما وصفه الطبيب من دواء؟!

الفصل الثالث: العلاقة بين النقل والعلم

أي العلاقة بين الدين والعلم، وهي على طرفين: علاقة تضاد، وعلاقة تعاضد، الأولى عرفتها أوربا في القرون الوسطى وإلى ما بعدها حتى بدايات عصر النهضة وذلك في ظل هيمنة الكنيسة، وطغيان رجالها الناطقين باسم الحق الإلهي المقدس، وما زالت هذه النظرة حاضرة في الذهن الأوربي والغربي بسبب الفكر العلماني؛ فمجال الدين ـ أي دين ـ   يختلف عن مجال العلم، فالدين مجاله ما وراء الطبيعة، بينما العلم مجاله الطبيعة بجميع تفاصيلها. وللأسف فقد ارتبطت النهضة الأوربية الحديثة بالانفكاك عن الدين ورجاله، باعتباره معوقا لتلك النهضة، ويُسوَّق لذلك في العالم الإسلامي بالمبررات نفسها، مع أن التجارب مختلفة، والتحديات مختلفة، بل يسوَّق للعلمانية نفسها باسم العلم، حتى في الاشتقاق اللغوي، مع أن ذلك مخالف تماما للأصل الأجنبي للكلمة، فالعلمانية نسبة للعالم المادي لا للعلم، وتعرف بالدنياوية، ومن ذلك منعُ التفسير الغيبي (الديني) للأشياء.

أما الإسلام فلا تُعرف في تاريخه القديم والحديث هذه المقابلة المتصارعة بين العلم والدين، بل على الضد تماما، فالعلاقة بينهما علاقة تعاضد وتناصر، فالإسلام دين العلم: طلبا وحثا ومدحا، وذما للجهل وأهله، حتى أنه وصف الحالة التي وجد الناس عليها بالجاهلية، وليس في الإسلام رجال دين بالمفهوم الكنسي ينطقون باسم الحق الإلهي المقدس، ويملكون حق تفسير الكتاب المقدس، والتعديل فيه بالإضافة والحذف والتبديل، ويتصرفون في مصائر الناس عن طريق صكوك الغفران وقرارات الحرمان، فهذا الصراع بين الدين والعلم الذي شهدته أوربا ولقرون، وكان سببا في ظهور تيارات الإلحاد، والفلسفة العلمانية، ليس له وجود في الإسلام؛ لا في أسسه الفكرية ولا في واقعه العملي.

إذن فالأزمة بين الدين والعلم صنعة أوربية صرفة، لا وجود لها في العالم الإسلامي، وإنما وجدت فيه لاحقا لتكون من وسائل الترويج للمشروع العلماني في المنطقة، فتصدى لها الباحثون المعاصرون منوهين بعناية الإسلام بالعلم والعلماء، واستعراض النماذج النيرة من التاريخ الإسلامي التي تتجلى فيها الحفاوة بالعلم ومنجزاته، والرموز الإسلامية التي لا زالت تتلألأ في سماء الإنسانية ممن ارتكزت العلوم في أوربا على جهودهم، مع الاعتراف إلى أن الواقع الحاضر للمسلمين قد تخلف كثيرا عن عهد الأسلاف، ولم يستجب إلى نداءات الإسلام في الحث على العلم والنهضة، حتى غدت الأمة عالة على أعدائها. هذا الموقف يكاد يكون محل اتفاق بين الباحثين المحدثين، لكنهم في موقفهم من إمكانية التعارض بين العلم والدين كانوا أشتاتا حسب ما ذهبت إليه الدراسة:

1/ فهناك من رفض ابتداء إمكانية التعارض بين الدين والعلم، ومن ثم لم ير أدنى حاجة للبحث عن قانون لمعالجة التعارض، وهو الأشبه بالاتجاه السلفي.

