. 3 نوفمبر, 2022, 4:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن عالمية الإسلام وشهادة المسلمين على الناس جميعا أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، لأن الله تعالى قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، وختم بدين الإسلام الرسالات السماوية ، فلا بد أن يكون تبليغ الإسلام لجميع الناس واجبا على المسلمين في كل عصر ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أدى ما أوجبه الله عليه من تبليغ رسالة الإسلام وتحقيق الشهادة به على أتم وجه فإن الواجب على أتباعه أن يقوموا بما أوجبه الله عليهم من ذلك ، وأن يبلغوا دين الله تعالى على الوجه الذي بلغهم به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يحققوا واجب الشهادة به على الناس ، فيكونوا بذلك شهداء على الناس كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا عليهم ، وهذا هو معنى التكليف والتشريف في قول الله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
والأساس المنهجي الذي ينبغي البناء عليه والبداءة به في تحديد معالم الخطاب الإسلامي المطلوب اليوم هو الذي يتحقق به التوافق بين تجديد الدين وإحيائه وبين مناسبة هذا الخطاب لعصرنا وإجابته عن التساؤلات والمشكلات التي يعيشها الناس اليوم ، بحيث لا ينحصر الاهتمام بتأصيل الحقائق الشرعية دون مراعاة تنزيلها على واقع الناس في هذا العصر ، وفي المقابل ينبغي الحذر من أن يصل الأمر بتنزيل الدين على واقع الناس إلى تحريف الدين وتطويعه لمتطلبات العصر دون مراعاة لثوابت الدين ومحكماته وما كان عليه هدي السلف الصالح في فهمه وتطبيقه.
وتستند أهمية تجديد الدين إلى أن الحجة لا تقوم على الناس إلا بالدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم ، وتلقاه عنه الصحابة رضوان الله عليهم ، وتابعهم على ذلك التابعون وتابعوهم بإحسان إلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة، وذلك أنه مع حفظ الله تعالى لدينه إلا أنه قد حصل على مدار التاريخ الإسلامي الكثير من التحريف لحقائق الدين ، بفعل الفرق الإسلامية والمنتسبة إلى الإسلام ، إما عن جهل بحقيقة الدين وإما عن بغي وعدوان ، كما تستند أهمية مناسبة الخطاب الإسلامي لعصرنا إلى أن الإسلام هو الدين الذي جعله الله تعالى رحمة للعالمين في كل زمان وفي كل مكان ، فلا يمكن أن تنزل بالناس نازلة أو يجد لهم أمر لم يكن معهوداً عند من سبقهم إلا وفي دين الإسلام حكمه .
وتحقيق التوافق بين هذين الأصلين أمر في غاية الأهمية ، والتفريط فيه إما أن يؤدي إلى مخالفة بعض الحقائق الشرعية بدعوى مراعاة حاجة العصر ، وإما أن يؤدي إلى الإهمال في تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع لعدم فهم دلالات النصوص الشرعية على تلك الوقائع ، وكل من الأمرين قد حصل .
