منهاج السنة النبوية ودعوى الانفتاح الفكري- د. عبد العزيز بن أحمد الحميدي

بسم الله الرحمن الرحيم 

                               

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين ، نبينا محمد وآله وأصحابه والتابعين ، أما بعد.

فإن الله تعالى بعث نبيه محمداً في حين فترة من الرسل وانطماس من السبل  ، وأنزل عليه كتاباً مبيناً ، وشرعاً حكيماً ، ونوراً مبيناً ، وفتح الله به أعيناً عمياً ، وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً ، حتى يعبدوا الله وحده لا شريك له.

واختار له أصحاباً أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم ، وفدوه بأنفسهم وآبائهم وأمهاتهم ، واتبعوا النور الذي أنزل معه:" الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)" [الأعراف:157].

وحمل هؤلاء الأخيار من أصحابه الكرام هداية الإسلام إلى أهل الأرض جميعاً ؛ فلذلك كان حقهم عظيماً ، وقدرهم في المسلمين كبيراً ، فهم حملة الرسالة ورعيلها الأول.

إلى أن ظهر التشيع والرفض ، وتغذى بالأحقاد المجوسية ، والضغائن اليهودية ، فشنعوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورموهم بكل عظيم من القول والافتراء ، وشككوا في مصادر الإسلام وحقائق الشريعة ، التي حفظها وضبطها ونقلها للأمة هؤلاء الأصحاب الأخيار الذين هم بحق: خير أصحاب لخير نبي صلى الله عليه وسلم.

وقام الأئمة المهديون ، والعلماء الربانيون بالذب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإظهار فضائلهم العظيمة ومناقبهم الجليلة ، ومنازلهم المستقيمة التي بوَّأهم الله إياها.

وفي أواخر القرن السابع وأوائل الثامن قامت بخراسان وما حولها دولة مغولية عرفت «بالدولة الإلخانية» وكانوا يظهرون الانتساب إلى الإسلام ومن أشهر ملوكهم الملك: محمود بن أرغون بن أبغا الملقب «غازان» . وقد هلك سنة (703) وقام بعده بالملك أخوه: محمد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ، وهو «الجايتو خُدابنده»([1]).

كان هناك تداخل عجيب بين الحملات الصليبية خصوصاً الحملة الصليبية الخامسة وبين الحملة المغولية على المسلمين.

يقول الأستاذ رضوان السيد: «وفي لحظة تاريخية حاسمة نحو أواسط القرن الثالث عشر الميلادي ، انقض حدث هائل غير مجاري الاهتمام أو أنه حولها لعقود قادمة ، كان فرسان الحملة الصليبية الخامسة يحاصرون دمياط ويرجون أن تسقط مصر كلياً في قبضتهم عندما نُمي إليهم أن ملكاً مسيحياً مشرقياً يقود جحافل ضخمة انطلاقاً من جورجيا وقد اجتاح بلاد فارس ، وهو يتقدم لاجتياح بغداد وإنهاء الإسلام فيما وراء الفرات ، إذا تحقق الأمل خلال شهور فإن معنى ذلك أن يلتقي المنتصرون في مصر والشام من المسيحيين الغربيين بأولئك المسيحيين الشرقيين ، فيزول الإسلام من الأرض»([2]).

ولم تكن تلك الجحافل المشرقية سوى المغول بقيادة «جنكيز خان» ثم حفيده «هولاكو»([3]).

وقد لحظ شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التداخل في العقائد ، بين اعتقاد المغول في «جنكيز خان» واعتقاد النصارى في «المسيح».

قال رحمه الله: «فذلك أن اعتقاد هؤلاء التتر في جنكيز خان عظيماً ، فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح»([4]).

ويذكر أن زوجة «هولاكو» الذي دخل بغداد ودمرها كانت نصرانية أيضاً ويتكرر هذا أيضاً في هذا الملك «خُدابنده» ويظهر الاتصال المسيحي به كما كان الحال بجده «هولاكو».

