مراجعة نقدية لكتاب (السلفية مرحلة زمانية مباركة لا مذهب إسلامي) للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي- د. عبد الرحمن بن سعد الشهري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العلمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :

فهذه مراجعة نقدية لكتاب (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي) للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وذلك ببيان أهم المواطن التي تحتاج إلى نقد ومراجعة في هذا الكتاب ، وخاصة ما يتعلق بالقضايا المنهجية ، وأما تفصيل المسائل التي أخطأ فيها فله مكان آخر .

وقبل الدخول في مراجعة قضايا هذا الكتاب ، أقدم بأمرين اثنين :

 الأمر الأول : أن الأصل الجامع لمنهج السلف هو الرجوع إلى " كتاب الله جل وعلا وسنة النبي r "، والوقوف عندهما، والأخذ بما فيهما، لأن الكفاية والكمال، سواء في باب الدلائل أو في باب المسائل ، فالسلف رحمهم الله من جهة مصدر التلقي اعتمدوا الكتاب والسنة ومن جهة الفهم التزموا فهم الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم-.

وعلى هذين الأصلين قام المنهج السلفي في فهم النصوص والاستدلال بها.

الأصل الأول: التزام الكتاب والسنة، وهذا من جهة مصدر التلقي.

الأصل الثاني: التزام فهم الصحابة رضي الله عنهم، وهذا من جهة الفهم والاستدلال.

   والمقصود هنا هو التأكيد على هذين الأصلين، وليس المراد الشرح والتفصيل لهما وإن كانا حقيقين بذلك، ولكن الكلام هنا بحسب ما يناسب المقام.وعلى هذا فجميع من ينتسب إلى السلفية يعترف بهذه المنهجية ، ويلتزمها ولا يقدم غيرها عليها ويرى أن المنهج السلفي هو امتداد لمنهج الصحابة ، بل الصحابة هم أصله ورأسه ، وهذا بخلاف من ظن أن منهج الصحابة انقطع ، وانتهى بانتهاء ذلك الزمان المبارك، وهو القرون الثلاثة الأولى .

الأمر الثاني: لماذا العودة إلى هذا الكتاب –أعني كتاب السلفية للبوطي- بعد أكثر من عشرين سنة على تأليفه ؟

والجواب : أن العودة إلى مثل هذا الكتاب مهمة أمور :

 - أن التأثر بهذا الكتاب مازال حاضراً وموجودا ، وخصوصاً مع ارتفاع صوت الهجوم على المنهج السلفي والطعن فيه ، وادعاء أنه لا يوجد ما يميز المنهج السلفي عن غيره ، وهذا الدعوى مضمنة في كلام البوطي ، وإن كان يذهب الى أبعد من هذا فهو يلغي أن يكون هناك منهج سلفي له أصوله وقواعده امتداداً لأصول الصحابة رضي الله عنهم وطريقة فهمهم .

- ما يحمله هذا الكتاب من تقرير منهج يخالف منهج السلف، وهو المنهج الكلامي كما سيأتي.

- مكانة المؤلف عند أتباعه وشدة أثره عليهم و على غيرهم .

   وبعد هذين الأمرين نرجع إلى ذكر أهم الأمور المنهجية المنتقدة في هذا الكتاب ، مع بيان وجه الخطأ فيها باختصار :

 

الوقفة الأولى :- عنوان الكتاب ومقصد تأليفه .

يتضح من عنوان الكتاب أن السلفية عند المؤلف محصورة في زمنها لا تتجاوزه إلى غيره، بمعنى أنها لا تخرج عن كونها وقتاً من الأوقات وزماناً من الأزمنة فهي ذلك الزمان الذي وجد فيه الصحابة ومن تبعهم ، أي زمن القرون الثلاثة الأولى (الصحابة والتابعون وتابعو التابعين) ، وما في ذلك الزمان من خير وبركة ، فالسلفية عند البوطي لا تتجاوز هذا المعنى ، أما أن يكون لذلك الجيل منهج واضح المعالم والأصول، ولهذا المنهج امتداد زماني ، وله أتباع يسيرون على طريقته ، فهذا ما ينكره البوطي ، ويسخر وقته وجهده وقلمه لإبطاله ورده .

    يقول في ذلك : ( ومع ذلك كله ، فإنا نقول : إن كل ما ذكرناه هنا تلخيص إجمالي للبرهان على أن السلفية لا تعني ، على كل حال ، إلا مرحلة زمنية مرت ، قصارى ما في الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفها بالخيرية ، كما وصف كل عصر آت من بعد بأنه خير من الذي يليه ، فإن قصدت بها جماعة إسلامية ذات منهج معين خاص بها يتمسك به ليصبح بذلك منتسباً إليها منضوياً تحت لوائها ،فتلك إذن إحدى البدع المستحدثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم )([1]) .

وهذا المنهج الذي هو امتداد لمنهج الصحابة رضي الله عنهم هو ما سماه المؤلف (السلفية) وأدار بحوث الكتاب على ردها ونقدها ، يقول : (ولكن الهدف الذي تدور عليه بحوث هذا الكتاب إنما هو التنبيه إلى أن استحداث مذهب يتألف من مجموعة اجتهادات ، وآراء معينة في أصول الدين وأحكامه ، واختراع اسم له لا عهد للسلف الصالح به ،كاسم ( السلفية )،

     ثم التمسك به والدعوة إليه على أنه هو لا غيره مظهر الدين الحق ، وعنوان العقيدة الصحيحة .... أقول : إن الهدف الذي أدرت بحوث هذا الكتاب كلها عليه،  إنما هو التنبيه إلى أن ابتداع هذا المذهب القائم على ما قد وصفت هو في الحقيقة من أسوأ البدع وأشنعها، ومن أهم ما قد يجر على المسلمين أنواع الفتن والشرور)([2]).

