إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات . 13 أكتوبر, 2022, 4:45 AM
إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات
بسم الله الرحمن الرحيم
هل أنت متأكد من أنك تقرأ كلماتي هذه؟
إن أجبتني بقولك: (لا!)، فهو في حقيقته إقرار منك وإجابة بـ(نعم)، وبأنك لا تشك في أنك تقرأ المقالة التي أمامك وتعمل في فهمها بصرك وعقلك وأقبلت عليها بكل جوارحك.
ولكن مهلًا، ما الذي جعلنا نتأكد ونوقن أننا نفكر فعلًا ونعي ذواتنا وندرك ما حولنا من المقروءات والمسموعات والمرئيات؟
ستجيب بكل بداهة أنك تدرك ذلك بعقلك وسجيتك وتوقن به يقينًا لا يمكن أن يزول ولو زالت الجبال عن أماكنها.
لن نستطيع الإجابة بأكثر من ذلك؛ لأن هذه القضية محكمة عقلية ضرورية، ولا يمكننا أن نستدل عليها بأكثر من ذلك؛ فبدهيتها دليل صحتها لا أكثر من ذلك، ولا يصح سؤال السائل عن حجتها وبرهانها؛ لأنها بدهية والبدهيات يستدل بها ولا يستدل عليها.
وهذه واحدة من محكمات العقل، فما المقصود بمحكمات العقل؟
المحكم مصطلح قرآني عظيم مأخوذ من قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
فالمحكم هو الواضح البين والثابت المحفوظ الذي لا التباس فيه ولا يتغير ولا يتبدل، وإلى المحكم يرد كل ما تشابه من غيره، وهذا المنهج القرآني ليس مقتصرًا على النصوص بل هو منهج حياة ومنهج علم يطبق على كافة الأصعدة العلمية والعملية.
والمتأمل في القضايا العقلية يجد أن منها المحكمات الواضحات التي لا تختلف وإليها مرد كل قضية عقلية، وهي: المبادئ العقلية الضرورية وما تفرع عنها وانبنى عليها؛ كدلالة الحواس الباطنة والظاهرة والتواتر والتجارب والملاحظات وغيرها([1])؛ إذ إن هذه المبادئ الأولية هي قوانين الفكر الأساسية التي ينطلق منها كل تفكير وكل استدلال([2]).
ومن البدهي هنا أن يرد التساؤل التالي:
المبادئ العقلية الأولية هي: "القضايا التي يصدق بها العقل الصريح لذاته ولغريزته"([3])، ومن تعريفاتها ما ذكره ابن سينا حيث قال: "قضايا ومقدمات تحدث في الانسان من جهة قوته العقلية، من غير سبب يوجب التصديق بها إلا لذواتها"([4]).
فهناك قضايا عقلية لا تحتاج من المرء إلى تعلم وتدرب على معرفتها ولا تحتاج منه إلى نظر في أدلتها وحججها وبراهينها حتى يصدق بها، بل إن مجرد إدراكها وتصورها كاف لليقين بها كوعي الإنسان بنفسه وبذاته وبتفكيره وبقراءته ما يقرأ وهكذا، وعلم الإنسان بأن كل حادث له سبب، فالطفل الصغير إذا أوذي وضرب مثلًا لا ينفك عن البحث عن الفاعل وعن السبب الذي منه الأذى، ولا يقبل عقله أن يقال: إن ذلك الأذى ليس له سبب وليس له فاعل وإنما حصل عبثًا هكذا!
المبادئ العقلية الأولية تعود إلى ثلاثة مبادئ، وهي:
1. مبدأ الهوية أو الذاتية:
وهو: "اعتبار أن الشيء له حقيقة في نفسه هي ذاته"([5])، أو يقال: "أن كل شيء هو ذاته"([6])، إشارة إلى مبدإ الذاتية، أو "أن كل شيء هو هو"([7]) إشارة إلى مبدإ الهوية.
وهذا المبدأ من أهم المبادئ الضرورية التي بها يميز الإنسان بين الشيء وغيره، وهو مبدأ أولي ضروري بدهي في الإنسان لا يحتاج إلى تعليم، فالطفل يميز بين الجمرة والتمرة، ويعرف أن الأول مؤلم والثاني مشبع، وإذا سأل سائل كيف عرفت بأن الجمرة هي الجمرة؟ أخرج من عداد العقلاء؛ لأن هذه أمور بدهية ضرورية لا تستند إلى استدلال نظري بل عليها يستند الاستدلال النظري؛ فإن "رؤية الإنسان للشيء تمنحه تصورا معينا يجعله يعرفه حين معاودة الإدراك مرة أخرى دون إن يكون في نفسه حاجة للاستدلال النظري على ما يجده في نفسه، وهذا يعني أن للشيء صفة ذاته والعلم بها ضروري لا يفتقر إلى نظر وتأمل"([8]).