يذكر المؤرخ الشهير «Briwn» : «أن خدا بنده نشأ مسيحياً وعمّدته أمه «آروك خاتون» وسمّته «نيقولا» ثم انتقل إلى الإسلام بناء على رغبة زوجته»([5])، ثم تبنى هذا الملك «خدابنده» التشيع الاثنى عشري بقوة ، وأظهر الرفض في ولايته([6]).

التداخل المغولي المسيحي الشيعي:

قررنا من قبل الاتحاد المغولي المسيحي في التزامن بين الحملة الصليبية الخامسة والهجمة المغولية على المشرق الإسلامي حتى وصولهم إلى بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية والقضاء عليها وتدميرها.

ثم لا يخفى على متتبع التعاون الشيعي الباطني مع هؤلاء المغول في هجمتهم الشرسة لإزالة الوجود الإسلامي من الأرض.

وظهر ذلك جلياً في الدور الخطير الذي قام به اثنان من أشهر علماء الشيعة في ذلك الوقت وهما: نصير الدين الطوسي ، ومحمد بن العلقمي.

نصير الدين الطوسي: داعي باطني رافضي إسماعيلي اسمه أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي – الملقب «بالخواجة» المتوفى ببغداد سنة 672.

 وهو أستاذ ابن المطهر الحلي صاحب «منهاج الكرامة»([7]) واسمه الحسين بن يوسف ، وابن المطهر وأبوه وعائلته لها تاريخها المشبوه في موالاة المغول الوثنيين والدخول في طاعتهم أيام هولاكو.

تذكر مصادر الشيعة : أن هولاكو لما وصل بغداد سنة 656هـ كان ابن المطهر في عقده الأول من عمره وأن والده مع جمع من الشيعة من أهل الحِلّة يرسلون كتاباً إلى هولاكو الملك المغولي الوثني بأنهم مطيعون له داخلون تحت ولايته ويطلبون منه سلامتهم وسلامة مشاهد الشيعة في الحلة والنجف ، وأن والده ذهب بنفسه إلى هولاكو مع شخصين آخرين حين طلبه هولاكو شخصياً وأن والده رجع من عند هولاكو ومعه فرمان فيه أمان لأهل الحلة([8]).

ويذكر ابن المطهر نفسه في كتابه: «كشف اليقين» قصة حضور والده بين يدي هولاكو فسأله هولاكو: لماذا قدمت الطاعة لي والولاء بهذه السرعة ؟ فأجابه والده بأن ذكر له رواية مطولة عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في فساد بني العباس وظلمهم وأن زوالهم على يد ملك التتر وأن صفته مطابقة لصفة هولاكو، فأعجب بذلك هولاكو وأعطاهم كتاب أمان([9]).

وأن رافضياً آخر من أصدقاء أبيه اسمه: مجد الدين محمد بن طاووس ، ألف كتاباً سماه «البشارة» أهداه لهولاكو يبشره بالفتح لبغداد فرضي عنه هولاكو وولاه نقابة البلاد الفراتية كلها([10]).

وقد اتصل الطوسي بملك التتر «هولاكو» وأصبح مقرباً عنده ووزر له وهو الذي حسّن له دخول بغداد وذبح المسلمين بها وقتل الخليفة العباسي «المستعصم»([11]).

 قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عن الطوسي: «ووزر لأصحاب قلاع الألموت([12]) من الإسماعيلية ثم وزر لهولاكو وكان معه في وقعة بغداد»([13]).

أما الآخر وهو مؤيد الدين محمد بن العلقمي . فهو من أكابر الشيعة ووزر للخليفة العباسي المستعصم ، وله مراسلات مع الطوسي ، ومع هولاكو وهو الذي حسّن للمغول دخول بغداد وصرف العساكر الإسلامية عنها ، وحسن للخليفة الخروج لاستقبال هولاكو فكان ما كان من قتله وحاشيته والعلماء الذين معه ودخول بغداد سنة 656هـ وقتل من فيها في فاجعة من أعظم فواجع المسلمين([14]).