هذا بالنسبة لعنوان الكتاب ، أما بالنسبة  لمقصود المؤلف من تأليف كتابه هذا، فإن من يقرأ هذا الكتاب يظهر له بجلاء ووضوح ، أن المؤلف في كتابه هذا حرص على أمرين اثنين :-

1-إبطال المنهج السلفي ، وذلك بتقرير بدعية السلفية والتحذير منها، وتقزيمها ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ولذلك حرص كثيرا على تقرير أن السلفية إنما هي حزب واحد ، يتضمن اجتهادات وآراء خاصة ، وليست منهجا له أصوله وقواعده .

2-إحلال المنهج الكلامي ، واعتباره هو منهج فهم النصوص ، وذلك بتقرير أصوله وقواعده  وهو هنا ينتقد المنهج الأصيل ويفرض المنهج البديل ، إنها عملية إزاحة للمنهج السلفي في مقابل المنهج الكلامي ، وما فعله هنا وفي بعض كتبه الأخرى ككتاب ( كبرى اليقينيات الكونية ) ، وكتاب ( الإنسان مسير أم مخير) إنما هو انتصار للمنهج الكلامي (الأشعري) ، في مقابل رد المنهج السلفي .

 

       الوقفة الثانية : مفهوم السلفية عند البوطي .

      أولا : ينظر المؤلف إلى السلفية على أنها حزب تبنى بعض الآراء الاجتهادية  واتخذها دينا، ولم ينظر إليها على أنها (منهج تكاملت دلائله ومسائله) كما هو الواقع، وكما تقوله الحقيقة العلمية  ولو نظر المؤلف إلى كتب السلف في الإعتقاد لعلم حقيقة هذا القول ، ولما ادعى أنها مجرد آراء اجتهادية ، فكتب السلف مليئة بما يدل على حقيقة منهجهم ، وسلامة طريقتهم وإحكامها، ولهذا كان منهجهم سالماً من الإضطراب والتناقض الذي حصل في منهج المتكلمين ، يقول في ذلك : ( فإن من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة ( السلف ) فنصوغ منها مصطلحا جديدا ، طارئا على تاريخ الشريعة الإسلامية ، والفكر الإسلامي ، ألا وهو (السلفية) فنجعله عنوانا مميزا تندرج تحته فئة معينة من المسلمين ، تتخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده، مفهوما معينا، وتعتمد فيه على فلسفة متميزة ، بحيث تغدو هذه الفئة بموجب ذلك جماعة إسلامية جديدة في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة ، والمتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر، تمتاز عن بقية المسلمين بأفكارها وميولاتها ،بل تختلف عنهم حتى بمزاجها النفسي ،  ومقاييسها الأخلاقية ، كما هو الواقع اليوم فعلا. بل إنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا : إن اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها ، بدعة طارئة في الدين ، لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأمة ، ولا الخلف الملتزم بنهجه)([3]) .

ويقول في تقرير حقيقة السلفية: (لقد اتضح إذن ، أخي القارئ ، بما لا يدع مجالا للريب ،أن(السلفية ) : مذهب جديد مخترع في الدين ، وأن بنيانه المتميز قد كونه أصحابه من طائفة من الآراء الاجتهادية في الأفكار الإعتقادية والأحكام السلوكية ، انتقوها وجمعوها من مجموع آراء اجتهادية كثيرة مختلفة ، قال بها كثير من علماء السلف ، وخيرة أهل السنة والجماعة  اعتمادا على ما اقتضته أمزجتهم وميولاتهم الخاصة بهم ، ثم حكموا بأن هذا البنيان الذي أقاموه من هذه الآراء المختارة من قبلهم ، وبناء على أمزجتهم وميولاتهم ، هو دون غيره البنيان الذي يضم الجماعة الاسلامية الناجية والسائرة على هدي الكتاب والسنة ، وكل من تحول عنه إلى آراء واجتهادات أخرى فهم مبتدعون تائهون )([4]) .إذن فالمذهب السلفي عنده لا يخرج عن كونه آراء وأفكارا بنيت على  الميولات الخاصة والأمزجة ، سواء كان في باب الاعتقاد أو في باب الأحكام .

  والسلفي عنده ( كل من تمسك بقائمة من الآراء الاجتهادية المعينة ، ودافع عنها ، وسفه الخارجين عليها ونسبهم إلى الابتداع ، سواء منها ما يتعلق بالأمور الإعتقادية أو الأحكام الفقهية والسلوكية)([5]).

   ويقول عن السلفيين عموما : (وإذا تأملت في معظم الآراء والأفكار التي يعرف بها (السلفيون) أنفسهم ، ويضللون أو يفسقون المخالفين لهم فيها، أو في بعضها ، رأيت أنها مجموعة اجتهادات وآراء خلافية ، اختلفت اتجاهات الأئمة والعلماء من قبلهم فيها ، ثم مروا بها وتجاوزوها وقد أعذر المختلفون بعضهم بعضا في شأنها . ولن تجد شيئا من هذه المسائل قد أعطيت سبيلا واحدا في الرأي والاجتهاد لتجر من ورائها ذيولا من التفسيق والتضليل والتبديع لمن رجح فيها رأيا آخر إلا في ظل نشأة ( السلفية ) هذه)([6]) ، والمؤلف هنا لم يفرق بين مسائل الإجماع التي كان قول العلماء فيها قولا واحدا إلى أن نشأت البدع وظهرت ، ومنها مسائل أصول الدين ، وبين مسائل الخلاف التي لا يضلل فيها المخالف .