وكمثال على اللبس الحاصل نتيجة عدم تحقيق التوافق بين هذين الأصلين ما يتعلق بأحكام الجهاد وما حصل فيها من الاختلاف والتناقض في هذا العصر، حيث بالغت فيه بعض الطوائف وفسرت النصوص الواردة فيه دون مراعاة لشروطه وموانعه ، فأحدثت بذلك الفتنة بين المسلمين ، وأزهقت بسبب ذلك كثير من أرواح المسلمين وممتلكاتهم ، وشوهت صورة الإسلام عند غير المسلمين ، وقابلتها طوائف سلكت سبيل الدعوة إلى ما يسمى بالتعايش السلمي بإطلاق ، ووصل الأمر في ذلك إلى اعتبار تصنيف الديار في الفقه الإسلامي من الأمور الاجتهادية التي أملتها ظروف الأمة وطبيعة العلاقات القائمة بين المسلمين وغيرهم ، وأن ذلك كله قد تغير في هذا العصر بحيث أصبح العالم فضاء للتسامح والتعايش السلمي بين جميع الأديان والطوائف ، و حاصل الأمر أن هذه الطوائف قد تجاوزت الحكم على الواقع ومراعاة أحكام الجهاد في حال ضعف المسلمين إلى التعدي على أحكام الجهاد في الشريعة الإسلامية ، وبررت ذلك بالواقع الدولي وضعف المسلمين، وهؤلاء لا يمكنهم تفسير النصوص الدالة على جهاد الطلب إلا بتأويل متعسف ، ويكفي أن أشير هنا إلى الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث بريدة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أمرهم بتخيير الكفار بين الإسلام أو الجزية أو القتال ، وهؤلاء لا يمكنهم أيضا تفسير الفتوحات الإسلامية في عهد قوة المسلمين إلاَّ بالتكلف بأنها كانت كلها للدفاع أو بالوقوع فيما هو أخطر وهو الاتهام لمن قام بها من الصحابة رضوان الله عليهم فمن بعدهم بأنها كانت حروبًا توسعيةً هدفها الغلبة والسلطة الدنيوية , وكل ذلك قد قيل . ولو أنه تمت مراعاة الفرق بين الحكم الشرعي للجهاد وما يتعلق بأحواله في الشريعة وبين تنزيل تلك الأحوال على الواقع واعتبار شروطه وموانعه لم يحصل التطرف من الجانبين،وقس على ذلك مسائل كثيرة حصل فيها اللبس والاضطراب .
والمقصود هنا ذكر بعض الركائز والمنطلقات التي يمكن البناء عليها في الـتأسيس لخطاب إسلامي عالمي ، يتجاوز النظرة الإقليمية ، ولا يضيق بالخلاف الفقهي فيما يسوغ فيه الخلاف ، ويعرف بالإسلام التعريف الذي يستحقه ، بحيث تقوم به الحجة على الناس كلهم في عصر أصبح لثورة الاتصالات والمعلومات الأثر الكبير في تغيير آراء الناس ومعتقداتهم،وجوهر ذلك أن ينظر إلى ما تتأسس عليه الحجة عند المخاطبين بهذا الدين مما هو مشترك إنساني أو ديني ، فإنه لا يمكن أن يحصل التعارض بين دين الإسلام الذي جعله الله تعالى رحمة للعالمين وحجة عليهم في كل زمان ومكان وبين ما يدركه الإنسان من الحق بفطرته واستدلاله أو يكون مما ورثه من الديانات السابقة ، وتأمل طريقة القرآن في الاستدلال وإقامة الحجة على المخالفين وإلزامهم بالتناقض عند مخالفة تلك الحجة تجد أنها تنطلق من هذا الأساس ، فالمشرك الذي يعبد مع الله غيره تقوم عليه الحجة في القرآن بتقرير التلازم بين ما يثبته من توحيد الله في ربوبيته وبين ما يجب عليه من إفراد الله تعالى بالعبادة ، وإلزام المشرك بالتناقض بين إثباته للدليل وعدم اعتباره للمدلول ، والكتابي تلزمه الحجة من نفس ما يؤمن به ويثبت به نبوة موسى أو عيسى عليهما السلام ، وإلا وقع في التناقض من جهة اعتباره للدلالة على نبوة الأنبياء في بعض الأحوال دون بعض ، وهكذا الأمر في إقامة الحجة على كل من خالف دين الإسلام فإن الأصل في ذلك أن يكون عنده من الحق الذي يسلم به ما تقوم به الحجة عليه .