وهذا ظهر في حال هذا الملك المغولي «خُدابنده» فإنه نشأ مسيحياً بفعل أمه المسيحية ، ثم لما تحول مسلماً لمتطلبات المرحلة اختار الرفض والتشيع مسلكاً وديناً له ، ولأجله ألف ابن المطهر الحلي كتابه «منهاج الكرامة».

فنحن أمام نموذجين: لإسلامٍ اقتضته متطلبات المرحلة وليس وراء ذلك إلا حرب الإسلام وقتل المسلمين ، وسنعرض لهذين النموذجين مع بيان موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من كل منهما.

النموذج الأول: الملك المغولي «غازان» الذي أظهر الإسلام فيما قيل سنة (694هـ).

لكنه فعل بالمسلمين من القتل والأذى وتضييع شعائر الإسلام ما لم يفعله أجداده الكفار.

وقد واجهه شيخ الإسلام رحمه الله بذلك ، وكشف حقيقته ، ودعا إلى مواجهته وجهاده.

وكان تظاهر غازان المغولي بالإسلام مما فت في عضد الجيوش الإسلامية كيف يقاتلونه وهو يظهر الإسلام ؟

مما دعا شيخ الإسلام في كائنة «شقحب» إلى كشف هذا وبيان شرعية قتالهم.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو ؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام ؛ فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه ، فقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: هؤلاء من جنس الخوارج الذي خرجوا على علي ومعاوية ، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما ، وهؤلاء بزعمهم أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين ، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم ، وهم متلبسون بما هو أعظم منه أضعاف مضاعفة ، فتفطن العلماء والناس لذلك ، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني ، فتشجع الناس في قتال التتار ، وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد»([15]).

وكتب شيخ الإسلام رحمه الله فتوى مشهورة في فضح وكفر هؤلاء التتار وكذبهم وعداوتهم للإسلام والمسلمين ووجوب قتالهم([16]).

النموذج الثاني: الملك المغولي: الجايتو خدابنده ، وهو أخو غازان ولي المملكة بعده سنة (703هـ).

لما لم يفد إدعاء الملك غازان الإسلام وكشف أئمة الإسلام حاله وحال قومه، وقاتلهم المسلمون في شقحب وغيرها وكسروهم وهزموهم ، اتجه هذا الملك خدابنده إلى التشيع والرفض فتبناه وأعلنه ليعود التحالف المغولي المسيحي الرافضي ليطل برأسه من جديد والهدف القضاء على الإسلام وحرب المسلمين.

لقد تباها علماء الشيعة بهذا الملك الباطني خدابنده وتبجحوا بذكره ، وذكرت كتب الشيعة بعض الأسباب التي أدت إلى تشيعه ورفضه.

وهي محاولة  من هؤلاء لصرف الأنظار عن هذا التحالف المشين ، ليظهر أن تشيعه عن قناعة لما ظهر له صحة مذهب التشيع.

وسنذكر ذلك لنبين تفاهته ، وأنها محاولة خاسرة لسد حقيقة هذا الحلف المغولي المسيحي الباطني لحرب المسلمين وتدميرهم ليكملوا مسيرة نصير الدين الطوسي وابن العلقمي مع هولاكو والحملات الصليبية على العالم الإسلامي.

السبب الأول: تقدمه لنا رواية شيعية مجملها: أن هذا الملك خدابنده اهتم بدراسة المذاهب وأراد التحقق من صحة مذهب الإمامية فأجرى في بلاطه مناظرة نجمها من قبل الإمامية ابن المطهر الحلي صاحب منهاج الكرامة واسمه: الحسين بن يوسف الحلي شيخ الإمامية في زمنه ، فناظر بعض علماء السنة وهنا تذكر المصادر الشيعية اسم رجل: هو نظام الدين عبد الملك المراغي الشافعي ([17])، وأن ابن المطهر أظهر الحق وأقام البراهين على صحة مذهب الإمامية ، وأن الشيخ المراغي بهت وخجل من نفسه ([18])، فاقتنع الملك خدابنده بصحة مذهب الإمامية فتبناه وتدين به ، ولا يخفى ما في هذه القصة من الكذب والإخراج المسرحي.

