إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات . 13 أكتوبر, 2022, 4:36 AM
إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات
بسم الله الرحمن الرحيم
المحكمات هي الصراط الواضح البين الذي لا يتيه ولا يضيع من اهتدى به كما أخبر الله تعالى بأنهن أم الكتاب، فهي بينات وبراهين واضحة لا تتغير ولا تتبدل ولا لبس فيها ولا ضلالة([1])؛ ولذا كان لزامًا على المسلم الأخذ بالمحكمات ورد كل ما اشتبه من الأمور إليها.
فما هي المحكمات؟ وما أهم سماتها؟
ما عكس المحكمات؟
هل هذا المصطلح مصطلح قرآني؟
هل كان السلف يعتنون بالمحكمات؟
1. الإتقان، ومنه قولهم: "أحكمت الشيء فصار محكمًا"([2]).
2. الموثَّق، ومنه قولهم: "احتكم الأمر واستحكم وثُق"([3]).
3. المنع من الفساد، ومنه قول النخعي: "حكم اليتيم كما تحكم ولدك، أي: امنعه من الفساد وأصلحه كما تصلح ولدك وكما تمنعه من الفساد"([4]).
4. الإرجاع عن الشيء، ومنه قولهم: "حكم فلان عن الأمر والشيء أي رجع، وأحكمته أنا أي رجعته"([5]).
5. الواضح البين الذي ليس فيه اختلاف ولا اضطراب، ومنه سمي القرآن بالذكر الحكيم([6]).
وأما المحكم في اصطلاح العلماء ففيه خلاف طويل مسرود في مظانه لسنا في صدد البحث فيه([7])، ومن تأمل في أقوال العلماء وجد أن للمعاني اللغوية الآنفة الذكر ظلالًا على المعنى الاصطلاحي، فمرد أقوال العلماء إلى معنيين رئيسيين هما:
1. الثابت المحفوظ الذي لا يطرأ عليه تبديل أو تغيير، وهو ما يستلزم الإتقان والتوثيق بطبيعة الحال.
2. الواضح البين.
ونجد هذين المعنيين حاضرًا في نصوص العلماء الذي ناقشوا هذه القضية، فممن بين اجتماع هذين المعنيين في المحكم الإمام السرخسي حيث قال: "المحكم ممتنع من احتمال التأويل ومن أن يرد عليه النسخ والتبديل ولهذا سمى الله تعالى المحكمات أم الكتاب أي الأصل الذي يكون المرجع إليه"([8]).
وأبرز بعضهم المعنى الأول كما في قول المفسرين أمثال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما وقتادة والربيع والضحاك حيث ذكروا أن المحكمات هن: "الناسخات أو المثبتاتُ الأحكامَ"([9]).
وممن نص على المعنى الثاني الإمام الطبري: "ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره"([10])، والإمام الشاطبي رحمه الله حيث قال في معنى المحكم: "البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره"([11]).
وقال الجويني رحمه الله: "والمختار عندنا أن المحكم: كل ما علم معناه وأدرك فحواه"([12]).
وعبّر عنه ابن كثير رحمه الله بقوله: "أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس"([13]).
وكذلك قول الإمام الشوكاني رحمه الله: "الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره"([14]).
وبهذا تظهر العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي هنا كما نص عليه ابن عطية حيث قال: "واستعمل الإحكام في الإتقان والتوثيق لأن ذلك يمنع تطرق ما يضاد المقصود...
وأطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة؛ لأن في وضوح الدلالة منعا لتطرق الاحتمالات الموجبة للتردد في المراد.
وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى على طريقة الاستعارة؛ لأن تطرق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعين أحد الاحتمالات"([15]).
وبهذا يتبين لنا معنى المتشابه الذي هو عكس المحكم، فهو "الذي لا يتبين المراد به من لفظه، كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا"([16]).
وهذا الأصل أصل قرآني عظيم معروف، فقد أمر الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران بالتشبث بالمحكم ورد الأمور إليه الله والدعوة إليه والالتفاف حوله خاصة عند خوف الفتن وخوف الزيغ والضلال بالمتشابهات، فحينئذ يتحتم رد المتشابهات إلى المحكمات، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
فالرسوخ والثبات والنجاة باتباع المحكم ورد المتشابه إليه فإن المحكم هو أم الكتاب الذي إليه المرجع والمآب والاعتماد، وأما الزائغون الضالون فهم يتبعون المتشابه من النصوص ويتركون المحكم، إذ إن "المحكمات قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك...، وهن أصل الكتاب الذي عليه عمادُك وعماد أمتك في الدّين، ففيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم، وإليه مفزعُك ومفزعهم"([17]).
هذا الأصل القرآني العظيم كان منهاجًا للسلف ونبراسًا لهم في العبادات والمعاملات، وعاصمًا لهم من الفتن والمضلات، وما أجلى وأظهر ذلك في كلام الإمام أحمد رحمه الله حيث بين في وقت الفتنة بخلق القرآن أن أهم سمة لأهل الحق والهدى ولأهل السنة والجماعة هو تمسكهم بالمحكمات وتعلمهم وتعليمهم لها ونشرها وبثها والدعوة إليها تبصيرًا للناس وإبرازًا للحق وحفاظًا على العامة من سبل الزائغين ومكائد الكائدين على عكس حال أهل البدع والضلالات فإنهم ينشرون في الناس المتشابهات ويبثون الشبهات، قال رحمه الله: "أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى...، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم"([18]).