ومن أهم ما ينبغي الاهتمام به في هذا المجال كل ما يتعلق بالفطرة الإنسانية وصلتها بالدين ، والتأسيس على ما يدركه الناس بفطرتهم لبيان أن الإسلام هو الدين الحق ، وبناء نظرية متكاملة تراعي التوفيق بين ما دلت عليه النصوص الشرعية وبين الدراسات المبنية على أسس معتبرة ، حيث يلاحظ في هذا الباب أن الدراسات حول الفطرة الإنسانية إما أن تنحو منحى التفسير للنصوص الشرعية دون الربط بين تلك النصوص بما يشكل رؤية متكاملة حول حقيقة الفطرة الإنسانية وحاجاتها الأساسية ، وإما أن تنحو منحى العرض للآراء الفلسفية دون الانتباه إلى معارضة بعض تلك الآراء للثوابت الشرعية، لكون تلك الآراء ترجع في الغالب إلى التفسير المادي للنفس البشرية ، فيحل -بسبب ذلك- التعارضُ بين ما يوصف بالحقيقة الدينية والحقيقة العلمية ، مع أن من المقطوع به أنه لا يمكن التعارض في نفس الأمر بين الحقيقة الشرعية والحقيقة النفسية ، وانظر مثلا إلى ما قرره ماسلو في الهرم المشهور عنه للحاجات الإنسانية ، وأنه مع شهرته واعتماد كثير من الدراسات النفسية عليه لم يذكر الحاجة إلى الدين ، بل بدأ في ترتيبه للحاجات الإنسانية بالحاجة الفسيولوجية ثم بالحاجة إلى الأمن ثم الحاجات الاجتماعية ثم حاجات التقدير والاحترام ثم حاجة ما سماه تحقيق الذات ، وهذا التدرج والحصر في الحاجات الإنسانية إنما يفهم وفق التفسير المادي للإنسان ، وأما وفق التفسير الإسلامي فلا يمكن القبول بحصر حاجات الإنسان فيما ذكره ماسلو ، وهذا يحتم واجب البيان لهذه المسألة بما يتفق مع فطرة الإنسان وحاجته الأساسية إلى التدين وإفراد الله تعالى بالعبودية.
ومن الركائز الأساسية لعالمية الخطاب الإسلامي بيان الأدلة العقلية على أن الإسلام هو الدين الحق ، مع العلم أن من رحمة الله بعباده أنه لم يحوجهم في اليقين بذلك إلى الاستدلال العقلي المطلق الذي قد يكون حقا وقد يكون باطلا ، بل قد اشتملت نصوص الكتاب والسنة على دلائل الدين كما اشتملت على مسائله . وعلى هذا فليس في دين الإسلام مسألة إلا ويمكن الاستدلال العقلي عليها ، وهذا يشمل ما تكون الدلالة العقلية علية على سبيل الخصوص والاستقلال كما يشمل ما تكون الدلالة العقلية عليه لازمة للاستدلال على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كان رجاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون أكثر الأنبياء تابعا يوم القيامة كما جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ما من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ).
ووجه أهمية هذا المنهج في تحقيق عالمية الخطاب الإسلامي أن الدلالة العقلية هي الحجة المشتركة بين الناس كلهم ، وقد فطروا على قبولها والتسليم بها ، فإذا عرف الإنسان الذي يبحث عن الحق وليس عنده هوى يصرفه عنه أن الإسلام قد جاء بالأدلة العقلية التي يبحث عنها فلا بد أن يسلم به ويدخل فيه عن رضى وقبول ، وهذا بخلاف ما يوجد في الأديان الباطلة المحرفة من التسليم بما يناقض العقل ، حتى أصبح مفهوم الإيمان في الفكر الغربي دالاً على التسليم بلا برهان ، وأصبح البحث عن الدليل العقلي عندهم طريقا إلى الشك والإلحاد ، وإنما ألحد كثير من النصارى بسبب ما رأوه من التناقض بين ما يجدونه في الكتاب المقدس وبين ما تدلهم عليه عقولهم ، وعلموا أنه لا يمكن التوفيق بينهما بحال ، حتى إن بعضهم اختار الإيمان من غير طريق الكتاب المقدس ، وهو الذي يسمونه الإيمان الطبيعي ،لأن عقولهم وفطرتهم قد دلتهم على ضرورة الإيمان بالله تعالى ، فاكتفوا بما دلتهم عليه عقولهم وتركوا ما علموا بعقولهم بطلانه ، وذهبت طائفة ثالثة إلى الإيمان بما يناقض عقولهم في الكتاب المقدس ، وزعموا أن طريق الإيمان يمكن أن يناقض طريق العقل والفطرة ، والعجب من مثل الفيلسوف الكبير ديكارت الذي أقام فلسفته على الشك وعدم التسليم بأي أمر ما أمكن أن يتطرق إليه الاحتمال ، حتى إنه شك في دلالة حواسه على المدركات الحسية ، ثم هو مع ذلك كله يصرح بأنه يؤمن بتجسد الله تعالى في عيسى عليه السلام ، ويؤمن بالتثليث ، مع مناقضتها لصريح العقل، وإنما اضطر إلى التسليم بها وإن ناقضت العقل لأنها عنده مما ورد به الوحي فلا يمكن إنكارها ، وهي حسب تعبيره طريقه إلى الجنة .