    ثانيا : لم ينطلق المؤلف في نظره إلى السلفية من التفريق بين التأصيل المنهجي الذي يقوم عليه مذهب السلف وبين تطبيقات الأفراد ، فالمنهج لا يمكن أن يدخل عليه الخطأ أو يحصل فيه ، بينما تطبيقات الأفراد يحصل فيها الخطأ ويأتي عليها القصور والخلل ، ولكن يبدو أن ما حصل للمؤلف من ردة فعل ضد بعض أفعال أفراد المنهج جعله يتجه إلى تضخيم بعض الأفعال ، وإبرازها على أنها هي السمة الأبرز والأظهر فيما يدعي هو على السلفية ، وهذا على أقل أحواله ، وإن كان في تقريراته لا يسلم بصحة المنهج السلفي أصلا فضلا عن أن يفرق بين المنهج وتطبيقات أفراده .

        ثالثا : المؤلف أيضا نظر الى السلفية على أنها مرحلة منقطعة ليس لها امتداد  تاريخي ولم ينظر

         إليها على أنها أصل منهجي له امتداده وله اتباعه ، وهو بهذا يقطع الأمة عن الاتصال بأفضل

جيل وهم الصحابة رضي الله عنهم ، والخطير في ذلك هو القطع والفصل المنهجي بين القرون الثلاثة الأولى ، وبين من بعدهم ثم يبنى على ذلك ربط الأمة بالمدرسة الكلامية ، وخاصة المدرسة الأشعرية التي يدعي المؤلف كما يدعي غيره أنها تمثل مذهب أهل السنة والجماعة ، وأنه لم يقع فيها تأثر بالفلسفة والأقوال الباطلة كما تأثرت المدرسة الاعتزالية .

   

الوقفة الثالثة : حكمه على السلفية

المؤلف يحكم على السلفية بأنها بدعة مخترعة  في الدين ، بل من أشد البدع وأشنعها وهو يحذر منها أشد التحذير لما قد تجره على الأمة من الشرور والفتن ، وفي حكمه على السلفية اتجه إلى ثلاثة أمور :

    الأول : الحكم على السلفية بأنها بدعة كما تقدم ، فهي بدعة مستحدثة مخترعة لم تعرف في العصور الأولى للإسلام ، يقول في ذلك :( فإن العصور الثلاثة المباركة الأولى في صدر الإسلام ، لم تشهد ظهور مذهب في قلب الأمة الإسلامية ، اسمه المذهب السلفي أو مذهب السلف ، له مقوماته ومميزاته التي تفصله عن سائر المسلمين ، وتجعل لهم مرتبة يتبؤونها في العلو والشرف من دون سائر الذين لم يكن لهم شرف الانتماء إلى هذا المذهب )([7]) ،

 ويقول : ( قد ثبت إذن أن  التمذهب بالسلفية الذي يحتل في تصور كثير من الناس اليوم محل ذلك الميزان الجامع ، لم يكن معروفاً لدى أهل السنة والجماعة من السلف الصالح في القرون الثلاثة المباركة الأولى ، ولم يكن هذا الانضواء تحت شعاره ليخطر منهم على بال ...... ولقد أصغينا طويلا ، ونقبنا كثيراً ، فلم نسمع بهذا المذهب في أي من عصور الإسلام الغابرة ، ولم يأت من يحدثنا بأن المسلمين في عصر ما قد انقسموا إلى فئة تسمي نفسها (السلفية )، وتحدد شخصيتها المذهبية هذه بآراء محددة تنادي بها، وأخلاقية معينة تصطبغ بها ، وإلى فئة أخرى تسمى من وجهة نظر الأولى : بدعية أو ضلالية أو خلفية أو نحو ذلك )([8]) .

  وقرر بصراحة أن التمذهب بالسلفية بدعة لم تكن من قبل ([9]) ، ثم قال :(وأما إذا عرف المسلم نفسه بأنه ينتمي إلى ذلك المذهب الذي يسمي اليوم بالسلفية  ، فلا ريب أنه مبتدع )([10]) . ثم يقول عن تمسكهم بمنهجهم : ( أفليس هذا التحكم المبتدع الذي لم يأذن به قرآن ولا سنة ، ولا سابقة له في أي من عهود السلف أو الخلف ، من أشنع مظاهر البدع الدخيلة على الدين ؟ ولعمري ، لئن لم يكن كله ابتداعا في الدين ،فما هو المعنى المتبقي للبدعة إذن ، وفي  أي مثال أو مظهر يبرز ويتجسد؟ )([11])، هكذا عند المؤلف وبهذا الحكم الجازم الذي لا ريب فيه : أن السلفية بدعة ، وأن تمسكها بمنهجها ، والتزامها بطريقتها من أشنع مظاهر البدع .

