مراجعة نقدية لكتاب (مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة) لمؤلفه الدكتور عبد الإله بن حسين العرفج


قام بالمراجعة القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية

بإشراف الشيخ علوي بن عبدالقادر السقاف

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: أما بعد..

فقد كتب كثيرون قديمًا وحديثًا عن البدعة ومعناها، ومن هذه الكتب كتاب (مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة) لمؤلفه الدكتور عبد الإله بن حسين العرفج ، بذل فيه جهدًا كبيرًا، وجمع الشواهد والأمثلة وأقوال المعاصرين، ليدلل على أنه ليس كل بدعة ضلالة، وأن البدع تنقسم إلى خمسة أقسام: واجب ومستحب وجائز ومكروه ومحرم.

والكتاب وإن كان عن مفهوم البدعة إلا أن من قرأه يظهر له جليًّا أن مقصود مؤلفه منه هو إثبات أن الاحتفال بالمولد النبوي ليس بدعة ضلالة، بل بدعة حسنة، فقد ورد ذكره في الكتاب في أكثر من ثلاثين موضعًا.

والجديد في الكتاب هو الأمثلة والشواهد التي حصرها، وأقوال المعاصرين التي جمعها ممن يصفهم بالمضيقين لمعنى البدعة، والتي ضرب بعضها ببعض، مما أشكل واشتبه على كثيرين.

وقد قام فضيلة الشيخ علوي بن عبدالقادر السقاف المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية بالرد عليه مستعرضًا فصول الكتاب فصلًا فصلًا، مع تعليقات يسيرة على بعضها، وإطالة في التعليق على فصول أخرى هي لب الموضوع والجديد فيه، وقد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية باختصار هذا الرد في هذه الورقات ، ومن أراد التفصيل فعليه بأصل هذا المختصر.

 

في الفصل الأول من كتاب (مفهوم البدعة) وهو بعنوان (مقدمة في كمال الدينحذَّر المؤلف من الابتداع في الدين، وذكر الإجماع على عدم خلو نازلة عن حكم الله تعالى.

في الفصل الثاني: وهو بعنوان: (أنواع النوازل المستجدات وكيفية التعامل معها)، ذكر ثلاثة أنواع، يهمنا منها النوع الثالث، وهو: (مستجدات دينية ابتدعها وأحدثها بعض المسلمين مستحسنين لها)، وضرب أمثلة لها؛ ومنها: التزام دروس الوعظ يوميًّا في رمضان بعد العصر أو بين ركعات صلاة القيام، ومنها: تأخير أذان العشاء في رمضان بعد المغرب بساعتين، والمهرجانات الشعبية والتراثية، وإحداث تغييرات في هيئة المساجد في المحراب، وتقصير الصفوف من الجانبين، ورسم خطوط على فرش المسجد لتسوية الصفوف، وتثبيت مسند خلف الصف الأول...، إلى غير ذلك.

ومن تأمل هذه الأمثلة وجد أنها خارجة عن موضوع البدعة ومفهومها؛ فقد خلط المؤلف بين المحدثات التي يقصد بها التعبد لله، وبين الوسائل والمحدثات الدنيوية كالمهرجانات وغيرها، لكنه حشدها ليستدل بها على اختلاف مناهج العلماء فيها، وسبب ذلك عنده هو عدم تحرير معنى البدعة لديهم.

في الفصل الثالث: وهو (معنى البدعة في اللغة والشرع): بعد ذكر التعريف اللغوي والشرعي؛ ذكر أن من العلماء من ذمَّ جميع البدع، وهم على حد تسميته (المضيقون لمعنى البدعة)، ومنهم من ذمَّ بعضها ومدح بعضها، وهم أكثر العلماء على حد تعبيره، وهم (الموسعون لمعنى البدعة)، وأن الخلاف بين الفريقين خلاف حقيقي، وذكر مذهبًا ثالثًا لا يختلف كثيرًا عن مذهب الموسعين.