السبب الثاني: أيضاً يقدم لنا الخونساري رواية أخرى أكثر سذاجة من سابقتها ومجملها: أن هذا الملك الرافضي خدابنده طلق زوجته ثلاثاً وبتّ طلاقها وأجمع الفقهاء على أنها حرمت عليه ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ، فقيل له إن عالماً بالحِلّة يقول ببطلان مثل هذا الطلاق وهذا العالم لم يكن سوى ابن المطهر الحلي ، فأرسل إليه خدابنده فأفتاه ببطلان الطلاق وعللّ ذلك بأن هذا الطلاق لم يحضره شاهدان عدلان ، ففرح الملك وبناء على ذلك تبنى التشيع ودعا به([19]).

وبناء عليه أصبح لابن المطهر الحلي الحظوة عند هذا الملك ، وأقطعه إقطاعات هائلة بالعراق ، وله صنف ابن المطهر كتابه هذا «منهاج الكرامة في الإمامة» وغيره من كتبه الداعية إلى الرفض.

وهنا يتجدد الموقف العلمي العظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فينهي كتاب منهاج الكرامة للحلي بأوسع الرد والتفنيد ، والإبطال والتنديد ، ولكن ههنا أمر عظيم مهم. تفطن أئمة السّنة الكبار وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى إلى هذا المشروع الوثني المسيحي الباطني الذي مقدمته وظاهره التشيع والإمامية وحقيقته يدور على إبطال دين الإسلام ، وهدم شرائعه وقتل أهله.

وليس القضية مجرد رد على كتاب مخالف كما قد يظن السطحيون والمغفلون ، ولا أدل على ذلك من المقدمة التي افتتح بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه هذا «منهاج السنة النبوية» فإنه قال: «أما بعد ، فإنه قد أحضر إليّ طائفة من أهل السّنة والجماعة ، كتاباً صنفه بعض شيوخ الرافضة في عصرنا منفقاً لهذه البضاعة، يدعو به إلى مذهب الرافضة الإمامية، من أمكنه دعوته من ولاة الأمور، وغيرهم أهل الجاهلية، ممن قلت معرفتهم بالعلم والدين، ولم يعرفوا أصل دين المسلمين، وأعانه على ذلك من عادتهم إعانة الرافضة من المتظاهرين بالإسلام، من أصناف الباطنية الملحدين الذين هم في الباطن من الصابئة الفلاسفة الخارجين عن حقيقة متابعة المرسلين الذين لا يوجبون اتباع دين الإسلام ، ولا يحرمون اتباع ما سواه من الأديان، بل يجعلون الملل بمنزلة المذاهب، والسياسات التي يسوغ اتباعها، وأن النبوة نوع من السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامة في الدنيا، فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية، وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة، والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال»([20]).

وبعد هذا المدخل الواضح المعالم لشيخ الإسلام رحمه الله يكشف الشيخ وبكل وضوح أبعاد التحالف الآثم بين هؤلاء الرافضة الملاحدة الباطنية والمغول الوثنيين وأهل الكتاب النصارى وغيرهم للهدف الأكبر الذي تآمروا عليه.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «ومنهم من أدخل على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، فملاحدة الإسماعيلية، والنصيرية، وغيرهم من الباطنية المنافقين من بابهم دخلوا، وأعداء المسلمين من المشركين، وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا، واستولوا بهم على بلاد الإسلام، وسبوا الحريم، وأخذوا الأموال، وسفكوا الدم الحرام، وجرى على الأمة بمعاونتهم من فساد الدين والدنيا ما لا يعلمه إلا رب العالمين»([21]).