الثاني : الحكم على أكثر أتباع السلفية بالتجني والأنانية والعصبية والانتصار للذات،  يقول في ذلك : (ومن السهل عليك أن تدرك السبب الخفي في حصر (السلفية ) الحق في وجهة نظرهم وحدها ، وما دل عليه اجتهادهم دون من سواهم ، إذا علمت مدى ما يفعله التلاقي تحت شعار مذهبي مبتدع كهذا ، من تهييج لروح العصبية ، واستثارة لمشاعر الأنانية الجماعية وإيقاظ للرغبة في الانتصار للذات ، دون أي التفات إلى ما تقتضيه موازين العدالة، والموضوعية ، وإلى أن الأصول الإسلامية ، ومناهج النظر ، والاجتهاد فيها هي – لا أصول المذهب السلفي – الحَكَم ، والمرجع للمسلمين جميعا فيما يجب أن يتفقوا عليه ،وفيما لهم أن يختلفوا فيه)([12]) .

 ثم يتهمهم أيضا بضيق العقل والأفق ، فيقول : (والمعصية الفادحة أن معظم هؤلاء الإخوة الذين يميزون أنفسهم عن عامة المسلمين بشارة السلفية ، لا يقرؤون .. ولا يحركون عقولهم وأفكارهم إلا في دائرة الفكر(السلفي) التي حصروا أنفسهم ، وعقولهم فيها ..لذا فهم في غفلة تامة عما يفعله المبطلون من ورائهم ، وعن استغلالهم لأفكارهم وشعاراتهم المبتدعة ، والانطلاق منها إلى تشويه الحقائق الإسلامية ، وإبراز التاريخ الإسلامي ضمن الإطار الذي يرغبون)([13]) ، هكذا في حكم عام على معظم أتباع المنهج السلفي فأين العدل والإنصاف ؟ وسبحان الله فمواقفه اليوم تبين من هو الذي استغله المبطلون، وامتطوا أفكاره وشعاراته ، شعر أو لم يشعر ، وليت المؤلف على أقل حال احترم خصومه وجعل النقاش علميا بعيدا عن هذه التهم والافتراءات .

 الثالث : استغلال أعداء الإسلام للتيار السلفي ودخولهم من جهته ، حتى أصبح هذا التيار مدخلا للعابثين والمفسدين الذين يريدون هدم الدين ، وللمبطلين الذين يريدون تغيير التاريخ والحقائق ،يقول :(فإن هذه الجماعة – بما استحدثته من هذا  الذي ذكرناه – ساهمت مساهمة فعالة في تكوين موجبات اللبس ، وفي تمكين المبطلين والعابثين بالحقائق والتاريخ ، من مد غاشية من الأوهام الداكنة على تاريخ الفكر بل التشريع الإسلامي ، أمام أعين البسطاء والسذج من الناس على أقل التقدير)([14]) ، هكذا يصور المؤلف الأمر على هذا النحو من التسطيح والمبالغة في عبارات التوصيف والتخويف والتحذير ، وكأن التيار السلفي كان جسرا لكل عابث ومفسد ، مع أن التاريخ والواقع يشهدان على أن التيار السلفي أبعد ما يكون عن استغلال العابثين والمفسدين ، وأن التيارات الأخرى هي من استغلت سواء كان ذلك الاستغلال من الجهة العلمية أو من الجهة العملية ، وتقارير المؤسسات الغربية اليوم تكشف أكثر ذلك وتذكره .

   

 

الوقفة الرابعة :- انتصاره للمنهج الكلامي

وذلك بتقريره أن أصل الاستدلال على أصول الدين يرجع إلى العقل ، فالمؤلف لا يخرج في منهجه وطريقة استدلاله عن طريقة المتكلمين ومنهجهم، فهو يقرر أن ما جاء في نصوص الكتاب والسنة يجب عرضه على موازين العقل والمنطق قبل الأخذ به ، وهو بهذا يجعل الأخذ بما في الكتاب والسنة مشروط بقبول العقل له، فالعقل هنا هو أصل في قبول ما جاء في الكتاب والسنة وهو الحاكم عليهما،  وهذا كما هو معلوم راجح إلى ما فرضه المتكلمون من إمكان التعارض بين العقل والنقل ، وما بنوه عليه من تقديم العقل على النقل .

 فالمؤلف عندما تكلم عن حال الصحابة رضي الله عنهم وطريقتهم وخاصة بعد توسع الفتوحات، واختلاطهم بالمجتمعات الأخرى ، ودخول جملة من المستجدات عليهم ، ذكر أن الصحابة لم يكن لديهم المقياس والمعيار الذي يحدد لهم كيفية التعامل مع تلك المستجدات ، يقول في ذلك :( صحيح أن تلك العوامل أدت الى خروج الصحابة من نطاق حياتهم الخاصة المتميزة التي فتحوا أعينهم من داخلها على الإسلام ومبادئه وساحوا، تحت وطأة ظروف لا قبل لهم بالإحاطة بها أو السيطرة عليها ،في حياة جديدة ذات آفاق أوسع ، غير أن المشكلة التي واجهتهم أنهم نظروا فوجدوها آفاقاً بعيدة لا تستبين لها معالم ولا حدود ، وليس في يدهم من وراء النصوص : نصوص كل من القران والسنة ، مقياس يحددون به معالم تلك الحياة ،بحيث يقيمون على أساسه ضوابط للسير فيه ، أو حدوداً للوقوف عندها ، فكان ذلك مبعث اضطراب وقلق ، وخلافات حادة ، بل سبباً في ظهور فرق وفئات شتى، اتخذت من تلك البيداء الواسعة طرائق متخالفة بل متخاصمة، وكان لابدّ لهذه المشكلة أن تستمر بينهم الى حين)([15]) ، وهذا من غرائبه فإن المقياس والمعيار إذا لم يكن موجودا في الكتاب والسنة فأين يوجد ؟ وإذا لم يؤخذ منهما فمن أين يؤخذ ؟ وإذا لم يكن الصحابة رضي الله عنهم هم أعلم الناس بالمقياس والمعيار الذي تعامل به المستجدات فمن سيعلمه بعدهم ؟ وفي الحقيقة فإن طريقته في بيان منهج الصحابة كانت مضطربة جدا ، وفيها غموض وإشكال ، فهو من جهة يعلم مكانة الصحابة في الأمة ولا يريد أن يتجاوزهم ، ومن جهة أخرى سيطر عليه منهج المتكلمين ، ويريد أن يقرره منهجا للأمة لكنه لم يجد له أصلا في كلام الصحابة رضي الله عنهم ، فاضطرب وتناقض في توصيف طريقة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم .

   ولهذا بعد أن لخص حال الصحابة المتقدم وموقفهم ، وما حصل من تفرق واضطراب بعد ذلك  لعدم وجود المقياس والمعيار الذي يتعامل به مع المستجدات ، جاء لذكر هذا المقياس ، وهذا القانون الذي لابد منه ، يقول : (إن الإنسان لكي يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً، لابد أن يجتاز المراحل الثلاث التالية :

    المرحلة الأولى : التأكيد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، قرآنا ([16]) كانت هذه النصوص أم حديثا ، بحيث ينتهي إلى يقين بأنها موصولة النسب إليه  وليست متقولة عليه .

    المرحلة الثانية : الوقوف بدقة على ما تتضمنه وتعنيه تلك النصوص منها بحيث يطمئن إلى ما تعنيه تلك النصوص ويقصده صاحب تلك النصوص منها) ، ولو وقف المؤلف عند هذا لكفاه في تقرير الأصل الذي ينبغي أن يسير عليه كل مسلم من لزوم الكتاب والسنة علما وفهما وعملا ، خاصة وأن المؤلف قيد ذلك بالوقوف على معاني النصوصلف قيد ذلك بالوقوف على المعاني بدقة الأصل الذي ينبغي أن يسير عليه كل مسلم من لزوم الكتاب والسنة علما وفهما وعملا , خاصة وأن ا بدقة وهذا ما يوصل إلى الاطمئنان ومعرفة مقصد صاحب النص ، ولكنه لم يقف عند ذلك بل قال بعد ذلك :( المرحلة الثالثة : عرض حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها ، على موازين المنطق والعقل ( ونعني بالمنطق هنا قواعد الدراية والمعرفة عموماً) لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها)([17])، وهنا يأتي تقرير منهج المتكلمين بوضوح عند المؤلف ، فلابد من العرض على العقل ، ولابد من معرفة حكم العقل ، ولكن هل يمكن بعد الوقوف على معنى النص بوضوح ودقة وبعد الوصول إلى المعنى الذي هو مراد صاحب النص ومقصده؟ ، هل يمكن بعد ذلك أن يقع التعارض مع العقل حتى نتطلب في ذلك حكم العقل ؟ هذا الأمر المتوهم لا يكون إلا على طرائق الفلاسفة والمتكلمين ، أما السلف الذين هم على طريقة الصحابة فلم يقع لهم هذا التوهم ، ويرون أن قضية التعارض بين العقل والنقل دعوى لا حقيقة لها بين العقل الصحيح والنقل الصريح ، ولهذا منعوا مقدمة إمكان التعارض بين العقل والنقل من أصلها .

  ثم إن المؤلف جاء ليبين الميزان العقلي الذي يريد من أهل الإسلام أن يحاكموا النقل إليه ، ومن خلاله يتم تمحيص دلالات النصوص ، وهذا الميزان العقلي يتكون : (من مجموعة موازين منطقية وعقلية مجردة ، أخذت من تتبع سير العقل الإنساني في طريق المعرفة ، ومحاكمته للفرضيات والإدعاءت التي قد تطرح أمامه ، وبما أن العقل هو الأداة الوحيدة التي يملكها الإنسان لدى السعي إلى المعرفة ، فقد كانت هذه الموازين التي يتعامل العقل بها ، هي المنهج الوحيد إلى تمحيص الفرضيات والإدعاءات العلمية )([18])، هكذا يقرر بوضوح حقيقة هذا العقل الذي يجب أن نحاكم النصوص إليه ، بل هذا هو المنهج الوحيد الذي لا يمكن أن نصل إلى الحقيقة العلمية إلا من خلاله، والعجب هنا في هذا الحصر ،ثم في حقيقة هذا العقل ، ثم في الثقة المفرطة في هذا العقل ، وأيضا في تغييب أصالة النقل : طريقا يوصل إلى الحقائق ومنهجا تستبين به الأمور .