ومع أهمية ووفرة ما جاء في التراث الإسلامي حول الاستدلال العقلي على أن الإسلام هو الدين الحق إلا إن هذا الجانب لا يزال في حاجة ماسة إلى التجديد والتأصيل ، حيث غلبت عليه المناهج الكلامية للفرق الإسلامية ، وهي إنما تقوم في حقيقتها على دعوى استقلال العقل في الدلالة على مسائل الاعتقاد ، وهي دعوى باطلة منهجا ومضمونا ، وليس هنا مقام التفصيل في ذلك ، وفيما بذله شيخ الإسلام ابن تيمية من جهود في هذا الجانب مادة نادرة وفي غاية الأهمية ، لكن جهده في ذلك كان في مجمله للرد على مخالفات المناهج الكلامية والفلسفية ، والذين أدركوا أهمية هذا الجانب في عصرنا لم تتحقق عندهم في الغالب سلامة المنهج ، حيث اعتمدوا في كثير من تقريراتهم على مقدمات ظنية ، ولم يعطوا طريق البيان لما جاءت به النصوص حقها ، فوقعوا في بعض الإشكالات العقدية ، ومن أوضح ما يذكر في ذلك ما كتبه وحيد الدين خان وخاصة في كتابه "الإسلام يتحدى "، حيث اعتمد كثيراً على نظريات علمية لم تصل إلى درجة القوانين الثابتة علمياً ، وفتح في هذا الجانب - من غير تدقيق- منهج الاستدلال بالإعجاز العلمي ، مما يوجب النقد والتصحيح لكثير من الأخطاء التي وقع فيها أصحاب هذا المنهج وبيان المنهج الصحيح في ذلك تنظيرا وتطبيقا.
ومن أهم ما ينبغي الاهتمام به للتعريف بحقيقة الإسلام وأنه هو الدين الذي تتحقق به مصالح الناس على أتم وجه أن الشريعة الإسلامية قد بنيت على مراعاة المصالح ودرء المفاسد ، بحيث لا توجد مصلحة إلا وقد ورد الأمر بها ولا توجد مفسدة إلا وقد ورد النهي عنها ، وهذا معنى ما ورد في كتاب الله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ...) والمعروف هو ما تقبله الفطر والعقول والمنكر هو ما تنكره الفطر والعقول السليمة ، ولهذا المعنى كان ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأوامر والنواهي من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، من جهة أن الإنسان يدرك أن ما تحث عليه الشريعة وتأمر به هو مما تقبله الفطرة وتستحسنه ، وأن ما تنهى عنه الشريعة هو مما تنكره الفطرة وتستقبحه ، وهذا ما عناه الأعرابي الذي سئل بم عرفت أن محمداً رسول الله ؟ فقال : ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه ، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به .
وهذا المعنى في التعريف بالإسلام ينبغي أن ينزل على واقع الناس اليوم من خلال دراسات مؤصلة ومراكز بحوث متخصصة تبين ما في أحكام الشريعة من مراعاة المصالح ودرء المفاسد ، ولو أن المسلمين قاموا بهذا الواجب حق القيام لكان من أهم ما تقوم به الحجة على الناس بأن الإسلام هو الدين الحق ولتحققت بذلك الشهادة عليهم . وانظر مثلا إلى العواقب الوخيمة التي جناها الناس في هذا العصر جراء تعاملهم بالربا الذي يقوم عليه النظام المالي في العالم ، وكيف حصل بسبب ذلك ارتباك واضطراب عظيم ، وخرجت أصوات تدعوا بجدية إلى البحث عن سبل بديلة للاقتصاد الرأسمالي ، وأن المسلمين لو ساهموا في سبيل ذلك بدراسات جادة وواقعية تحقق المصالح التي يبحث الناس عنها مع السلامة من تلك العواقب لكان ذلك من أعظم أبواب الدعوة إلى الإسلام في هذا العصر ، وقل مثل هذا في كثير من الأحكام الشرعية التي وقع الناس بسبب مخالفتها في حرج شديد .