ومن قبل ذلك نجد من السلف من يرد الناس إلى المحكم ويدعوهم إلى ترك المتشابه والإعراض عنه لما فيه من التلبيس والتشويش على الحق، فحين سئل الإمام الزبيدي رحمه الله عن الجبر نزَّه الله سبحانه وتعالى عن أن ينسب إليه مثل هذه الألفاظ المشتبهة المضللة ورد الناس إلى المحكم المبيَّن في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث لم يرد فيهما الجبر وإنما ورد فيهما الخلق والجبل والقضاء والقدر، وقال: "أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده علي ما أحب"([19]).
وأصرح من ذلك قول الإمام الأوزاعي رحمه الله لما سئل عن الجبر: "ما أعرف للجبر أصلًا في القرآن ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، وإنما وضعت هذا مخالفة أن يرتاب رجل تابعي من أهل الجماعة والتصديق"([20]).
فعلى الرغم من أن هذا المصطلح قد يقصد به معنى صحيحًا إلا أن الإمام الأوزاعي منع منه؛ لأنه لا أصل له في المحكمات من الوحي، ولأنه من المتشابهات التي يمكن أن تفضي إلى إطلاق لفظ ملبس ويقصد به معنى مبتدعًا باطلًا.
المحكمات هي ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره فهي بينة واضحة ناصعة، وهي أصول الدين العظام التي لا تتبدل ولا تتغير مهما تغير الحال وتغير الزمان والمكان؛ ولذا أوصى القرآن بالتشبث بها وعني السلف بالتمسك بها ورد المتشابهات إليها، وقمن بطالب الحق والهدى اتباع المحكمات وتعلمها وتعليمها ونشرها وبثها والابتعاد عن المتشابهات ودفنها في منابتها.
1. الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة: 1394هـ/ 1974م.
2. أصول السرخسي، الإمام السرخسي، الناشر: دار المعرفة – بيروت.
3. البرهان في أصول الفقه، للجويني، المحقق: صلاح بن محمد بن عويضة، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى 1418 هـ - 1997م.
4. البرهان في علوم القرآن، للزركشي، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه، الطبعة: الأولى، 1376 هـ - 1957 م
5. التحرير والتنوير، لابن عاشور ، الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس، سنة النشر: 1984هـ.
6. التدمرية، ابن تيمية (728) رحمه الله، المحقق: د. محمد بن عودة السعوي، الناشر: مكتبة العبيكان – الرياض، الطبعة: السادسة 1421هـ / 2000م.
7. التعريفات، للجرجاني، المحقق: ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت -لبنان، الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م.
8. تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، المحقق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع ، الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999م.
9. تهذيب اللغة، للأزهري، المحقق: محمد عوض مرعب، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى، 2001م.
10. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م.
11. درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثانية، 1411 هـ - 1991 م.
12. الرد على الجهمية والزنادقة، الإمام أحمد، المحقق: صبري بن سلامة شاهين، الناشر: دار الثبات للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى.
13. الصحاح، للجوهري ، تحقيق: أحمد عبدالغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 هـ - 1987 م.
14. الطبعة: الأولى، 1413هـ - 1993م.
15. فتح القدير، للشوكاني، الناشر: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى - 1414هـ.
16. القاموس المحيط، للفيروزآبادى، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف: محمد نعيم العرقسُوسي، الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة: الثامنة، 1426 هـ - 2005م.
17. لسان العرب، لابن منظور، الناشر: دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414هـ.
18. المحكمات في الشريعة الإسلامية وأثرها في وحدة الأمة وحفظ المجتمع، عابد السفياني، الناشر: المجلة العربية للدراسات الأمنية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية – المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1419هـ.
19. المستصفى، للغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، الناشر: دار الكتب العلمية
20. المستصفى، للغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1413هـ - 1993م.
21. الموافقات، للشاطبي، المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.
([6]) ينظر: لسان العرب (12/ 144)، تهذيب اللغة (4/ 69 وما بعدها)، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (5/ 1902 وما بعدها)، القاموس المحيط (ص: 1095).
([7]) ينظر: جامع البيان (6/ 170)، تفسير ابن كثير (2/ 6)، التحرير والتنوير (3/ 154)، أصول السرخسي (1/ 165)، التعريفات للجرجاني (ص: 205)، الموافقات (3/ 305)، الإتقان في علوم القرآن (3/ 3)، البرهان في علوم القرآن (2/ 68)، التدمرية (ص: 105)، المحكمات في الشريعة الإسلامية وأثرها في وحدة الأمة وحفظ المجتمع، عابد السفياني (ص:19 وما بعدها).
([14]) فتح القدير للشوكاني (1/ 360)، وقد ذكر بعض العلماء كالشاطبي وابن تيمية أن المحكم له معنى خاص وعام و"الإحكام الخاص ضد التشابه الخاص.
فالتشابه الخاص هو: مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله وليس كذلك، والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما...، وأما الإحكام العام الذي هو الإتقان "فالقرآن كله محكم بهذا المعنى، وأما التشابه العام الذي هو تماثل الكلام وتناسبه وتصديق بعضه بعضًا فالقرآن كله متشابه بهذا المعنى.." التدمرية (ص: 102 وما بعدها).