2/ وهناك من أكد ـ نظريا ـ  على استحالة التعارض، لكنه لم يمنع من تبني قانون لمعالجة التعارض بتقديم العلم على الدين، والدين إما أن يؤول وإما أن يفوض العلم به إلى الله تعالى، على نحو ما كان في قانون التأويل الكلامي، والشيخ محمد عبده أصدق من يمثل هذا الاتجاه.

3/ وهناك من جعل حق التقديم ـ عند التعارض ـ للدليل القطعي، سواء كان الدين أو العلم، ويعتبر الشيخ رشيد رضا ممثلا لهذا الاتجاه.

مع ملاحظة الآتي:

ـ نجد من الباحثين المحدثين من يرفض التعارض بين الدين والعلم معللا ذلك بأن مجال الدين يختلف عن مجال العقل، فلا محل للتعارض، لكن لا ينبغي أن يفهم منه أنه تقرير للفلسفة العلمانية الغربية، التي تعتبر مجال الدين الميتافريقا، بينما مجال العلم الطبيعيات، ومن ثم فلا يجوز للدين أن يتدخل في الطبيعيات ولا للعلم أن يتدخل في غير الطيبعيات، معتبرين ذلك حلا لمشكلة الصراع بين الدين والعلم التي راجت في العصور الوسطى، فالأمر يختلف تماما لدى الباحثين المحدثين الذين فصلوا بين المجالين لنفي التعارض، فهم يقررون أنه ليس من خصائص الدين العناية بالعلوم الطبيعية على وجه التفصيل والتمحيص، وإنما ترك ذلك للعقل ليبدع فيه، وليحقق أغراض الدين، بل الدين في حاجة لإبداعات العقل والعلم لإقامة شرائعه؛ مثل تحديد القبلة، ومواقيت الصلاة، وحساب المواريث، وأدلة الإثبات ونحو ذلك مما سبيله التطور، وكذلك العلم يحتاج إلى الدين بضبطه بقيم الأخلاق، وتحديد الأهداف التي يستخدم لتحقيقها، والنأي به عن إلحاق الظلم والأذى بالأبرياء.

ولهذا لم ينشأ هذا الفصام النكد بين الدين والعلم في البيئة الإسلامية، بل كان العلماء إلى جانب التفقه في الدين يتقنون تعاطي العلوم الطبيعية، وكان العِلمان يدرسان في المساجد جنبا إلى جنب.

ـ تحت ضغط التفوق الأوربي في مجال العلوم الطبيعية، واستخدام المناوئين ذلك في هجومهم على الإسلام، نجد هناك محاولات من قبل بعض الباحثين المعاصرين لتفسير بعض النصوص الدينية على نحو ينفي عنها التعارض المتوهم، كما فعل المتكلمون الأوائل وهم يردون على شبه الفلاسفة والملاحدة من شتى الطوائف، فظهرت مذاهب القدر والجبر وتأويل الصفات وغير ذلك. أما هؤلاء الباحثون المحدثون فذهبوا يتحدثون عن بداية البشرية متى وكيف كانت، وهل هو آدم واحد أم أكثر، وهل كان على هيئته الحالية أم لا؟! ليتجنبوا التعارض مع نظرية دارون.

ويفسرون الملائكة بالقوى الطبيعية التي تكمن في الأشياء، والجن بالميكروبات والجراثيم الدقيقة، والطير الأبابيل بالوبائيات مثل الجدري والحصبة، ويفسرون معجزات الأنبياء على نحو ينفي عنها الإعجاز، فولادة عيسى تمت بالانفعال الشديد للرحم حينما أيقن أنه سيحمل جنينا، وأن منطق الطير يمكن تعلمه بالدربة والخبرة، وأن الإسراء والمعراج كان مناما لا يقظة وهكذا..

ـ لا ينبغي تصور وجود التعارض بين الحقائق الثابتة، سواء كان طريق معرفتها الدين أم العلم، فالحق ثابت في نفسه بغض النظر عن وسيلة معرفته..