فطائفة من علماء أهل السنة وعلى رأسهم هذا الإمام العظيم قرأت أبعاد هذا التحالف الوثني المغولي المسيحي الرافضي ، هذه الكرة أيضاً. كما قرأوه في الكائنة الأولى أيام غزو هولاكو لبغداد بمعاونة الطوسي وابن العلقمي.

فجاهد الأئمة في كشف ذلك ، وما معركة «منهاج السنة النبوية» التي أدارها وقادها باقتدار شيخ الإسلام بأقل شأناً في الجهاد والنضال عن الإسلام من معركة شقحب التي سبقتها أيام الملك «غازان» وأيضاً أدارها وقادها باقتدار شيخ الإسلام رحمه الله.

ولذلك لما ظهر «منهاج السنة» لشيخ الإسلام رحمه الله وكشف الله به حقيقة الرافضة الفكرية الضالة عقلية ونقلية ، وكشف الله به حقيقة دورهم الآثم في الولاء لأعداء الله وأعداء دينهم من المغول الوثنيين والنصارى الحاقدين ، لما ظهر منهاج السنة وقرأه الرافضة خصوصاً شيخهم المردود عليه «ابن المطهر الحلي» عرفوا أن أمرهم انكشف ، وأستارهم هتكت ، وظهر للأمة فساد ما هم عليه من الديانة ، وولاءهم المشين المشبوه لأعداء الإسلام والمسلمين ، وافتضح أمرهم ، وأظهر الله عوارهم.

فلجأوا لتفادي ذلك . إلى أسلوبهم القديم الخداع . الذي نبّه عليه شيخ الإسلام رحمه الله في المقدمة التي نقلتها آنفاً . وهو الترويج لفكرة العالمية الفكرية ، وأن الحق ليس منحصراً في جانب واحد ، وأن الحقيقة لا يحتكرها أحد ، ووجوب الانفتاح على الأفكار ، وإلغاء العدائية المسبقة للفكر ، مع نوع من التجهيل والتقليل لشيخ الإسلام رحمه الله ، وأنه لا يعلم إلا قوله ولم ينفتح ولم يطلع على الفكر المنفتح لذلك عاداه.

هذا ما سلكه ابن المطهر الحلي ، محاولة يائسة لتفادي ما في منهاج السنة من كشف حقيقة الرافضة في الاعتقاد ، وما رضوا لأنفسهم أن يكونوا أداة طيعة لأعداء الإسلام من المغول أتباع جنكيز خان والنصارى وغيرهم من الملاحدة.

وهو الذي جرّ سيف الطعن والتكذيب لكل رموز الإسلام العظيمة من الخلفاء الراشدين والصحابة الميامين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وأعلام الأئمة العلمية وقياداتهم الفكرية ، كمالك وأحمد والشافعي والبخاري وغيرهم ، وجهلهم ، ثم لما ردّ عليه شيخ الإسلام وكشف باطله وكذبه لجأ إلى التستر بفكرة العالمية الفكرية ، وتنوع الحق والانفتاح الفكري ، ونحو ذلك.

تذكر المصادر الشيعية وكذا بعض كتب أهل السنة ما يلي:

لما وصل كتاب «منهاج السنة النبوية» لشيخ الإسلام ابن تيمية للمردود عليه وهو أبو منصور الحسين بن يوسف ابن المطهر الحلي صاحب منهاج الكرامة. أنشد ابن المطهر هذه الأبيات:

لو كنت تعلمُ كلَّ ما علم الورى         طُرّاً لصرتَ صديقَ كل العالمِ

لكن جهلتَ فقلتَ إن جميع من        يهوى خلاف هواك ليس بعالم([22])

وفكرة الأبيات واضحة وهي التستر بالعالمية الفكرية والانفتاح الفكري وأن الحق غير منحصر في جهة واحدة ، وأن الحقيقة لا يحتكرها أهل السنة ولا ابن تيمية ، وأن ابن تيمية لجهله بما يقوله غيره وعدم انفتاحه الفكري وانغلاقه على ما يعلمه ويفهمه هو فقط ظن خطأ أفكار الناس المخالفين له، فعاداهم وعادوه ، ولو انفتح على فكرهم وكسر عنه العقل الجمعي المسيطر على أهل السنة الذي يتوارثونه بغير وعي وإعادة قراءة أفكار الناس بهذه النفسية الذهنية المتفتحة لكسب صداقات جميع الطوائف ؛ بل جميع أهل الديانات الأخرى كما كسبها الحلي بمنافقته الملك المغولي خدابنده.