ومن المجالات المهمة في التعريف بالإسلام وبيان الوجهة الحقيقية لتفسير ما يلتبس على الناس فيما يتعلق بأحداث التاريخ الكبرى ومصائر الأمم الاهتمام بدراسة السنن الإلهية ، وخاصة ما يتعلق بالسنن الاجتماعية الكبرى وتاريخ الحضارات،وأن ذلك يخضع لسنن إلهية لا تتخلف ولا تتبدل ، والذي يتأمل المنهج القرآني يجد أن الحكم على مصائر الأمم إنما يذكر ضمن سياق سنني ثابت يرجع في النهاية إلى التأكيد على حقيقة واحدة متكررة عبر التاريخ وهي أن هلاك الأمم هو بسبب إعراضها عن أمر الله تعالى ، وهذا يؤكد على أنه كما أن للفيزياء قوانين لا تتبدل فإن للحضارات والمجتمعات قوانين هي أيضا لا تتبدل، وهذا معنى الأمر بالاعتبار بحال المكذبين من الأمم السابقة في قوله تعالى ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) ، وبناء على هذا الأساس جاء التأكيد في آيات كثيرة في سياق إنذار المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ما حصل من الإهلاك للمكذبين للأنبياء من الأمم السابقة ليس مجرد وقائع حصلت في التاريخ , وإنما هي سنة ثابتة تتكرر مع كل من كذب الأنبياء في كل زمان، وتأمل ما جاء من الوعيد للمكذبين بالنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ( فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ).وهذا الأصل ينبغي أن يكون هو الحاكم على الدراسات الاجتماعية والتاريخية ، وأن على المؤرخ المسلم أن يوقن بقطعية هذه الحقيقة وفق ما وردت في كتاب الله تعالى ، و أن يعلم أنه لو تتبع التاريخ البشري فسيجد التفسير الصحيح لنشوء الحضارات واندثارها ، وسيكتشف مدى انحراف التفسير المادي للتاريخ عن هذه الحقيقة الثابتة ، وأنه ليس عليه بعد أن تبينت له القاعدة إلا أن يثبت صدقها الواقعي من خلال أحداث التاريخ ، ولا يكتفي بذلك ، بل عليه أيضا أن يعتمد هذا التفسير فيما يتعلق بدراسات المستقبل .
و مع حاجة المسلمين لهذا التوجه في تفسير الأحداث والحكم على المستقبل فهو مع ذلك ضرورة دعوية في خطاب غير المسلمين ، بشرط أن يتحقق فيه البيان الذي تقوم به الحجة .
وهذا الخطاب هو الذي ميز مقدمة ابن خلدون وجعلها محل التقدير والاحترام ، لأنه حرص أن يكشف في مقدمته عن السنن التي بها تقوم الأمم وتنهض وبمخالفتها يكتب عليها الأفول والانسحاب من التاريخ ، وقرر في بيانه لحقيقة الدراسة التاريخية أنها كما قال "نظر وتحقيق ، وتعليل للكائنات ومادتها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق"، لكن جهد ابن خلدون في مقدمته لم يستثمر ولم يبن عليه بعد ذلك ، وكان الأولى أن يبنى على ما ذكره ابن خلدون وألا يكتفى بما اكتفى به من السنن التي كشف عنها أثناء دراسته للتاريخ الإسلامي ، بل توسع دائرة البحث حتى تشمل التاريخ الإنساني ، وفق المنهج القرآني في ذلك .