ـ الشيء الموجود قد يُعرف من جانب دون جانب، وتُكتشف بعض حقائقه دون بعضها، فإذا فسر العلم استهلال المولود صارخا بدخول الهواء إلى رئتيه فهذا لا يعنى إنكار نخسة الشيطان له الواردة في الحديث، إذا لا تعارض بين الأمرين، وهذا يقال في كثير من القضايا؛ مثل: جريان السحاب ونزول المطر وحركة الجبال ونفخ الروح وخروجها وكسوف الشمس وخسوف القمر، فكل ذلك وغيره لا يمنع أن يدرك العلم منه بعض جوانبه مما لا يكون مبررا لإنكار ما ذكره الدين، إذ لا تعارض بين الأمرين.

وأما الباب الثالث فكان عن بيان موقف الباحثين المحدثين من قواعد الاستدلال وطرقه، وما أحدثوه فيها من مظاهر تجديدية.

الفصل الأول: موقف الباحثين المحدثين من قواعد الاستدلال الكلامية القديمة.

هناك موقفان للباحثين المحدثين من علم الكلام:

الموقف الأول: المبالغة في الثناء عليه، والدفاع عنه، والتأكيد على أهميته في معرفة العقيدة والذود عنها، وأن الحاجة إليه وإلى تعلمه ما زالت قائمة، وأنه أشرف العلوم وأصلها وأجلها قدرا لتعلقه بمعرفة الله ورسالاته. ويمثل هذا الفريق من المحدثين أصحاب الاتجاه الكلامي ومن تابعهم من بعض المنتسبين إلى التصوف مثل عبد ربه سليمان، ومن بعض أساتذة الجامعات مثل د. علي سامي النشار.

الموقف الثاني: المعارضة لعلم الكلام وانتقاد طريقته ومنهجه، والتشكيك في جدواه لتثبيت العقيدة في النفوس، مع وعورة مسالكه، وغموض مسائله، واضطراب نتائجه، فلم يعد ذلك مناسبا لعرض عقائد الإسلام لا سيما في العصر الحديث الذي جدَّت فيه الكثير من الشبه والمذاهب، ولم يعد الأسلوب الذي كان صالحا لمخاطبة المتقدمين كافيا لإقناع أبناء هذا العصر، مع انتقاد المتكلمين في المنهج أو الأسلوب أو الآراء.

اتخذ الشيخ محمد عبده موقفا وسطا؛ فهو لا يرفضه لذاته أو يدعو إلى إلغائه، بل ألَّف فيه واشتغل بدارسته وتدريسه، لكنه مع ذلك قد وجه انتقادات عديدة للمتكلمين تدور حول طريقة التأليف في علم الكلام، وقواعدهم الاستدلالية، وموضوعاتهم وقضاياهم التي تناولوها.

وأما تلميذه رشيد رضا فقد تحول موقفه من جهة الإقرار ـ بحكم دراسته في بداية عهد الطلب ـ إلى الانتقاد بعد التأثر بكتابات ابن تيمية وابن القيم إلى اعتباره علما مبتدعا لا يجدي نفعا في مواجهة الشبهات المعاصرة، وعلى نهج الانتقاد سار سيد قطب وأصحاب الاتجاه السلفي والاتجاه التجريبي، وإن كان الأخيرون يركزون على إيجاد منهج جديد يراعي استصحاب اهتمامات العصر وعلومه خاصة العلوم الطبيعية والتجريبية، ومن المنتقدين أيضا بعض أصحاب الاتجاه الصوفي وفي مقدمتهم الدكتور عبد الحليم محمود معولين على الطريقة الذوقية في المعرفة.

وقد ركز هؤلاء المنتقدون لعلم الكلام على طريقته في الاستدلال وأسلوبه في تناول مسائل العقيدة، وعجزه عن تثبيت اليقين وغرس الإيمان في النفوس، وقد استعرض المؤلف (حفظه الله) عددا من النماذج يبين من خلالها موقف الباحثين المحدثين منها قبولا أو رفضا، ومن ذلك: قياس الغائب على الشاهد، وقياس الأولى، وانتفاء المدلول لانتفاء دليله، ولازم المذهب، وطريقة القسمة العقلية..