وهذا هروب من المواجهة العلمية ، وشعور بانكشاف العورة وظهور الباطل ، فما بقي إلا التذرع بمثل هذه الفكرة الهلامية المضيعة للحق الواحد في بحور ظلام الباطل ، ليستمر المشروع الباطني الرافضي في تحالفه مع المشروع المسيحي الصليبي الوثني المغولي.

هذا وقد رد أحد علماء السّنة وهو شمس الدين محمد الموصلي على أبيات الحلي على البداهة بأبيات قال فيها:

يامن يموِّه في الجواب مسفسطاً          إن الذي ألزمت ليس بــلازم

هذا رسول الله يعلم كــــل ما             علموه وقد عاداه جل العالم([23])

وما ذكره الشمس الموصلي صحيح ؛ فإن ما يدعو إليه الحلي سفسطة وغايتها إلغاء أن يكون الحق واحداً ثابتاً لا يتعدد ، وجعل الحقائق تتبع الآراء والاعتقادات فالحق عند كل أحد هو ما يراه ويعتقده وليس هناك حق صحيح ثابت واحد بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه يجب أن يطلب ويعتنق ويعمل به.

فعاد الشيعة لمحاولة الجواب شعراً ونثراً.

أما شعراً فحاول محسن الأمين الجواب فقال:

أحسنت في التشبيه كل معاند           لولي آل المصطفى ومقاوم

مثل المعانــــــد للنبي محمد                 والحق متضح لكل العالم([24])

وهو محاولة لقلب الإيراد ، فإنه يقول أحسنت إذ شبهت معاند ولي آل المصطفى والمراد به عنده الحِلّي ، كمعاند النبي صلى الله عليه وسلم.

وهنا يأتي موضع المثل: «أسأت فهماً فأسأت جابه» أي ساءت إجابتك بناء على سوء فهمك.

فإن المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحق كله من أطرافه ، ومع ذلك عاداه من عاداه من المشركين واليهود والنصارى وغيرهم.

وهذا هو الواقع ؛ فإن الحق يأتي على غير أهواء الناس ورغباتهم ، فلذلك يعاديه أهل الأهواء والبدع والشهوات وأهل الكبر والعناد.

قال تعالى: "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ "(71) [المؤمنون:71]، وشَعَرَ محسن الأمين أنه لم يقدم جواباً : فعاد لمهاجمة شيخ الإسلام ابن تيمية وتكفيره، ومهاجمة الموصلي أيضاً وتسفيهه.

قال محسن الأمين: «السفسطة هي من الموصلي، فالعلامة يقول: إن ردك علي لجهلك بما أقول ، وعدم فهمك إياه على حقيقته ، فلو علمت كل ما علم الورى ووصل إليه علمهم من الحق لكنت تذعن لهم ولا تعاديهم ، ولكنك جهلت حقيقة ما قالوا فنسبت من لا يهوى هواك منهم إلى الجهل...فأين هذا من نقضه السوفسطائي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم كل ما يعلمه الناس وقد عاداه جل الناس»([25]).

وأضاف في مقدمة إرشاد الأذهان للحلي تكفير ابن تيمية فقال: «وابن تيمية مع اعتراف أكثر العلماء بفساد عقيدته بل بكفره وارتداده حتى حبس في حياته لأجل آرائه المنحرفة ، أفرد أبو محمد صدر الدين العاملي كتاباً في كفر ابن تيمية»([26])([27]).