 ثم يأتي المؤلف ليؤكد أن هذا هو الميزان الوحيد :( الذي يبصر المسلم بكيفية التمسك بدينه سواء فيما يتعلق بأموره الاعتقادية أو أحكامه السلوكية )([19]) . ويقول : ( وهو الميزان الوحيد الذي يكشف عن التزام المسلم واستقامته على سنن الهداية والرشد ، كما يكشف عن زغل أصحاب الأهواء وانحرافهم عن سنن الصراط المستقيم ، وذلك بقطع النظر عن العصر الذي عاش فيه هؤلاء وأولئك . فمن التزم بمقتضى هذا  الميزان ، فهو متبع كتاب الله متقيد بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،  سواء أكان يعيش في عصر السلف أو جاء من بعدهم . ومن لم يلتزم بمقتضاه ، فهو متنكب عن كتاب الله تائه عن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وإن كان من الرعيل الأول، ولم يكن يفارق مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم)([20]) ، هكذا وبكل جرأة حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستثنون من لزوم هذا المنهج ، والذي يقرأ هذا الكلام لا يدري ، هل يعلق عليه من جهة تناقضه المنهجي ، أم من جهة خطئه العلمي ، أم من جهة موقفه السلوكي من مكانة الصحابة العلمية ؟ وخاصة قوله : ( ولم يكن يفارق مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ) !!!! ، إذاً حتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لابد لهم من هذا المنهج ، وإلا تنكبوا عن الصراط المستقيم ، وخرجوا عن المنهج القويم ، وهذا من أشد تناقضات المؤلف في كتابه هذا ، فكيف يكون أصحاب المنهج متنكبون عن المنهج ؟ وعلى كل حال فهذا من سطوة المنهج الكلامي الذي أوصل صاحبه إلى إرادة فرضه حتى على من سبقه ، بل على الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم .

  والمؤلف أيضا لا يكتفي به منهجا بحثيا ، بل يرتب عليه أنه المنهج (الوحيد) أيضا في تصنيف الناس والحكم عليهم ، يقول : ( هذا المنهج هو الميزان والمقياس الوحيد لتصنيف الناس في مجال البحث عن هوياتهم الإعتقادية والسلوكية ،في أي عصر من العصور عاشوا ، ومن أي القبائل أو الشعوب انحدروا ، وهو المحور الذي أدرنا عليه سائر بحوث هذا الكتاب)([21]).

 

الوقفة الخامسة :- موقفه من أخبار الآحاد.

بعد أن سار المؤلف على التقسيم المشهور للسنة النبوية ، من كونها تنقسم إلى متواتر وآحاد، وأكد أن القسم الأول وهو المتواتر مقبول مطلقاً ولا يمكن للعقل إلا أن يقبله، رجع إلى القسم الثاني وهو الآحاد وقرر أن هذا القسم ، وإن كان يسمي صحيحاً إلا أنه يقبل على جهة الترجيح لا الجزم ، لاحتمال وقوع الخطأ فيه ، وهذا الاحتمال راجح إلى التجويز العقلي فالعقل يجوز وقوع الخطأ في أحاديث الآحاد ولهذا لا يمكن الجزم بها، والمؤلف لا يفرق بين التجويز العقلي من جهة احتمال وقوع الخطأ ، ووقوع الخطأ في نفس الأمر، فالمحدثون الذين أسسوا أصول علم الحديث ومنهجه ، لم يغفلوا هذا الجانب ،وهو وجود مثل هذه الاحتمالات ولهذا اشترطوا اتصال السند ، والعدالة ، والضبط ، وانتفاء الشذوذ ، وانتفاء العلة ، ليثبتوا انتفاء مثل هذه الأوهام ، والاحتمالات العقلية .

   هذا هو الأمر الأول الذي قرره المؤلف وهو قبول خبر الآحاد على جهة الترجيح لا الجزم يقول في ذلك : (وهذا القسم الثاني من الأخبار يسمى صحيحا ، وموقف العقل الإنساني منه هو الاطمئنان إليه ، والوثوق به على سبيل الترجيح لا الجزم ، فإن العقل يظل يجيز احتمال أن يكون قد تسلل إلى الخبر شائبة وهم من جهة نسيان ، أو خطأ ، أو ذهول من بعض رواته ، ومهما كان هذا الاحتمال بعيدا نظرا لتوفر شروط الصحة فيه ، فإنه يظل احتمالا واردا ولا ينحسم معنى الإمكان فيه ليصبح مستحيلا ، ومن هنا فإن الخبر الصحيح ، من شأنه أن يقف عند أعلى درجة الظن ، دون أن يعلو فوقه إلى درجة الجزم والقطع هذا بقطع النظر عن آحاد الناس ، فإنك قد لا تعدم فيهم من يثق به وثوقا شخصيا ،يرقى به درجة الجزم واليقين غير أن هؤلاء الآحاد لا يكونون مقياساً لغيرهم .وإنما المقياس موقف العقل في معناه الكلي المتجسد في استقراء عقول الناس وموقفها من هذا النوع ، هو الترجيح والظن القوي)([22])، والملاحظ هنا حصر المقياس في حكم العقل ، فالعقل هنا هو الذي يعطي النص حكم القطعية أو الظن ، وهو لا يعطي خبر الآحاد أكثر من الترجيح والظن ، وهكذا فأكثر سنة النبي صلى الله عليه وسلم إنما تفيدنا ظنا راجحا في نظر المؤلف وهذا أيضا من أثر المنهج الكلامي عليه .

  ثم إن المؤلف لم يكتف بهذا بل بنى عليه أن خبر الآحاد لا تقوم به حجة ملزمة في أبواب الاعتقاد ، فالمكلف لا يلزمه اعتقاد ما دلت عليه أخبار الآحاد، ولا يكون تركه اعتقاد ما دلت عليه هذه الأخبار قادحاً في إيمانه وإسلامه، يقول في ذلك : (هذا القسم الثاني: لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق الاعتقاد ، بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون خبر صحيح لم يرق إلى درجة التواتر ، وبقي في حدود رواية الآحاد ، بل يسعه أن لا يجزم به ، دون أن يخدش ذلك في سلامة إيمانه وإسلامه ، وإن كان ذلك قد يخدش في عدالته ويستوجب فسقه)([23]) ، وهذا أيضا من آثار طريقة المتكلمين ، فإن جمهور المتكلمين لا يحتجون بأخبار الآحاد على مسائل أصول الدين لزعمهم أنها لا تفيد اليقين بل تفيد الظن ، والمؤلف متابع لهم على أصل منهجهم في ذلك .