وهذا المبدأ له علاقة وطيدة بالمبدأ الذي يليه، وذلك أن كون الشيء هو ذاته يلزم عنه أنه ليس غير ذاته، وإلا لزم التناقض.
2. مبدأ عدم التناقض:
ومثاله الواضح: أن زيدًا إما أن يكون موجودًا أو غير موجود ولا خيار ثالث، فلا يمكن رفع النقيضين، وأيضا لا يمكن الجمع بين النقيضين بمعنى أن زيدًا لا يمكن أن يكون موجودًا وغير موجود في وقت واحد، وهذا ما يختصر بقول: (النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان)([9]).
وهذا مبدأ أولي ضروري بدهي في الإنسان، فالطفل يدرك أن وجود اللعبة بين يديه غير عدمها؛ ويدرك تمامًا أنها إما أن تكون موجودة فيفرح أو غير موجودة فيحزن، وإن زعم عنده أحد أنه لا فرق بين وجودها وعدمها وطلب منه أن يفرح لعدمها كما يفرح لوجودها لم يرض بذلك مؤكدًا على مبدأ عدم التناقض.
3. مبدأ السببية:
ويقصد به أن لكل حادث سبب يتوقف عليه؛ ولا يمكن أن يكون وجود الحادث ذاتيًّا بدون سبب وإلا لزم أن يكون قديمًا فلا يسبق وجوده عدم، وذلك ليس إلا لله رب العالمين الأول والآخر وليس لمخلوق حادث وجد بعد أن لم يكن.
وهذا مبدأ أولي ضروري بدهي في الإنسان، فالطفل يبحث بمجرد أن يؤذى عمَّن آذاه مؤكدًا أنه يعلم يقينًا أن لكل حادث سبب، ولا يقبل بحال من الأحوال أن يقال له: إنه لا يوجد سبب لذلك الأذى ولا فاعل لذلك الأذى وإنما حصل عبثًا بدون سبب([10]).
ولا ريبَ في ضرورية هذه المقدّمات وأوليتها؛ إذ كلُّ إنسان يسلّم بها بمجرّد تصوّرها، وهذا هو المقصود بضروريتها أنها تلزم "نفس العبد لزوما لا يمكن معه دفعه عن نفسه"([11])، وأما المقصود بفطريتها: أنها موجودة بالقوة منذ ولادته، لا أنها متحققة بالفعل، فالإنسان مفطور على التسليم بها بمجرد تصورها بحيث لا يحتاج إلى برهان؛ لأن الغريزة العقلية تقتضيها بالضرورة([12]).
وأيضًا لا تحتاج إلى دليل ولا إلى تعلّم ونظر، بل لا يمكن الاستدلال عليها؛ إذ هي قضايا تسليمية([13])، ولا يمكن الشكّ فيها أو تصوّر نقيضها؛ لأنها مقتضى غريزة الإنسان العقلية، ومقتضى فطرته التي لا يتمكّن من مقاومتها، ولأنها أساس الاستدلال التي عليها تُبْنى المعارف والعلوم بإجماع العقلاء، والقضايا المبنية على هذه المبادئ بناء صحيحًا قضايا محكمة([14]).
أ. وجود المقدمات الأولية يدل على موجدها:
فإذا تقرر أن هذه المقدّمات فطريّة ضرورية موجودة في الإنسان أصلا وليست مكتسبة، فلا بد أن يكون ثمة من أودعها في نفسه؛ إعمالًا لمبدأ السببية، فمن هو؟
لقد ورد الجواب واضحًا جليًّا في كتاب الله تعالى حيث قال: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4 - 5]، وقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3 - 4]، فوجود هذه المقدّمات يدلّ ضرورة على وجود فاطرِها الذي هو سبحانه مُبْتدَأُ المعرفة؛ إذ هو من علّمهم بواسطة وبلا واسطةٍ؛ فعلمهم بلا واسطةٍ المقدماتَ الضرورية، والأدوات التي يتوصلون بها للعلوم النظرية، وعلّمهم الشرع والدين بواسطة الأنبياء فالعلم به أصل كل علم.