ثم سرد نصوص الموسعين، وبلغوا سبعة عشر عالمًا، وذكر نصوص المضيقين لمعنى البدعة، ولم يذكر إلا نصوص أربعة فقط، وأكثرهم من المتأخرين.

وصنيعه هذا قد يوهم أن جُلَّ العلماء من الموسعين لمعنى البدعة، بالإضافة إلى أن بعض من ذكرهم في الموسعين لم ينقل عنهم نصًّا صريحًا بتقسيم البدعة إلى خمسة أقسام؛ كابن رجب وابن كثير وابن حجر؛ فعدهم من الموسعين لمعنى البدعة فيه نظر.

وكذلك فإن البدعة من حيث معناها اللغوي منها الحسن ومنها السيئ وهذا ما عليه عامة العلماء، ومن حيث معناها الشرعي فلم يُنقل عن أحد من المتقدمين القول بهذا التقسيم، وكلهم متفقون على أنَّ كل بدعة ضلالة، وأول من قال بهذا التقسيم هو العز ابن عبد السلام.

وممن صرَّح بأن (كل بدعة ضلالة): ابن عمر وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وابن تيمية وابن رجب وابن حجر وإبراهيم بن محمد الحلبي الحنفي وابن حجر الهيتمي ومحمد عبد الحي اللكنوي ومحمد رشيد رضا ومحمد عبد السلام الشقيري ومحمد خليل هراس وغيرهم. وتجد أقوالهم في أصل هذا المختصر .

وتحت مطلب بعنوان: (فهم الموسعين لمعنى البدعة للأحاديث الواردة فيها)، ذكر ثلاثة أحاديث أطال الكلام عن الحديث الثالث منها، وهو حديث جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( من سن في الإسلام سنة حسنة...)).

وقد قَصَر المؤلف فهم المضيقين لمعنى هذا الحديث على معنى واحد فقط، وهو إحياء السنن المهجورة، وهذا غير صحيح، وقد ردَّ القائلون بأن كل بدعة ضلالة على هذه الشبهة من خمسة أوجه:

الوجه الأول: أن أحاديث ذم البدع كثيرة جدًّا كحديث (كل بدعة ضلالة) وغيره، وهي أحاديث عامة وتتعارض تعارضًا قطعيًّا مع حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه المذكور آنفا، فالقول بأن حديث جرير يخصص أحاديث ذم البدع غير صحيح.

الوجه الثاني: أنه ليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية وذلك لأن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة بدليل ما في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

الوجه الثالث: أن معنى (سَنَّ سُنَّة) أي: أحيا سُنَّة مهجورة، وهذا له نظائر كثيرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الرابع: أنَّ ما كان وسيلة لأمر مشروع مثل بناء المدارس وطبع الكتب فهذا لا يتعبد بذاته، ولكن لأنه وسيلة لغيره، دخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم (من سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها).

الوجه الخامس: التحسين والتقبيح للأعمال وإن كانا يُدركان بالعقل، إلا أنه لا يترتب على ذلك الإدراك حكم شرعي، إذ الحكم الشرعي منوط بالشرع وليس بالعقل، وهذا هو مذهب السلف، فالحكم على سُنَّة أنها حسنة يُثاب فاعلها، أو سيِّئة قبيحة يُعاقب عليها، لا يُعرف إلا بالشرع، وإذا ثبتت بالشرع انتفى القول أنها بدعة حسنة وأصبحت سُنَّة مشروعة.

وفي الفصل الرابع: وهو (حكم الترك وأنواعه) اضطرب المؤلف في تحرير رأي المضيقين لمعنى البدعة في فهم الترك، فهو يقرر أن المضيقين لمعنى البدعة يعتقدون أن الترك يقتضي التحريم، فما أن يروا أمرًا جديدًا له ارتباط بالدين إلا ويسارعون إلى الحكم بتحريمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ومن ثم فإنه بدعة ضلالة، وهذا الكلام ليس صحيحاً بهذا الإطلاق، ولا أحد يقول به، بل رأي المضيقين أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من العبادات مع كون موجبه قائماً ومانعه منتفيًا، ففعله بدعة، ولو طبقت هذه القاعدة على صلاة الرغائب أو الاحتفال بالمولد النبوي أو غيرهما لوجدت أن الحكم واحد.

