أحكام الكافر بين الدنيا والآخرة

بسم الله الرحمن الرحيم     

 

من الأصول المهمَّة التي تجب مُراعاتها في الحكم على الكفار ضرورةُ التَّمييز بين أحكام الدَّنيا وأحكام الآخرة.

والقاعدة في ذلك: أن من لم يُسلِم فأحكامُه في الدنيا أحكامُ الكفار، لا فرق في ذلك بين الأطفال وغيرهم، ولا بين من مات قبل البعثة ومن مات بعدها، ولا بين أهل الكتاب وغيرهم؛ حتى من أظهر منهم الدفاع عن المسلمين والانتصار لقضاياهم، فإذا مات أحدهم فلا يجوزُ أن يصلِّيَ المسلمون عليه صلاةَ الجنازة، ولا أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة؛ لأن ظاهره يمنع من ذلك كله.

ولو أمكن أن يأذن اللهُ لأحدٍ أن يستغفر لمن مات على الكفر لأذن لإبراهيم عليه السلام أن يستغفرَ لأبيه، ولأذن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه أبي طالب ولوالدته، كيف وقد قال الله تعالى في ذلك: { مَا كَانَ لِلنَّبِیِّ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَن یَسۡتَغۡفِرُوا۟ لِلۡمُشۡرِكِینَ وَلَوۡ كَانُوۤا۟ أُو۟لِی قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِیمِ (١١٣) وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَهِیمَ لِأَبِیهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةࣲ وَعَدَهَاۤ إِیَّاهُ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥۤ أَنَّهُۥ عَدُوࣱّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَهِیمَ لَأَوَّهٌ حَلِیمࣱ (١١٤) }.

وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: (زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأُذِنَ لِي).

وأما في الآخرة فإنَّ من ماتوا ولم يسلموا فلا يلزم من الحكم بكُفرهم في أحكام الدنيا أن يُحكم على كلِّ معيَّنٍ منهم بأنه من أهل النار، بل أحكامهم في الآخرة وما يؤول إليه أمرهم مما يختصُّ به الله تعالى، ولا يَشملهم حكمٌ واحد؛ إذ منهم من لم تقم عليه الحجَّة الرِّسالية أصلًا، ولم يسمع بالإسلام ولا بالقرآن ولا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من سمع عن الإسلام سماعًا مشوًّها منفّرًا عن البحث فيه والالتزام به، وهؤلاء وأولئك يشملهم حكمُ أهل الفترة، وما كان الله ليظلمهم فيحاسبهم على ما لم يعلموه أو علموه على وجه مشوَّه.

ومنهم من تحقَّق فيهم أنه قد قامت عليهم الحجة الرِّسالية فعانَدوا الحقَّ وأبَوا الدُّخول في دين الإسلام، وهؤلاء يستحقّون العقوبة الأخروية، ويكونون من أهل النار.

وقد دلَّت نصوصٌ كثيرة على أنَّ العقوبة الأخروية متوقِّفة على قيامِ الحجَّة الرِّسالية، كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا}، وقوله تعالى: {رُّسُلࣰا مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ}، وقوله تعالى: {یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ قَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولُنَا یُبَیِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةࣲ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُوا۟ مَا جَاۤءَنَا مِنۢ بَشِیرࣲ وَلَا نَذِیرࣲۖ فَقَدۡ جَاۤءَكُم بَشِیرࣱ وَنَذِیرࣱۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ}.

وجاء في الحديث المتفق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ).

 وجاء في الحديث عن مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)، والمقصود بالسَّماع في الحديث السَّماع الذي تقوم به الحجَّة الرِّسالية لا مطلق السماع.

فهذا الفرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة هو الذي يتبيَّن به الموقفُ الشرعيُّ الصَّحيح في مقابل ما انتشر من انحرافاتٍ ومواقفَ عاطفيّة مصادمةٍ للنصوص الشَّرعيَّة، والذي يجب على كلِّ مسلم هو أن يعالجَ جهلَه بالعلم، وأن يكَبَح جِماح عاطِفتِه بالتمسُّك بالحدود والضَّوابط التي قرَّرتها النُّصوص الشَّرعيَّة، وأن يُوقن أنَّ ما أجمعت عليه الأمة من النَّهي عن الاستغفار لكل من مات على الكفر هو الحقُّ الذي لا تجوز مخالفته بحال، وأنَّ كلَّ ما يدَّعيه بعضُهم من التَّجديد في هذه المسألة فما هو في حقيقته إلا من التَّحرِيف لثوابت الدين، ولا صلة له بما يدَّعون أنه دعوةٌ إلى سماحة الإسلام؛ فإن سماحة الإسلام لا يمكن أن تكون بما يخالف النصوص وإجماع الأمة، وإنما هي في حقيقتها خضوعٌ لمرجعيّات ومقولات مخالفة للإسلام، يراد لها أن تنتشر وتشيع باسم الإسلام([1]).

 



([1]) المصدر: قناة التلغرام للأستاذ الدكتور عبدالله القرني بتاريخ 21/5/22  ٠٢:٠٦م.


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...