ب. مطابقة الغيوب المستقبلية للواقع يدل على صدق قائلها:
المخبر إما أن يكون صادقًا أو كاذبًا ولا ثالث لذلك ولا يمكن أن يكون صادقًا وكاذبًا في نفس الوقت؛ إعمالًا لمبدأ عدم التناقض، ومن يخبر بالغيبيات المستقبلية التي لا سبيل للعلم بها بوسائل البشر ثم تتطابق أخباره الغيبية مع الواقع فهذا من أعظم الأدلة على صدقه كما هو الحال مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فقد أخبر أن القرآن لن يأتي أحد بمثله أبدًا وهو الواقع حتى يوم الناس هذا، وأخبر أن دين الإسلام باقٍ خالدٌ ظاهرٌ على الدين كله وهو صلى الله عليه وسلم مضطهد محاصر وكان ما أخبر به، وما دام أنه كذلك "فلا بد إذًا من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه، ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المنقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علمًا بمجراها ومرساها. فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن.
سل التاريخ: كم مرة تنكر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين...، وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن؛ كُلًّا أو بعضًا؛ كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعًا راياته، وأعلامه. حافظًا آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية: كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]"([15]).
قبل أن نرفع الحبر عن قمطر هذا المقال نؤكد أن محكمات العقل هي المبادئ العقلية الضرورية وما تفرع عنها وانبنى عليها، وتتمثل هذه المبادئ في عدم التناقض والسببية والهوية، وهذه أساس كل عملية عقلية، وأدل ما تدل عليه الإيمان بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، فالدين الإسلامي دينٌ برهاني قائمٌ على الحجة والدليل لا على الادعاء والتخييل، فبناء على مبدأ السببية والقول بأن لكل حادث محدث يتساءل القرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، وبناء عليه وعلى مبدأ عدم التناقض يتساءل القرآن: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
1. النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم، محمد بن عبد الله دراز، اعتنى به : أحمد مصطفى فضلية، الناشر : دار القلم للنشر والتوزيع، طبعة مزيدة ومحققة 1426هـ- 2005م.
2. درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثانية، 1411 هـ - 1991م.
3. البصائر النصيرية في علم المنطق، زين الدين عمر بن سهلان الساوي، تحقيق: محمد عبده، مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الأولى 1426هـ.
4. الأسس المنهجية لنقد الأديان، محمد بسيس السفياني، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى 1437هـ.
5. المعرفة في الإسلام، عبد الله القرني، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، الطبعة الثانية 1429هـ.
6. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، تحقيق: د. محمد بن إبراهيم نصر و د. عبد الرحمن عميرة، الناشر: دار الجيل - بيروت.
7. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، ابن تيمية، تحقيق: مجموعة من المحققين، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الأولى، 1426ه.
8. الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، وضع حواشيه: عبد الله محمد الخليلي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2004م.
النجاة، ابن سينا، الناشر: مطبعة السعادة - مصر، الطبعة: الثانية 1358م.
([1]) ينظر: المحكمات العقلية، سعود العريفي، الحلقة الثانية من بودكاست محكمات، وهي منشورة على اليوتيوب.
([2]) ينظر: المعرفة في الإسلام، عبد الله القرني (ص:297 وما بعدها)، الأسس المنهجية لنقد الأديان، محمد بسيس السفياني (1/159)، وقد أفدت منهما في هذا المقال.
([3]) البصائر النصيرية للساوي (ص:139)، وينظر: بيان تلبيس الجهمية (4/561)، وقد أطال الساوي في التعريف وذكر جملة من الاحترازات واقتصرت على ما أوردت طلبًا للاختصار وإيصال الفكرة بأخصر عبارة، والتعريف الكامل ما يلي: "القضايا التي يصدق بها العقل الصحيح لذاته وغريزته، ولا لسبب من الأسباب الخارجية عنه، من تعلم أو تخلق بخلق أوجب السلامة والنظام، ولا تدعو إليها قوة الوهم أو قوة أخرى من النفس، ولا يتوقف العقل في التصديق بها إلا على حصول التصوير لأجزائها المفردة، فإذا تصور معاني أجزائها سارع إلى التصديق بها من غير أن يشعر بخلوة وقتا ما عن التصديق بها".