وفي الفصل الخامس: وهو (هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيما أحدثه الصحابة رضي الله عنهم)، وهو من أهم فصول الكتاب، ذكر فيه عددًا من الأمثلة يثبت فيها أن بعض الصحابة رضي الله عنهم أحدثوا عبادات أقرَّهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: إحداث بلال ركعتين بعد الوضوء، وإحداث خبيب بن عدي ركعتين قبل قتله، وقراءة أحد الأنصار سورة الإخلاص مع سورة أخرى في كل ركعة وغيرها من الأمثلة، وأورد أمثلة أخرى في إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة أفعالًا أحدثوها، وانتهى المؤلف إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل من الصحابة ما أحدثوه، إن كان من أفعال الخير ومن جنس المشروع، ولم تتصادم مع نص شرعي، ولم يترتب عليها مفسدة، ولم تكن منافية أو مخالفة لهديه، ويَرُدُّ ما سوى ذلك، والجواب عن ذلك:

1- أن هذا كان في زمن التشريع، وقبل اكتمال الدين؛ فكان الصحابة يجتهد الواحد منهم؛ فإن أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم أصبح فعله بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم سنة مستحبة، وإن أنكر عليه أصبح فعله غير مشروع، حتى نزل قول الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. [المائدة : 3]، ولم يثبت أن أحدًا من الصحابة أحدث أمرًا من عند نفسه بعد نزول هذه الآية.

2- أن الصحابة بشر قد يصيب الواحد منهم وقد يخطئ، وفعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحجة حتى يقرَّه عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

3- أنه على مذهب القائلين بحجية إقرار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في زمن النبوة، فلا إشكال ولا شبهة حينئذ.

4- أن فعل الصحابة في زمن النبوة كانوا يرجعون فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فما أقرَّه فعلوه، وما أنكره تركوه؛ فإلى من يرجع اليوم من أحدث في عبادة؟

5-  أن الصحابة بلغوا منزلة من العلم والإيمان ومعرفة أحكام الشريعة والقدرة على الاجتهاد فيها لم يبلغها غيرهم، فكيف يسوي بينهم وبين غيرهم في ذلك؟

الفصل السادس: وهو (هدي الصحابة رضي الله عنهم في المحدثات بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد ذكر فيه المؤلف أحد عشر مثالًا على ذلك؛ كجمع أبي بكر للقرآن، وجمع عمر الناس جماعة على إمام واحد في رمضان، وزيادة عثمان الأذان قبل دخول وقت الجمعة، وزيادة ألفاظ يسيرة في صيغة التلبية المشهورة، إلى غير ذلك...

والجواب عما ذكره لا يخرج عن أحد حالات أربع وهي:

1- إما أنها لا تصح سندًا.

2- أو هي وسيلة وليست عبادة بذاتها.

3- أو هي مما لم يكن مقتضاه وموجبه موجوداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4- أو هي من الأذكار والنوافل المطلقة التي لم يقل ببدعيتها أحد.

وتجد الجواب عن جميع الأمثلة التي ذكرها تفصيلًا في أصل هذا المختصر.

ثم بعد ذلك أفرد المؤلف مبحثًا بعنوان: (إنكار الصحابة بعض المحدثات بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ليخلص إلى أن الصحابة كانوا يميزون بين المحدثات الحسنة والمحدثات السيئة، والحقيقة أنه ليس هناك مثال واحد يؤيد أن صحابيًّا واحدًا أحدث أمرًا تعبديًّا بعد وفاة الرسول أو أقرَّ عليه، كما سبق، بل ذكر في هذا المبحث ما يدل على إنكارهم لمن أحدث عبادة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر أربعة أمثلة فقط في إنكار الصحابة للمحدثات، تجد زيادة عليها عشرة أمثلة أخرى في أصل هذا المختصر.

