بين غُلَاة التَّبديع وغُلَاة التَّكفِير

بسم الله الرحمن الرحيم   

 

من أعظمِ البلاءِ على الأمَّة ما يحصل من بعضِ من ينتسبُ للعلم من الانحراف عن الجادَّة وما تواتر عليه عملُ سلف الأمة؛ إما بالغلو في الحكم على المسلمين بتكفيرهم أو تبديعهم، وإما بالخلل في التعامل مع المقالات البدعية بالدعوة إليها وتسويغ اعتقادها والعمل بها.

والذين حصلت لهم هذه الانحرافات قد بَنَوها على أُصولٍ أَحدثوها وفرَّقوا بها الأمة من حيث ظنُّوا أنهم يُحسنُون صنعًا، ولا أَمَلَ في الرَّد عليهم وإِزهاق باطِلهم بمجرَّد الكلام معهم في تفاصيل ما رتَّبوه من لوازم على تلك الأصول المحدثة، وإنما السَّبيل الأقومُ لردِّ باطلهم وإقامة الحجةِ عليهم هو الكشفُ عن فساد ما أحدثوه من تلك الأصول؛ حتى إذا ظهر بُطلانها كان بُطلان ما بنوه عليها لازمًا لهم لا يمكنهم الانفكاك عنه.

وأصلُ قول الغُلَاة في التَّكفِير هو: الظَّن بأنَّ كلَّ من وقع في شيء من المكفِّرات فقد كَفَر؛ لإهمالهم ما يتعلَّق بموانع التَّكفِير من جهلٍ أو شبهةٍ، والعجبُ ممن يشتبه عليه أمرُ هؤلاء مع كثرة النصوص الدالة على اعتبار موانع التَّكفِير، والعجبُ أشدّ ممن يعرف ما قرَّره العلماء من ضرورة التَّفريق بين التَّكفِير المطلق وتكفير المعين ثم هو يعتذر لهؤلاء بأنَّ قولهم من الاجتهاد السَّائغ، وأيُّ اجتهادٍ يعتبر مع ما يؤول إليه من استباحة الدماء والأموال؟!

وأما غُلَاة التَّبديع فأصل انحرافهم: أنهم لم يميِّزوا بين ما يكون به التَّبديع وبين ما هو من المسائل التي يسُوغ فيها الخلاف، ونصبُوا لأنفسهم أشخاصًا يوالون ويعادون على موافقتهم ومخالفتهم، ثم إذا اختلفوا فيما بينهم رمى كلٌّ منهم مخالفِيه بالبدعة، وكان لكل منهم من يُتابعه، فانتشر بذلك التفرُّق والشَّحناء في الأمة، وكان ذلك سببًا في ضعف المسلمين وأن يكون بأسُهم بينهم.

وبعضهم قد يجاوز الغلوَّ في التَّبديع إلى الغلوِّ في التَّكفِير، بل إلى تكفير بعضِ أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدقٍ عامٍّ في الأمة، كالذي حصل من تكفير بعضهم للإمام الجليل أبي حنيفة رحمه الله.

وأما ما يحصل في الطَّرف الآخر من تسويغِ بعضِ المقالات البدعيَّة فمردُّه إلى الخللِ في مفهوم أهل السُّنة وإدخالِ بعض الطَّوائف البدعيَّة في هذا الوصف، وترتَّب على هذا التَّبريرُ لمقالات تلك الطَّوائف والتَّهوين من مُوافقتها والدَّعوةِ إلى مقالاتها.

ومما يزيد الاشتباه في هذا الباب ما تقرَّر عند بعض المتأخرين من التَّأثر بمقالات بدعيَّة بدعوى ما يُسمونه مُعتمد المذهب، مع أن الأئمَّة المتبوعين لتلك المذاهب هم من أشدِّ الناس براءةً من تلك البِدع المُحدثة! ومن عرف حقيقة ما كانوا عليه من التمسُّك بالسُّنة والنَّهي عن البِدع والمحدَثات علمَ أن ما أُدخِل على مذاهبهم مما أصبح عند المتأخِّرين هو المعتمَد هو مباينٌ لمذاهبهم وما كانوا عليه أشدَّ المبايَنة.

والذي يُصغي لهؤلاء على اختلافِ مشاربِهم وشُذُوذاتهم وليس عنده من العلم ما يردُّ باطلَهم فيُخشى عليه أن يقع في شيء من شُبهاتهم، وإذا كان همُّه طلبَ العلم فالواقع يشهد بأن تأثُّره بشُبهاتهم هو أكبرُ عائقٍ عن التَّرقي في مدارجِ العلم، ومما يصرِف عمَّا يجب من تزكية النَّفس، ومجانبةِ ما يؤدِّي إلى تفرُّق المسلمين ونشر الشحناء بينهم.

فيَا مَن تُريد النجاة لنفسك إياك أن تُستدرج إلى ما يُثيره هَؤُلاء من الأَحكام الظَّالمة في حقِّ مخالفِيهم، وإيَّاك أن تغترَّ بالتَّرويج للبدع وإن زُخرفت لك الدَّعاوى، والزم طريق العلماء الرَّبَّانيين الذين غايتُهم هداية النَّاس والدَّلالة على ما فيه صلاحُ حالهم ومآلهم([1]).



([1]) المصدر: قناة التلغرام للأستاذ الدكتور عبدالله القرني بتاريخ 11/3/22  ٠٢:٠٦م.


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...