مقاصد المحكمات


                         إعداد الفريق العلمي لبرنامج محكمات

                                          بسم الله الرحمن الرحيم

 

أخي القارئ: دعني أضع بين يديك سؤالاً في غاية الأهمية لماذا شرع الله كتابه الكريم على غاية من الوضوح، ولماذا بين الله تعلى أحكامه وشرائعه وأوضحها وجعلها في غاية والوضوح والإحكام؟

عادة يتجاهل الناس هذا السؤال ويقفزون إلى موضع آخر يسألون عنه، لماذا يقع الاختلاف بين العلم، ولماذا وضع الله سنة الخلاف بين الناس؟

وهذا السؤال حري أن يجاب عنه، وتكلم فيه جمع من أهل العلم في بيان فقه الخلاف وأسبابه، لكن كما جعل الله من سننه الكونية والشرعية سنة الخلاف، أيضا ثمة سنة ومعنى يغفل عنه كثير من الناس، أن أصول التشريع جاءت واضحة بينة محكمة، وهذا البيان والوضوح إنما جعل لتحقيق غايات مهمة يغفل عنها كثير من الناس.

ولعلنا في هذه الأسطر أن نبين المقاصد الجليلة والمعاني العظيمة من وضع الشريعة على أساس بين واضح من ذلك :

-المحكمات والبيان سبب لتحقيق الهداية:

من أعظم المقاصد في إيضاح المحكمات وبيانها وظهورها تحقيق الهداية، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)  [سورة آل عمران:103]. فالمراد من وضوح الشريعة أن يهتدي العبد في معرفته لربه تعالى، وفي توحيده له وفي إقامته لشريعته، فلا يحقق العبد التشريع بلا توحيد، ولا يتحصل له التوحيد بلا معرفة، ولهذا كان دلائل ربوبية الله تعالى واستحقاقه العبادة من غير شريك، كانت براهين واضحة ظاهرة، وكذلك أصول هذه الشريعة وكلياتها، حتى غدت أكثر الشريعة برحمة وفضل من الله محكمة بينة، قال صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين) والمقصود من هذا تحقيق الهداية، إذ لو جعلت الشريعة في غاية الخفاء لما اهتدى إليها إلا الأذكياء من الناس، ولكثر الخلاف حول أصولها ومعاقدها وأسسها، ولهذا من رحمة الله تعالى أن جاءت هذه الشريعة محكمة واضحة بينة، يفهم الأمي والمتعلم والذكي والبليد، والصغير والكبير، والأمير والوزير والعالم والجاهل، فجميع فئات الناس يفهمون كلام الله ويعقلونه بالإجمال وما ذاك إلا لتحقيق هذه الثمرة العظيمة وهي الهداية.

 

- العصمة من الضلال:

وإذا قلنا أنّ من مقاصد وضع الشريعة وضعاً محكماً بينا أنها سبب للهداية فإنها كذلك سبب للعصمة من الضلال والانحراف قال تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة النساء:176]. فلما ذكر الله فريضة المواريث عقب ذلك بأن هذا البيان لئلا تضلوا، فالله سبحانه وتعالى المتصف بصفة العلم، وأنه بكل شيء عليم يبين للناس أحكامه وشريعته حتى لا يقعوا في الضلال، ولهذا كل من حاد عن محكمات الشريعة وأصولها، وسلك طريقاً غير طريق الإسلام فإنه سلك طريق الضلالة، وبهذا يتبين لك أخي الكريم، أن سلوك طريق الحق هداية، وهذا معنى متفق عليه ومعنى معلوم بالضرورة، إلا أن دعاة التقارب، ودعاة التمييع والتضليل، نفثوا في روع الناس، أن سلوك غير طريق الإسلام ليس بضلال، مع أن الله قد بين بآيات واضحات أن من يبتغ غير الإسلام فلن يقبل منه، قال سبحانه: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [سورة آل عمران:85]. فسلوك طريق الحق هداية وسلوك طريق آخر هو الضلال، لذا كانت الشريعة واضحة وبينة لئلا يضل الناس، وهذا أقوم وآكد في الحجة إذ لو لم تكن الشريعة على هذا السنن، فإنه لمن حاد وضل أن يحتج بأنه لم يفهم الشريعة وأنه دلالات أحكامها محتملة.