الفصل الثاني: مظاهر التجديد في قواعد الاستدلال وطرقه عند الباحثين المحدثين

إذا كان كثير من الباحثين المحدثين قد تعرض لعلم الكلام وطريقته الاستدلالية بالنقد والتجريح فكان لا بد من التفكير في طريقة استدلالية بديلة تتحاشى عيوب علم الكلام القديم، وتراعي مخاطبة أهل العصر بلغة أقرب إلى أفهامهم، وأنجح في تفنيد شبهات خصومهم، ويلخص الشيخ محمد الغزالي هذا التحدي بقوله:"اللوم يتجه إلينا ـ نحن دعاة الإسلام ـ لأننا لا نعرف طبيعة العصر الذي نعيش فيها، والمنطق الذي يقنع أهله، والشبهات التي جدَّت مع مدنيته، وبعضنا قد يحيا متخلفا عن عصره ألف سنة، يخاصم فرقا بادت، ويناقش قضايا نُسيت، ما يجب للناس أن يسمعوا عنها جدا ولا هزلا، والإسلام لا يُخدم بهذا الأسلوب" مائة سؤال عن الإسلام 1/4.

أما مظاهر التجديد عند الباحثين المحدثين فقد تركزت على الأمور التالية:

1ـ التجديد في موضوعات علم الكلام بإيثار الناحية العملية على الناحية النظرية، وتجنب الخوض في المسائل التي لا يترتب عليها عمل غير ضياع الأزمان وتشتيت الأذهان، ويضربون لذلك أمثلة على حد تعبيرهم بكيفية عذاب القبر، ومساحة الجنة، وأرضها وسمائها وغير ذلك، مع أن في بعض أمثلتهم نصوصا صحيحة صريحة.

ومن التجديد في الموضوعات: إضافة تسميات جديدة مثل: التصور الإسلامي ويُراد به عند سيد قطب العقيدة، وعنده أيضا: مصطلح الحاكمية مرادف لمصطلحي الربوبية والألوهية؛ فعندما يكون المقصود بالحاكمية التشريع فتكون ربوبية، وعندما يكون مقصودا بها الإذعان والانقياد تكون الحاكمية بمعنى الألوهية.

ومن التجديد في الموضوعات اقتراح بعضهم إضافة موضوعات وقضايا جديدة بحسب حاجة العصر، أو إعادة ترتيب الموضوعات القديمة، مع نبذ ما لا تدعو الحاجة إليه منها. وقد اقترح بعضهم أن تكون قضايا العقيدة مرتبة حسب حديث جبريل عليه السلام في الإيمان.

2ـ التجديد في صياغة وعرض العقيدة وأدلتها، لتبتعد عن التعقيد والجفاف إلى السهولة والسجالة، وقد نبه سيد قطب إلى وجوب الارتباط الوثيق بين طبيعة الموضوع وطبيعة القالب الذي يعرض من خلاله، فربما تغيرت طبيعة الموضوع وتشوهت إذا ما عُرضت في قالب يحمل في طياته عداء وجفوة وغربة للموضوع الذي يعرضه. وهناك فرق شاسع وتباين تام بين أسلوب عرض العقيدة وأسلوب عرض الفلسفة؛ فالعقيدة عموما ـ والإسلامية على وجه الخصوص ـ تخاطب الكينونة الإنسانية بأسلوب خاص يمتاز بالحيوية والإيقاع واللمسة المباشرة والإيحاء بالحقائق الكبرى التي لا تتمثل كلها في العبارة، ولكن توحي بها العبارة، كما يمتاز بمخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها، ولا يخاطب الفكر وحده في الكائن البشري.. الأمر الذي لا تدركه الفلسفة. وعليه فلا ينبغي عرض العقيدة من خلال القالب الفلسفي الذي أحدث تشوهات كبيرة في المسائل والدلائل، بل لا بد من عرضها من خلال قالب يتناسب مع طبيعتها.