   وخلاصة موقف المؤلف من أحاديث السنة ، أن المؤثر في قبول الأخبار أو ردها عنده هو العقل،  فالعقل يقبل المتواتر من غير تردد بل لا يجوز له أن يطعن فيه ، وهذا كله من الناحية النظرية فقط ، والعقل أيضا يقبل  أخبار الآحاد على جهة الترجيح ولا يستطيع أن يجزم بها ، فالعقل هو المصدر والعقل هو الحاكم .

 

الوقفة السادسة :- موقفه من ابن تيمية .

الدخول عن طريق ابن تيمية رحمه الله لنقد المنهج السلفي أصبحت طريقة لبعض المعاصرين المخالفين لمنهج السلف ، وذلك بالتشكيك في منهجه والحرص على تخطئته على اعتبار أنه علم من أعلام السلف المتأخرين ، وهذا له أثره على أتباع المنهج السلفي ، فإذا استطاعوا التشكيك في منهج ابن تيمية ، وبيان تناقضه –بزعمهم- سهل عليهم بعد ذلك التأثير على غيره من أتباع المنهج السلفي ، وهذه الطريقة يلحظها الناظر في كتابات المخالفين للمنهج السلفي وحواراتهم ، وهي البدء بابن تيمية ، وليتهم بدأوا بغيره ، أو دخلوا من غير طريقه كما يقال .

  والمؤلف هنا نص على أنه وقف مع ابن تيمية لتأثيره على أتباع السلفية ، ولهذا لابد من حواره والوقوف معه ([24]) .

 ولكن هذا الحوار خرج عن مساره ابتداء باتهام ابن تيمية رحمه الله ، فقد اتهمه بالتناقض والاضطراب ، وأنه إنما علق على كلام ابن حزم في مسألة تسلسل الحوادث لتخطئته ، وأنه أراد أيضا أن يتلذذ بنقد العلماء وأنه يمارس سعادة في ذلك ، وهو الذي يكفر خصومه لأدنى المواقف الاجتهادية ([25]) ، إلى غير ذلك من التهم التي جمعها لابن تيمية ، ومع ذلك هو يحسن الظن في ابن تيمية !!!!

  وهذا الهجوم على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يستغرب منه ولا من غيره من أتباع المنهج الكلامي ،  ذلك أن ابن تيمية رحمه الله هو الذي أبطل علم الكلام، وأنكر على أصحابه ، وأبطل أصول منهجهم ، وطريقة استدلالهم التي عادت على دلالات النصوص بالنقض والإبطال ، وأضعف الاستدلال بها عند كثير من المتكلمين وأتباعهم .

  ثم إن المؤلف بعد هذه التهم التي وجهها إلى ابن تيمية ، ذكر عدة مسائل ليناقش فيها ابن تيمية ، وقبل ذكر بعض هذه المسائل ، لابد أن يؤكد على أن المؤلف انطلق في نقاشه لهذه المسائل من منهجه الكلامي ، ومما قرره أئمة علم الكلام في ذلك .

  المسألة الأولى : قول ابن تيمية  بإمكان حوادث لا أول لها ، ورده على المتكلمين الذين منعوا ذلك ، وابن تيمية رحمه الله دخل إلى هذه المسألة من جهتين :

  الأولى : من جهة النصوص الشرعية ، والآثار عن السلف والأئمة .

  الثانية : من جهة الأدلة العقلية الدالة على هذا القول عنده.

فدخوله فيها كان دخول العالم المحقق الذي يريد أن يصل إلى الحق بأدلته الصحيحة،  وبأدواته الصحيحة ، ولكن المؤلف يصور هذا على شكل آخر ، فهو يقرر أن ابن تيمية إنما أراد أن يخطئ ابن حزم ، ويظهره في صورة المخطئ المتسرع عندما نقل الإجماع (على أن الله خالق كل شيء غيره  ، وأنه لم يزل وحده ولاشيء غيره معه) ،

 وأن ابن تيمية إنما يتلذذ بممارسة طبيعته النقدية للعلماء ، فالبوطي بدلاً من أن يحرر المسألة ، ويتكلم كلاماً علمياً في ذلك ، أخذ يتهم ابن تيمية لتبنيه القول بإمكان حوادث لا أول لها ، وانتصاره لذلك ، وتقريره أن هذا هو منهج السلف.

  المسألة الثانية : مسألة السببية ، وتقريره أن ابن تيمية جنح لمذهب الفلاسفة في ذلك ، مع أن ابن تيمية رد على الفلاسفة وعلى الأشاعرة في ذلك ولكن المؤلف أراد أن ينتصر لمذهب الأشاعرة في ذلك فاتهم ابن تيمية بالجنوح إلى مذهب الفلاسفة ، وكأنه لا يوجد إلا قول الأشاعرة أو قول الفلاسفة ، حسب تقرير المؤلف ، فمن لم يأخذ بمذهب الأشاعرة الذين هم أهل السنة عنده ، فهو آخذ بمذهب الفلاسفة القائلين بالطبع والاستقلال الذاتي للسبب من كل وجه .