 

-       تحقيق شكر الله:

إن من أعظم نعم الله تعالى علينا أن جعل هذا الدين محكماً واضحاً فإن هذا الوضوح موجب للهداية مانع من الضلالة، فإذا اهتدى العبد أفلح وكان في عداد الفائزين، فسلوك طريق الهداية والإيمان لا يحتاج من العبد قدرات عقلية عالية، ولا تحتاج منه أن يكون من نوابغ أهل زمانه حتى يعرف الحق ويهتدي إليه، بل يكفيه أن يكون عاقلاً سالماً من الجنون والعته، فإن المجنون الذي فقد العقل يسقط عنه التكليف وليس مطالباً بالهداية والتشريع، وإنما يكفيه أن يكون أن يملك آلة العقل التي يتساوى بها جميع العقلاء، فاستشعار هذه الحقيقة موجب لشكر الله تعالى، قال سبحانه: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة المائدة:89]. فاستشعار هذا المعنى العظيم وهو أن الشريعة في غاية السهولة والوضوح يورث في نفس العبد عظمة رحمة الله بعباده فيحقق شكره بالقول أو بالفعل، وأعظم مراتب شكر الله على بيان هذه المحكمات هو العمل بها

-       ­تحقيق التفكر والتأمل:

إن بيان أحكام الشريعة من أعظم مقاصده أنه يبعث على التأمل والتفكر والدعوة إلى التأمل والتفكر جاء في القرآن مطلقا ومقيداً فقال على سبيل الإطلاق: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [سورة البقرة:266].وجاءت مقيدة في قوله تعالى: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)  فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ ) [سورة البقرة:219-220]. والمراد بهذا التفكر والتأمل هو الاعتبار بهذه الآيات المحكمة وفهم الأمثال والمعاني وإنزالها على المراد منها([1]) كما قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [سورة العنكبوت:43].  وأما التأمل والتفكر المقيد بالدنيا والآخرة، فهو إشارة إلى حقيقة التفكر والتأمل، أي النظر إلى أمور الإنسان في زوال وفناء الدنيا وإقبال الآخرة، فالمحكمات هي بيان لهذه الحقيقة، فمن عمل بها وتمسك بها علم حقيقة الدنيا والآخرة، ومن علم حقيقة الدنيا والآخرة لا شك أن ذلك يورثه إقبال وتمسك بهذا الدين وعمل بهذه الشريعة.

 

-       تحقيق العقلانية

من أهم مقاصد الآيات المحكمات أنها تورث التعقل، بل هذه المحكمات هي عقلانية لا تخالف العقل السليم ولا الفطرة السليمة، قال سبحانه: (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [سورة البقرة:242]. فالله تعالى يبين إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمرنا ونهانا عنه بينه ووضحه وفسره ولم يتركه مجملا لتحقيق غاية الفهم والتدبر([2]) فلو كانت المحكمات على خلاف العقل لم تورث التدبر والتعقل، وهذا التعقل الملازم لبيان الشريعة ووضوحها يستوجب صلاح الدين والدنيا والعاجل والآجل ([3]) وهذا الوضوح والبيان إنما غايته تكميل العقول وصرفها إليها ولفهم ما يريده الله تعالى من هذه الآيات البينة الواضحة([4])

 

 

-       ­إظهار سبل أهل الباطل

ومن أعظم مقاصد المحكمات أنها تظهر للناس طرق أهل الضلال والباطل قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)  [سورة الأنعام:55]. قال ابن كثير: "يقول تعالى: وكما بينا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعتاد (كذلك نفصل الآيات) التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها (ولتستبين سبيل المجرمين) ولتظهر طرق المجرمين المخالفين للرسل"([5]) فمن مقاصد الدلائل المحكمة أنها تبين طرق أهل الضلال فالله تعالى بين أحوالهم وطرائقهم وعنادهم وجدالهم، فيعرف المؤمن أحوال أهل الكفر والنفاق وتستبين له لأن الله أحكم بيانها فيعصم بإذن الله عن الضلال والغي

أخي القارئ: إن من مقاصد بيان المحكمات على سبيل الإجمال تحقيق التقوى وتحقيق اليقين وتحقيق التذكر والموعظة فهذه المحكمات من أعظم مقاصدها إصلاح العبد في أمور دينه ودنياه وتحقيق الفلاح والسعادة في الدارين.

 

 

 

 

 

 

 



([1])  تفسير ابن كثير 

([2])   تفسير ابن كثير

([3])  تفسير الطبري

([4]) تفسير الألوسي

([5])  تفسير ابن كثير


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...