ولقد نحا الشيخ مصطفى صبري في كتابه "موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين" إلى التسهيل والتبسيط في العبارة، والاستفادة من مستجدات العصور الحديثة في المصطلحات والأدلة والعبارات والألفاظ.

وقد تحوَّل الشيخ محمد عبده من الأسلوب الكلامي المعقد إلى الأسلوب السهل بعيدا عن التزام السجع، وصعوبة العبارة وتكثيفها، مع طرق موضوعات وقضايا جديدة لم يذكرها قدامى المتكلمين يستطيع ابن العصر الحديث أن يفهما بأدنى جهد مهما كان حظه من العلم والثقافة.

3ـ الإلحاح على ضرورة الارتباط بين العقيدة والعمل، فقد شعر كثير من الباحثين المحدثين بخطورة الانفصال بين الاعتقاد والعمل في حس كثير من المسلمين، معتبرين ذلك من أسباب ضعفهم وتأخرهم، فتعالت أصواتهم بالدعوة إلى تعميق الارتباط بين الأمرين، فالأفغاني ينكر على من فرَّق بين الإيمان والعمل، ويركز على إبراز الآثار العملية للتدين عموما والعقيدة على وجه الخصوص. والشيخ رشيد رضا يخطِّئ مذهب القائلين بأن العلم لا يوجب العمل، وينتقد بشدة كتب المتكلمين القدامى لعدم تحقيقها الفائدة المرجوة منها في جانب العمل والسلوك. والعقيدة عند حسن البنا هي أساس العمل، وعمل القلب أهم كثيرا من عمل الجوارح، مع تركيزه على الآثار العملية للاعتقاد؛ فالتوكل على الله نتيجة اعتقاد أنه تعالى القادر على كل شيء، ومراقبة الله في السر والعلن هي نتيجة اعتقاد أنه تعالى العليم بكل شيء. ويلح سيد قطب في مواضع عدة من كتبه على ضرورة تحول العقيدة إلى قوة فاعلة ومحركة، لا أن تظل باردة جامدة. والعقيدة عند الشيخ شلتوت ليست مجرد أمور نظرية لا يُرجى من ورائها عمل، بل هناك اقتران وتلازم بين الاعتقاد العمل والسلوك؛ فإذا فسدت العقيدة ساء السلوك، والعقيدة الفاسدة تولِّد دائما تصرفات فاسدة، وعلى النسق نفسه سار الدكتور محمود قاسم، والدكتور عبد الرحمن بيصار، ومن الاتجاه السلفي الدكتور محمد خليل هراس الذي أشار إلى اختلاف الناس في حقيقة الإيمان على أقوال شتى أصحها ما ذهب إليه السلف من اعتبار العمل ركنا من أركان الإيمان..

4ـ طريقة العرض التاريخي التي ترمي إلى تتبع القضية محل البحث تاريخيا من خلال استعراض المواقف المتلاحقة للخروج برأي متفق عليه بشأنها؛ فمثلا قضية الوحدانية لله تعالى تعرض من خلال بيان مسيرة الدعوة إليها عند سائر الأنبياء والمرسلين للخروج بنتيجة مفادها أن التوحيد هو الأصل في البشرية، وأن الشرك وغيره طارئ عليها، وأن ذلك محل اتفاق بين أنبياء الله ورسله، وقد أشار الباحث إلى أن هذه الطريقة وإن لم تلق رواجا بين الباحثين المحدثين لكن تظل تجديدا أضافه بعض الباحثين إلى الدرس العقدي، ويعتبر كتاب الدكتور محمد خليل هراس "دعوة التوحيد أصولها، الأدوار التي مرت بها، مشاهير دعاتها" خير مثال على هذه الطريقة.