   المسألة الثالثة : اتهامه لابن تيمية بالتناقض ، فهو ينقد علم الكلام وهو غارق في علم الكلام، وهو هنا لم يفرق –أو لم يرد أن يفرق- بين مشروعية الرد على المتكلمين وتحليل مصطلحاتهم ونقضها وإبطالها ، وهو ما فعله ابن تيمية ، وبين تبني علم الكلام واتخاذه منهجا، وهو ما منعه ابن تيمية ، فالمؤلف يصور أن كل نقاش للمتكلمين هو أخذ بعلم الكلام ، ومن هنا أيضا لم يفهم المؤلف موقف السلف من علم الكلام .

   المسألة الرابعة : لم يفرق المؤلف بين المنطق الذي نقده ابن تيمية ، وألف في رده وإبطاله ، وبين استعمال ابن تيمية للأدلة العقلية الصحيحة التي هي مشروعة الاستعمال لكل أحد ، فنقد ابن تيمية للمنطق لم يتوجه للقضايا الصحيحة فيه ، والتي ليست من خصائصه أصلا، بل توجه إلى القضايا الباطلة فيه ، وما بني عليها في باب الإلهيات وأصول الدين .

هذا باختصار بعض موقفه من ابن تيمية ، وإن كان هذا الموقف يحتاج إلى بحث خاص ،   وذلك أن المؤلف عنده أزمة حقيقية من ابن تيمية .

 

خاتمة : وفيها : أهم نتائج البحث :

         أولا : أن المؤلف يحصر السلفية بمرحلة زمنية لا تتجاوزها ، ويبني على هذا أن السلف ليس لهم امتداد منهجي وأتباع يسيرون على طريقهم .

 ثانيا : غموض موقف المؤلف في تقريره لمنهج الصحابة رضي الله عنهم .

      ثالثا : أن المؤلف يحكم جازما أن التمذهب بالسلفية أو الانتماء إليها بدعة بل من أشد البدع في التاريخ الإسلامي .

         رابعا : أن المؤلف انطلق في محاكمة السلفية وأتباعها من المنهج الكلامي الذي يتبناه، ويرجع إليه .

خامسا: ظهر من خلال هذا الكتاب أن المؤلف أراد أن يقرر للناس أن المنهج الكلامي هو المنهج الحق الذي يجب اتباعه .

سادسا: أن الأصل الذي ينطلق منه المؤلف في قبول دلالات النصوص أو ردها هو العقل، فالعقل هو الميزان الذي توزن به النصوص عنده ، وعلى هذا بنى موقفه من أخبار الآحاد .

سابعا: موقف المؤلف من أتباع السلفية لم يكن في كثير من المواطن موقفا علميا صرفا بل ظهر فيه تضخيم الأخطاء وتوجيه التهم وإرادة الإسقاط .

 

وأخيرا فإن المؤلف هداه الله ورده إلى الصواب ختم كتابه بقوله : ( ترى هل يستجيب لهذا الحق، أولئك الإخوة الذين يظلون يحذرون من البدع وينشدون الحق ويدعون الناس إلى الحق ولكنهم يتيهون ، ويا للأسف  في غمار عصبيتهم وانتصارهم للذات عن الحق وجادته ، وينحطون في كثير من البدع التي يحذرون منها ؟ )([26]) ، وأقول هل يا ترى يراجع الشيخ البوطي كثيرا من أقواله التي سطرها في كتبه ونشرها بين الناس ؟ وهل يا ترى يقف الشيخ في صف المظلومين ضد من ظلمهم ، وبطش بهم وسلب حقوقهم ؟ وهل يتفطن الشيخ لمن يستغله ويستغل أقواله من الطغاة الظالمين وغيرهم ، أسأل الله جل وعلا ذلك ، وأسأله أن يرد الشيخ البوطي إلى الحق، وأن يحسن له الخاتمة .

      والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .



([1]) ص 23 .

([2]) ص 253 – 254 .

([3]) ص 13 .

([4]) ص 241 .

([5]) ص 237 .

([6]) ص 256 .

([7]) ص 223 .

([8]) ص 230 .

([9]) ص 236 .

([10]) ص 236 .

([11]) ص 241 - 242 .

([12]) ص 256 – 257 . والمؤلف بعد هذا الهجوم على أتباع المنهج السلفي , جاء ودافع باستماتة عن محمد علوي مالكي , يقول بعد كلامه السابق :( وبوسعك أن ترى تجسد هذه الحقيقة التي أوضحتها لك , في هذه العبارة التي وردت في كتاب لواحد من أقطاب السلفية , شن فيه حملة شنيعة شعواء من التكفير والتضليل , لمسلم مثله من أهل السنة والجماعة لم يقرأ الناس في تآليفه وكتاباته , ولم يروا من واقع حاله , إلا ما يزيدهم ثقة باستقامة دينه , وصلاح حاله , وسلامة عقيدته) , وهذا ليس بمستغرب فالعقيدة هي العقيدة والمنهج هو المنهج فلابد من الدفاع والتزكية ولو على حساب الحقيقة العلمية .

([13]) ص 250 .

([14]) ص 250 , وهذا مثل ما يقال اليوم من أن التيار المحافظ كان جسرا للعلمانية , وسببا من أسباب حضورها في المشهد السعودي اليوم .

([15]) ص 45 .

([16]) وهذه غريبة !! فلا يوجد من أهل العلم من يقول بمراجعة صحة النص القرآني , ولعلها سبق قلم .

([17]) ص 63 .

([18]) ص 64 .

([19]) ص 79 .

([20]) ص 79 .

([21]) ص 98 .

([22]) ص 66 .

([23]) ص 66 .

([24]) ص 158 و 161 .

([25]) ص 166 .

([26]) ص 259 .


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...