. 19 سبتمبر, 2022, 1:26 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
من الإشكالات التي يقع فيها غُلَاة التَّبديع والتَّكفِير المعاصرون أنه قد حصل لهم من الاشتباه في كلام العلماء مثل ما حصل لأسلافهم من الاشتباه في نصوص الوحي.
فكما حصل للخوارج من عدمِ التَّمييز بين المطلق والمقيد والعام والخاص من دلالات النُّصوص، ورتَّبوا على ذلك إطلاق الكُفر على كلِّ من فعل ما ظنوا أن النُّصوص قد دلّت على أنه كفر وليس كذلك= فقد حصل لبعض غُلَاة زماننا من الغُلو ما هو من هذا القبيل مع بعض ما قرره الأئمَّة في هذا الباب.
ومستندهم في ذلك: أنه قد ورد عن علماء السلف التَّكفِيرُ ببعض المقالات، فظنُّوا أن تلك الأحكام على إطلاقها، وأن علماء السلف لم يعتبروا في تلك المقالات إعذارَ المخالف وما قد يحصل له من جهلٍ بحكم الفعل، أو ما قد يحصل من الشُّبهة فيه وإن بلغته الحجّة في حكمه.
وكما كان يجب على الغُلَاة الأوائل أن يُراعوا ما كان عليه الصحابة والتَّابعون في فهم نصوص الكتاب والسُّنة وألّا يُجازفوا بالاعتماد على فهمهم القاصر= فإنه كذلك يجب على غُلَاة عصرنا ألَّا يُجاوِزوا ما قرَّره العلماء المحقِّقون فيما تكلَّموا فيه من الأحكام على الأئمَّة والطَّوائف الإسلامية، وأن يعلموا أنَّ الاشتباه الذي حصل لهم لم يُشكل على أهل العلم كما أشكل عليهم؛ لأنهم نظروا إلى تلك الإشكالات وفق أصول العلم وقواعده، وردُّوا ما اشتبه منها إلى ما هو مُحكم، وانتهوا إلى ما قرَّروه من أحكام بعد التحرِّي التام، وأنه لا سبيل لسلوك طريقِ العدل والإنصاف إلا بموافقتهم والاقتداء بهم، ومراعاةِ ما قرَّروه من القواعد التي يجب الالتزام بها عند الكلام في هذه المسائل.
وقاصمةُ الظهر أن هؤلاء الغُلَاة لم يقفوا عند التَّنظير لهذه الأحكام الجائرة، بل تجاوَزُوا ذلك حتى بلغ الحال ببعضهم إلى تكفير الإمام أبي حنيفة رحمه الله ورضي عنه! فخالفوا بذلك ما أطبَقَت عليه الأمة على تعظيمِه وتقديرِ مكانتِه واعتبارِ أقواله عند النَّظر فيما اختلف فيه الأئمَّة من مسائل العلم، وكالقول الذي ذهب إليه بعضهم بإطلاق القول بتكفِير أعيان الأشَاعِرة، بدعوى أن السَّلف قد كفَّروا أعيان الجَهميَّة، وأنَّ مقالات الجَهميَّة متحقِّقة عند الأشَاعِرة، فتكون أحكام ما زعموه من أحكام السَّلف على الجَهميَّة منطبقة عليهم.
ومن المؤسِف أنه قد سَرَى هذا البلاءُ عند بعض النَّاشئة الذين لا يُدرِكون مَنَاطات هذه الأحكام ولا حقيقة موقف أهل السُّنة منها، وغرَّهم ما يُروِّج له دعاةُ هذا الغلو من أنهم إنما يعتقدون ما سبق أن قرَّره أئمة السلف، وأنهم غرباءُ في وقتٍ انتشر فيه تمييعُ هذه الأحكام حسب زعمهم، وعزَفَ هؤلاء النَّاشئة عن تلقِّي العلم عن أهله وعلى أصوله، وانفردُوا بجملةٍ من المقالات والأحكام الغالية، وانقلب من كان بالأمس جاهلًا بأحكام الشريعة إلى متعالمٍ لا يُراعِي حقَّ العلم والعلماء، مسرفٍ في إصدار أحكام التَّكفِير على بعض الأجلَّة من علماء الأمة ومن لهم لسان صدق عام فيها، والله المستعان([1]).