5ـ الاستشهاد بأقوال الغربيين: وهي ظاهرة واضحة في كتابات الباحثين المحدثين التي تحرص على دعم ما يذهبون إليه من اختيارات عقدية بأقوال الغربيين من فلاسفة أو مؤرخين أو علماء تجريبيين، وذلك لإضفاء مزيد من الوثاقة، وإقناع أبناء العصر الحديث بها. وربما كان ذلك لمواجهة حالة الانبهار بالغرب التي حدثت لأبناء ذلك الجيل، وربما كان الاستشهاد بأقوال الغربيين هو نفسه تعبيرا عن ذلك الانبهار.

وممن أكثر من الاستشهاد بأقوال الغربيين: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وحسن البنا وسيد قطب ومحمد فريد وجدي وغيرهم.

الخاتمة:

ختم المؤلف ـ وفقه الله ـ عمله الموسوعي بعدد من النتائج أذكر جملة منها:

1ـ تأثر الباحثين المحدثين بالبيئة السياسية والاجتماعية والفكرية التي كانت تعيشها مصر في العصر الحديث، ولم يغب المشهد الغربي والأوربي عن ذلك التأثر سلبا أو إيجابا.

2ـ اعتماد الباحثين المحدثين القرآن الكريم مصدرا رئيسا لمسائل العقيدة، لكن عند التعامل مع القرآن تظهر عند كثير منهم مذاهب التأويل والتفويض بسبب تقديمهم الدليل العقلي على الدليل النقلي.

3ـ ويتسع الأمر بالنسبة للسنة المطهرة ـ خاصة خبر الواحد ـ حيث أخرجها عدد غير قليل من الباحثين المحدثين عن دائرة الاحتجاج بدعوى ظنيتها.

4ـ تباين آراء الباحثين المحدثين حول مفهوم الإجماع حتى شبَّهه البعض منهم بالديمقراطية الغربية، كما تباينت آراؤهم حول حجيته وصحة الاعتماد عليه في مسائل الدين عموما، ومسائل العقيدة خصوصا مع اعتماد الدراسة التي بين أيدينا حجيته وسهولة وقوعه في العصر الحديث لتوفر وسائل التواصل.

5ـ اتفاق كلمة الباحثين على الاعتداد بالعقل والاحتجاج به، وإفادته العلم في مجالاته التي تناسبه، مع غلو البعض فيه بتقديمه على النقل مطلقا.

6ـ لم يلق الاعتماد على الفطرة اهتماما لدى كثير من الباحثين كما فعلوا مع الدليل العقلي، مع أن الفطرة يشترك فيها جميع الناس ولا تحتاج للإحساس بها إلى إعمال فكر، وهي من أقوى الأدلة على وجود الله تعالى ومواجهة الإلحاد.

7ـ اختلفت آراء الباحثين المحدثين حول الكشف والإلهام مصدرا للمعرفة تبعا لاختلاف مواقفهم من التصوف، ورجحت الدراسة أن يكون الكشف دليلا خاصا في حق من وقع له، محكوما بالشرع.

8ـ تفاوتت مواقف الباحثين المحدثين من الاعتماد على حقائق العلم التجريبي في ميادين العقيدة بين موسِّع في ذلك، ومضيِّق إلى درجة الرفض، ومتوسط وهو ما رجحته الدراسة بضوابطه المرعية.

9ـ ظهور قانون التأويل الكلامي لدى طائفة من الباحثين المحدثين لا سيما أصحاب الاتجاه العقلي معتمدين على مذاهب السابقين في ذلك.

10ـ انتقال مشكلة المقابلة بين الدين والعلم من الفكر الغربي إلى الفكر الإسلامي الحديث على الرغم من عدم وجود مبررات لها، وقد تبنى كثير من الباحثين المحدثين إثبات التوافق التام بين الإسلام والعلم، مع ميل بعضهم إلى تقديم العلم على النقل عند وجود التعارض.

11ـ اختلفت مواقف الباحثين المحدثين من علم الكلام ومن قواعده الاستدلالية.

12ـ هناك محاولات للتجديد في طرق الاستدلال وأساليب العرض والتناول عند بعض الباحثين المحدثين تستصحب لغة عصرهم واهتمامته.

هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...