الفصل السابع: (التوقيف في العبادات والقياس عليها). وفي هذا الفصل خلط المؤلف بين العبادات المحضة والتي يقصد منها التقرب إلى الله، وبين الأحكام على المسائل الخلافية التي أجاز الفقهاء القياس فيها، ومن هذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف الاستجمار بالمناديل قياسًا على الحجارة، والتسبيع، إلى غير ذلك.

الفصل الثامن: وهو (نماذج من اختلاف السلف في الحكم التطبيقي للبدعة)، وأورد فيه المؤلف ستًّا وثلاثين مسألة اختلف السلف في الحكم عليها؛ فمنهم من عدَّ بعضها بدعة، ومنهم من لم يعدَّها كذلك، وقد أجهد المؤلف نفسه فيما لا طائل تحته ذلك؛ لأن الحكم بالبدعة من الأمور الاجتهادية كالحكم بالكراهة والتحريم وغيرهما؛ فلا ضير أن نجد من السلف من يحكم على مسألة ما بأنها بدعة في حين أن هناك من لا يرى أنها بدعة.

كذلك فإن تبديع القول أو الفعل لا يستلزم تبديع قائله أو فاعله، والمؤلف لم يفرق بين الحكم على الشيء بالبدعة وتبديع فاعله.

وفي الفصل التاسع: (نماذج لاختلاف المضيقين لمعنى البدعة في حكم بعض المحدثات)، وهذا الفصل يمثل أهم فصول الكتاب لدى المؤلف؛ فقد استغرق أكثر من ثلث الكتاب (والثلث كثير)، والذي يريده المؤلف من هذا الفصل هو إقناع القارئ بأن تقسيم البدعة إلى الأقسام الخمسة يفسر اختلاف العلماء في الحكم على بدعية مسألة ما، أما تضييقهم لمعنى البدعة وأنها كلها ضلالة فليس فيه مسوغ لاختلافهم في الحكم، لذا فقد جمع عددًا من الأمثلة التي اختلف فيها المضيقون لمعنى البدعة؛ ما بين قائل ببدعيتها وقائل بجوازها.

وسرد المؤلف المسائل التي اختلف فيها العلماء الذين يصفهم بالمضيقين لمعنى البدعة كابن باز والألباني وابن عثيمين والفوزان وابن جبرين، وبلغ عدد المسائل التي أوردها عشرين مسألة، ومنها: إقامة مجلس العزاء لثلاثة أيام ــ عَشاء الوالدين ــ تخصيص يوم الجمعة لزيارة القبور ــ اتخاذ المسبحة للتسبيح والذكر ــ تكرار العمرة في رمضان ــ دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح أو صلاة القيام في رمضان ــ بدء المحافل الخطابية بقراءة القرآن الكريم ــ التمايل أثناء قراءة القرآن ــ احتفالات حفاظ القرآن الكريم ــ تقبيل المصحف الشريف.. إلخ.

وقد فصل المؤلف في هذه المسائل وأطال فيها. وزيادة في حرصه على إظهار التباين في أحكام العلماء في هذه المسائل أنشأ جدولًا من ثلاثة أعمدة فيه المسألة وحكمها والقائل به؛ حتى يظهر الخلاف بين العلماء في الحكم عليها، وكيف خالف ابن باز ابن عثيمين، وابن عثيمين الألباني، والألباني ابن باز، وهكذا ليصل في النهاية إلى أن هذا يؤدي إلى تبديع بعضهم بعضًا، فمن حكم بالبدعية على مسألة ما فإنه يلزم منه تبديع من يُجوِّزها على كلام المؤلف، وسبق التنبيه على أن هناك فرقًا بين الحكم على مسألة ما بالبدعة، والحكم على من عملها بأنه مبتدع، ثم هل علمتم أن أحدًا من هؤلاء العلماء بدَّع مخالفيه في هذه المسائل . وللعلم فإن جميع الأمثلة التي ذكرها هي من المسائل الفقهية التي اختلف فيها العلماء قديمًا وحديثًا، المضيقون لمعنى البدعة والموسعون، وسبق أن الحكم على الفعل بأنه بدعة هو حكم فقهي كالحكم بالتحريم أو الاستحباب وغيرهما قد يخطئ العالم فيه وقد يصيب.