وهذا الخطاب يكاد يكون غائبا في الفكر الإسلامي المعاصر ، وما كتبه مالك بن نبي حول مشكلات الحضارة هي الدراسة الأهم والجديرة بالعناية ، ومع أهمية ما كشف عنه مالك بن نبي من شروط الحضارة إلا أنه ركز جهده على الجانب المادي للحضارة ، واهتم بمقوماتها حسب رأيه ، وهي وفق ما قال "الإنسان والوقت والتراب" ،وحصر دور الدين في كونه هو الموجه لهذه المقومات ، وجعل ذلك من خاصية أي دين سواء كان ذلك الدين حقاً أو باطلاً ، وفي هذا التفسير نفس مادي واضح ، وإهمال لخاصية الإسلام في أنه الدين الحق الذي لا يمكن أن تتحقق حضارة حقيقية بدونه .
وفيما يتعلق بصلة المسلم بغيره والتي لها أهمية كبرى في تصور كثير من غير المسلمين للإسلام فإنه ينبغي إدراك أنه مع وجوب التزام المسلم بدينه وعدم المداهنة فيه ، ومع وجوب البراءة من كل ما يخالف دين الإسلام إلا إنه لا بد من مراعاة المشترك الإنساني والديني مع المخالفين في الملة ، بحيث لا يكون المعيار في التعامل معهم فيما يوافقوننا فيه هو نفس المعيار فيما يخالفوننا فيه، والتعامل على هذا الأساس هو مقتضى العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، فالحق حق من كل أحد جاء به ، والباطل باطل من كل أحد جاء به ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صدق الشيطان في إخباره لأبي هريرة رضي الله عنه بأن من قرأ آية الكرسي لم يزل عليه من الله حافظ حتى يصبح ، مع إخباره عنه بأنه كذوب ، فلم تمنع كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان من أن يخبر بصدقه فيما هو حق ، لأن هذا هو العدل ، ومن أحق من النبي صلى الله عليه وسلم في الالتزام بالعدل والقيام به ، وتأمل كيف ربط الله تعالى التعامل وفق هذا الأصل بالتقوى في قوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)، والعدل كما يكون في التعامل مع الآخرين فهو كذلك شامل للحكم على أقوالهم ومواقفهم ، وإنما فرق الله تعالى بين أحكام أهل الكتاب وأحكام غيرهم من الكفار لما لأهل الكتاب من أمور يختصون بها عن سائر الكفار هم بها أقرب إلى المؤمنين ، وتحقيق ذلك في واقعنا أن نكون مع أهل تلك الديانات فيما نشترك فيه معهم في مقابل العلمانيين المحاربين لكل دين ، وذلك كالموقف من قضايا الإجهاض والشذوذ الجنسي ونحو ذلك ، ولو أن الأقليات الإسلامية في البلاد غير الإسلامية تعاملت مع غير المسلمين وفق هذا الأصل لتجاوزت كثيراً من المشاكل وسوء الفهم لدين الإسلام، وهذا لا يعني إغفال دور المحاربين لدين الإسلام مع علمهم بحقيقته ، ولكن واجب المسلمين أن يتمسكوا بالعدل مع كل أحد .
وإذا أردنا أن نتبين ثقل ما يجب على المسلمين اليوم من تبليغ دين الإسلام حتى تحقق الشهادة به على الناس كلهم فعلينا أن نقارن بين هذا الواجب وبين واقع المسلمين اليوم ، وأن تجاوز المسافة الشاسعة بين الواقع والواجب في ذلك تحتاج إلى جهود عظيمة في شتى المجالات والميادين التي سبقت الإشارة إليها وإلى مجالات أخرى كثيرة ، ولا يتحقق ذلك إلا بتصحيح مسار الأمة في ثلاثة مقومات تتحقق بها الفاعلية والتأثير المطلوب ، أولها الوعي بأهمية هذا الواجب على مستوى الأمة ، وثانيها الإرادة الصادقة في أداء هذا الواجب ، وثالثها توجيه قدرات الأمة وإمكانياتها نحو تحقيق هذا الواجب.
ولا شك أن الأمة تحتاج في ذلك كله إلى مراجعة حقيقة لدورها ومهمتها ، وإلى دراسة لمواطن الخلل والعوائق التي يجب عليها تجاوزها ، وخطوة البداية في ذلك كله أن يدرك المسلمون أن عليهم أولاً أن يقوموا بما يجب عليهم لا أن يعلقوا أسباب فشلهم وتراجعهم على غيرهم .