لقد انكشف الأمر وبان صباح الحق لكل ذي عينين ، وظهر الجهاد العظيم علماً وعملاً لهذا المجاهد العظيم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، أولاً مع الملك المغولي المدعي للإسلام «غازان» ، وجهاده له بالحجة والبيان ثم بالسيف والسنان حتى ردّه الله خاسئاً وجاهد ثانياً بالعلم والتأليف والحجة والبيان هذا الملك المغولي الباطني الرافضي (خُدابنده) وحزبه وأوليائه من الرافضة العملاء الدخلاء أعداء الأمة في كل وقت وعلى رأسهم ابن المطهر الحلي فزلزل الله أركانهم وهتك أستارهم بمناهج السنة النبوية.

فما بقي لهم إلا سلاحهم الوحيد وهو التكفير والتسفيه وهي "شنشنة نعرفها من أخزم"، فمن كفر سادات الصحابة أولو العزم من حملة الرسالة إلى العالم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الثلاثة وقلب حسناتهم سيئات ، لا شك أنه لا يرى إلا الظلام فهموا أعمى البصر مظلم البصيرة ، ونحن نقول لهم كما قال تعالى لأوليائهم من قبل:" وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ "(119) [آل عمران:119].

والله الموفق لا إله إلا هو.



([1]) البداية والنهاية لابن كثير (14/29).

([2]) مقدمة كتاب: مسيحية ضد الإسلام (16).

([3]) قررت هذا بشواهده في كتابي «مفاهيم الحرية وتطبيقاتها» (213-220) فانظره.

([4]) مجموع الفتاوى (28/521-522).

([5]) نقل ذلك عنه الدكتور محمد مصطفى زيادة في تحقيقه لكتاب: «السلوك لمعرفة دول الملوك» لتقي الدين المقريزي (1/954).

([6]) البداية والنهاية (14/56).

([7]) الدرر الكامنة لابن حجر (2/71).

([8]) مقدمة كتاب إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان لابن المطهر الحلي (1/30).

([9]) كتاب: تحفة العالم (1/183) نقلاً عن كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين.

([10]) إرشاد الأذهان (1/34).

([11]) روضات الجنات  للخونساري (582).

([12]) هم الحشاشون طائفة من الإسماعيلية أتباع الحسن بن الصّباح.

([13]) البداية والنهاية (13/267).

([14]) المصدر السابق (13/201).

([15]) البداية والنهاية (14/23-24).

([16]) انظرها في مجموع الفتاوى (28/501-553).

([17]) هكذا سماه الخونساري في روضات الجنات (175) وكذا في مجالس المؤمنين (2/57) وأنه كان عالم الشافعية ، وقد فتشت في كل كتب طبقات الشافعية فلم أجد أحداً بهذا الاسم.

([18]) روضات الجنات للخونساري (175) وأضاف في مجالس المؤمنين (2/571) إن المراغي اعترف بصحة مذهب الإمامية وأن أسلافه الشافعية سلكوا طريقاً خاطئاً وأن الخلف منهم سكتوا عن زلل قدمائهم.

([19]) روضات الجنات (175) وروضة المتقين للمولى محمد تقي الدين المجلسي (9/30).

([20]) منهاج السنة (1/4-6).

([21]) منهاج السنة (1/10-11).

([22]) إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان للحلي (1/151-152)، مجالس المؤمنين (1/573-574)، أعيان الشيعة لمحسن الأمين (5/398)،ـ وانظر من كتب السنة «لسان الميزان» لابن حجر (2/317)، والدرر الكامنة له (2/71-72).

([23]) الدرر الكامنة (2/72)، ومجالس المؤمنين لمحسن الأمين (1/574).

([24]) أعيان الشيعة (5/398).

([25]) المصدر السابق.

([26]) هو كتاب «البراهين الجلية في كفر ابن تيمية» ذكره في إرشاد الأذهان (1/110).

([27]) إرشاد الأذهان (1/152-153).


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...