كذلك فإن المؤلف قد غلط في عدم التفريق بين الخلاف في التأصيل والخلاف في التنزيل، فجُلُّ العلماء الذين ذكرهم تأصيلهم وتقعيدهم واحد، وإن اختلفوا في تنزيل وتطبيق بعض القواعد على بعض المسائل.

ثم إن هؤلاء العلماء الذين ذكر اختلافهم قد اتفقوا على عشرات المسائل غير ما ذكر، فهل يوافقهم على ما اتفقوا على بدعيته، خصوصًا وقد وصفهم بسعة العلم واتباع السنة، وتجد الإجابة عن إحدى عشرة مسألة في أصل هذا المختصر، وهي تتضمن الإجابة عن بقية المسائل لتشابهها معها.

وأيضًا: فقول بعض العلماء ببدعية مسائل قال بمشروعيتها علماء آخرون مما تطفح به كتب الفقه، ولم نر أحدًا عاب على أحد منهم طالما أن الكل مجتهد ويدور مع الدليل، والمؤلف نفسه بدَّع صلاة الرغائب، وقد قال باستحسانها علماء كبار كابن الصلاح والغزالي، وقد ذكرت في أصل هذا المختصر طائفة من المسائل التي قال ببدعيتها بعض العلماء وخالفهم فيها آخرون، وكلهم من أتباع المذاهب الأربعة.

الفصل العاشر: وهو (مقارنة بين ثلاث محدثات مستجدات : المولد النبوي ــ وصلاة القيام ــ وعشاء الوالدين).

وفي هذا الفصل قارن المؤلف بين هذه المسائل الثلاث، ووضعها في جدول ليبرهن على أنه لا فرق بينها، وأن من أجاز واحدة منها يلزمه أن يجيز الباقي، بل زاد على ذلك بأن المنع من الاجتماع لصلاة القيام في رمضان أولى.

ويجاب عن ذلك بالآتي:

أولًا: أن صلاة القيام لها أصل، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها الصحابة من بعده، أما تقسيمها قسمين أو ثلاثة، وفي أول الليل أو وسطه أو آخره؛ فهذه حسب ظروف الناس وأحوالهم.

ثانيًا: عَشاء الوالدين الذي أجازه العلماء هو التَّصدُّق عنهما، وهذا له أصل في الشرع، وليس مجرد الذبح كما يوهم كلام المؤلف.

ثالثًا: أن الاحتفال بالمولد النبوي ليس له أصل في الشرع، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة بعد موته، بخلاف صلاة القيام.

ومن العجب قول المؤلف: (ولو أردت التفريق في الحكم بين تلك المحدثات الثلاث، لكان الأولى بالجواز عندي الاحتفال بالمولد النبوي)، يعني الاحتفال بالمولد النبوي عنده أولى بالجواز من صلاة التراويح، ويبدو أنه فات الدكتور أن الإجماع منعقد على مشروعية صلاة التراويح (القيام) بخلاف الاحتفال بالمولد النبوي، فكيف يكون المختلَف فيه أولى بالجواز من المجمَع على مشروعيته؟

رابعًا: أن قول المؤلف: (وقد استقر عند المحتفلين بالمولد أو كثير منهم أن مجرد الاحتفال بالمولد النبوي عادة وليس عبادة). مغالطة منه ــ غفر الله له ــ فكيف يقال لاجتماع فيه قراءة للقرآن وذكر لله ودعاء وتذكير بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وشمائله، يُتقرَّب بها إلى الله عز وجل أنه عادة وليس عبادة، فما هي العبادة إذًا؟

الفصل الحادي عشر: (صفات البدعة المذمومة في الشرع) وقد ذكر المؤلف تسع صفات تتصف بها البدعة المذمومة بواحد منها أو أكثر، ومن هذه الصفات:

- (اعتقاد فضيلة شرعية في وصف أو هيئة معينة بدون دليل صحيح، سواء اقترن اعتقادها بأداء العبادات المشروعة كالصوم المقترن بالقيام في الشمس، أو الصلاة في لباس معين ، أو لم يقترن بعبادة شرعية كالصمت في يوم معين)

ـ (كل محدثة لا يشهد لها دليل معتبر في الشرع نصًّا أو دلالةً، تفصيلًا أو تأصيلًا، تصريحًا أو تلميحًا، أما إذا اندرجت تحت دليل صحيح نصًّا أو إجمالًا فهي سنة حسنة). انتهى كلامه.

ولو أردنا أن نطبق هاتين القاعدتين على الاحتفال بالمولد النبوي لوجدنا أنه بهيئة معينة، وبدون دليل صحيح أو ضعيف، ولا يشهد له دليل معتبر في الشرع، لا نصًّا ولا دلالةً، ولا تفصيلًا ولا تأصيلًا، ولا تصريحًا ولا تلميحًا، فهل سينصف المؤلف ويقول ببدعيته.

 

وقفات مع المؤلف

هذه وقفات مع بعض المسائل التي تطرق لها المؤلف، وبعض العبارات والكلمات التي أوردها:

الوقفة الأولى: دعوته للرفق مع المخالف ومخالفته لذلك:

دعا الدكتور- جزاه الله خيرًا- العلماء وطلاب العلم إلى الرفق واللين والتسامح مع المخالف، وعدم استخدام العبارات التي قد تسيء لأحد، وأن هذا مما يميز كتابه حيث وصفه في (ص25) بـ(خلوه من كلمات نابية أو مسيئة لأحد، أو مِساس بالأشخاص)

وعاب بعض الكتب التي كتبت في الموضوع، وتحدث عن تكرار مضمونها لما سبق، ثم قال (ص19): (هذا من حيث المضمون، أما الأسلوب فقد امتلأ بعضها بالصراخ والعويل، والسباب والشتائم، والاستهزاء وسوء الظن)

ودعا في أكثر من موضع إلى عدم التشنج وردود الأفعال عند الرد، وحاول الالتزام بما طالب به، لكنه مع ذلك وقع فيما حذَّر منه، كما في (ص90) (ص23) (ص28) (ص29) (ص272) (ص343) (ص346).

  

الوقفة الثانية: كتاب (مفهوم البدعة) والمولد النبوي:

ظهر في ثنايا هذا الكتاب أن هدف المؤلف من كتاب (مفهوم البدعة) إثبات مشروعية المولد النبوي، فلا توجد مسألة في هذا الكتاب كرَّرها كما كرَّر الحديث عن المولد النبوي، وانظر (ص21)  (ص29)  (ص331) (ص333) (ص339) (ص340) (ص359) (ص362) (ص364).

الوقفة الثالثة: حجية قول وفعل الصحابة رضي الله عنهم

أكثرَ المؤلف من الاستشهاد بأفعال بعض الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ورغم أنني أوضحت أنه لم يستطع إثبات وقوع بدعة واحدة من فعل الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنَّه ينبغي أن يقرر أن مقام الصحابة له شأن آخر، وقول الصحابي وفعله إذا لم يُخالَف من صحابي آخر حجة عند الجمهور، بل ذكر بعض العلماء أنه إجماع التابعين، وتجد في أصل هذا المختصر نتفًا من أقوال الصحابة والتابعين والعلماء عن مكانتهم وعلو كعبهم، وحجية أقوالهم وأفعالهم، ومنها قول العلائي: (إن التابعين أجمعوا على اتباع الصحابة فيما ورد عنهم، والأخذ بقولهم، والفتيا به، من غير نكير من أحد. .... ومن أمعن النظر في كتب الآثار وجد التابعين لا يختلفون في الرجوع إلى أقوال الصحابي فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ولا إجماع، ثم هذا مشهور- أيضًا- في كل عصر لا يخلو عنه مستدلٌّ بها، أو ذاكرٌ لأقوالهم في كتبه)

فإذا كان هذا حال الصحابة وهذه منزلتهم أيصح أن يأتي أحدٌ اليوم، ويزعم أنهم أحدثوا محدثات وابتدعوا بدعًا حسنة! ويستدل به على جواز الإحداث والابتداع في الدين، بدعوى أنها من البدع الحسنة؟!.

 

 

الخاتمة

وبعد هذه القراءة الهادئة لكتاب (مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة) يمكن أن تستخلص النتائج التالية:

1- أنَّ البدعة من حيث معناها اللغوي منها الحسن ومنها السيئ، وعليه عامة العلماء، ومن حيث معناها الشرعي فلم يُنقل عن أحد من المتقدمين أنه قال بتقسيمها إلى الأحكام الخمسة، وكلهم متفقون على أنَّ (كلَّ بدعة ضلالة).

2- أول من قال بهذا التقسيم هو العز بن عبد السلام من أعيان القرن السابع، وتبعه بعض الفقهاء على ذلك، وقد ذكرت عددًا من  الصحابة والعلماء المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين كلهم يقول: (كلُّ بدعة ضلالة).

3- أنَّ كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة، والمحافظة على السنة أولى من الاجتماع على البدعة، والحفاظ على رسم الدين وأصله مقدَّم على الاجتماع على الباطل.

4- التحسين والتقبيح للأعمال وإن كانا يُدركان بالعقل، إلا أنه لا يترتب على ذلك الإدراك حكم شرعي؛ إذ الحكم الشرعي منوط بالشرع وليس بالعقل، وهذا هو مذهب السلف، فالحكم على سُنَّة أنها حسنة يُثاب فاعلها، أو سيِّئة يُعاقب عليها، لا يُعرف إلا بالشرع، وإذا ثبتت بالشرع انتفى القول أنها بدعة حسنة وأصبحت سُنَّة مشروعة.

5- الصواب في مسألة الترك أن نقول: (ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من العبادات مع وجود مقتضاها وانتفاء مانعها، وتَرَكَه الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم من السلف الصالح، ففعله بدعة ضلالة).

6- الراجح من أقوال العلماء في حجية قول الصحابي: أن قوله الذي لا يعلم له مخالف من الصحابة؛ حجة، ولا يصح وصفه بالبدعة.

7- الحكم على الفعل بالبدعة لا يستلزم منه أن يكون فاعله مبتدعًا، فقد يكون جاهلاً أو متأولاً، إلا إذا أصرَّ عليها بعد قيام الحجة.

8- الحكم بالبدعة من الأمور التي يجتهد فيها العالم أو الفقيه، كالحكم بالكراهة والتحريم وغيرهما، فلا ضير أن نجد من السلف من يحكم على مسألة ما بأنها بدعة في حين أن هناك من لا يرى بدعيَّتَها.

9- الحكم على الشيء بأنه بدعة لا يكون في الأمور الاجتهادية التي لا دليل عليها؛ أمَّا المسائل التي فيها خلافٌ بين العلماء فلا حرج في الحكم على بعضها بالبدعة.

10- أكثر المسائل التي أوردها المؤلف ليثبت بها اضطراب فتاوى العلماء المعاصرين المضيِّقين لمعنى البدعة -كما سمَّاهم- هي من أمور العادة الدنيوية، وليست من أمور العبادة الدينية.

11- قَصَرَ المؤلف فهم المضيِّقين لمعنى البدعة لحديث: (من سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة) على معنى واحدٍ فقط وهو إحياء السُّنَّة المهجورة، وتقدم التدليل على عدم صحته من خمسة أوجه.

12- ليس هناك مثالٌ واحدٌ مما أورده المؤلف يؤيد ما ذهب إليه من أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يميزون بين المحدثات الحسنة والمحدثات السيئة، وأنهم أحدثوا أموراً تعبديَّة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. 


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...