الغرب وماذا يريد من الشرق؟ د. مُحمَّدُ بنُ إِبرَاهِيمَ السَّعِيدِي

بسم الله الرحمن الرحيم     

 

حينما أظهر (وليم جيمس) و(جون ديوي) نظريتهما حول النَّفعية فإنهما لم يقدّما عمليًّا شيئًا جديدًا لسياسة الغرب نحو الشرق، ولكن نظريتهما كانت غطاءً فلسفيًّا يتناسب مع العصر الحديث الذي لم يعد -لا سيما في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين- يقتنع بالتفسيرات الدّينية للشرّ عمومًا ولقتل المخالفين على الخصوص، فقد تم تبرير قتل ملايين الهنود الحمر دينيًّا، وقبل ذلك في قلب أوروبا تم تبرير قتل الأرثوذكس والبروتستانت بتعاليم الدين، وقبلها بقرون أيضًا تم تبرير قتل المسلمين والهنود والصينيين والأفارقة بتعاليم الكتب المقدسة.

بعد الثّورة الفرنسية واضمحلال سلطان الدّين من أوروبا، ازدادت قوة أوروبا وكانت عمليًّا في حاجة للتّفسير الدّيني لما يصاحب حملاتها الاستعمارية ضد الشرق، إلا أن ضعف التدين الأوروبي جعل الدول الاستعمارية في حاجة للتّجنيد عن طريق تسخير أبناء الشعوب المستعمرة بالقوّة أو بالإغراء المادي، وأيضًا عن طريق النّفخ في المشاعر القومية والوطنية لا سيما حين تكون الحروب ضد شعوب مسيحيّة كما في الحربين العالميتين.

وحين قويت الفلسفة النفعية على يد الرجلين (جيمس) و(ديوي) كانت بمثابة طوق النّجاة للمشاريع الاستعمارية الأوروبية التي لم تستفد من هذه الفلسفة طويلًا؛ حيث كان دخول الولايات المتحدة في الحربين العالميتين وحسمها الكامل لهما لمصلحة الحلفاء بمثابة الإجهاز على النظام الاستعماري الأوروبي وبداية تاريخ جديد تسير فيه السياسة الدولية كما تهوى الولايات المتحدة التي كانت أسعد الدول حظًّا بفلسفة (جيمس) و(ديوي)؛ حيث وجدت فيها بديلًا مناسبًا يمكن أن يتفهم من خلاله الأميركيون سياسة بلادهم العالمية، دون أن تتخلى عن البعد الديني الذي سبق وتحدثت عنه في مقال سابق، ولكن عند الحاجة إليه وفي نطاق غير إعلامي غالبًا.

لكن المشكلة التي تواجه الدعاية الأميركية اليوم لسياستها في العالم: أن الإقناع بالتفسير النفعي لها أصبح صعبًا جدًّا لاسيما سياستها في الشرق الأوسط، فالمواطن الأميركي لا يمكنه أن يقتنع بأن إدارة بلاده لمشروع الفوضى الخلاقة وما يتخلله من قتل ودمار في منطقتنا يمكن أن يحقِّق منفعة حقيقية للولايات المتحدة، وكذلك مشروع قتل القِيم الفطرية والذي لم يسلم منه حتى الشعب الأميركي نفسه، فهو كما يسميه الكاتب الأميركي (غاري ميلر) [لعنة عام 1920م] فالسياسات الأميركية الداعمة لهذين الاتجاهين في العلاقات الدولية والأخلاق لم تعد مفهومة لدى المواطن الأميركي من زاوية الفلسفة النفعية؛ لذا لم يكن أمام الساسة الأميركيين إلا العودة إلى التفسير الديني، ولكن على نطاق محدود جدًّا كما فعل (رونالد ريجان) و(بوش الابن)، أو التعتيم الإعلامي الداخلي عَلى ما تفعله بلادهم في الخارج، وهو الأكثر شيوعًا مع ضعف ما يحققه من نجاح.

فلا يمكن بحال أن يقتنع الأميركي أن دعم القتل الشنيع في العراق وسورية وليبيا فيه أدنى درجات النفع لأميركا، وكذلك مشروع إعادة تقسيم الشرق الأوسط الذي تفتعل أميركا هذه الحرب الخلاقة لأجله يمكنه أن يفتح أبوابًا جديدة للرخاء والاستقرار ورغد العيش للشعب الأميركي.

فالولايات المتحدة تخسر كثيرًا من رعايتها للفوضى في الشرق الأوسط من سمعتها ومن مالها ومن مواطنيها أيضًا، في حين لا تحقق أي مكاسب يلمسها المواطن الأميركي حاليًّا أو مستقبليًّا.

فليس صحيحًا أبدًا ما يُشاع من أن تمكين إيران من العراق وقتل سنة العراق وتهجيرهم وتقسيم بلادهم سوف يقدم للمواطن الأميركي مزيدًا من الاستقرار، وبعيد جدًّا عن تصديق القول بأن مشروع تقسيم السعودية المعروف بخارطة (برنارد لويس) سيعطي المواطن الأميركي مزيدًا من النفط ومزيدًا من المال، وأقرب ما يكون للتهريج أن يقال: إن تقسيم السودان الواقع الآن برعاية أميركية قد ارتد على المواطن الأميركي بالخير، وكذلك مشروع تقسيم مصر الذي تتحدث عنه بعض الخرائط ومشروع تقسيم ليبيا واليمن الذي يتضح تعاطف الولايات المتحدة معه لا يمكن إلا من باب المزاح القول: إنه مفيد لمستقبل الولايات المتحدة الأميركية.

أقول ذلك وأنا أعلم أن كثيرًا من المحللين في العالم العربي يصرون على أن ما تفعله الولايات المتحدة إنما تقوم به لما ترى أنه يحقق لها مصالح كبرى، لكنني لا أرى ذلك أبدًا؛ لأن مصلحة أميركا في الحال والمآل هي في إبقاء الحال على ما كان عليه قبل عام 1990م، ولو كانت السياسة الخارجية الأميركية تعمل حقًّا كما كانت قبل ذلك العام لمصلحة الدولة الأميركية لما ارتكبت كل هذه الجنايات والتقحمات في الشرق الأوسط بيدها أو بيد مجنديها من الدُّول والأفراد.

والحقيقة التي تبدو لي وقد قرأتها لبعض الكتاب العرب وأظنني قرأتها في بعض مقالات الأميركيين كـ(نعومي تشوميسكي)، وقد قرأتها في مقال منسوب للكاتبة الأميركية المتوفاة (هيلين توماس): أن الولايات المتحدة الأميركية في شأنها الخارجي وبخاصةٍ في الشرق الأوسط هي عبارة عن مستعمرة أميركية لا تعمل إلا ما يخدم مستقبل الكيان الصهيوني، وتمر علينا في العديد مما نقرؤه من مقالات وكتب كلمات التحذير من اليهود على مستقبل أميركا، والتي قالها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة من أمثال الرئيسين الأول والثاني (جورج واشنطن) و(جون أدمز)، بل والرئيس الثالث (توماس جيفرسون)، والذي قال في إحدى رسائله: "إنني مؤمن بأن هذه المؤسسات المصرفية التي يسيطر عليها اليهود أشد خطرًا على حريتنا من الجيوش الغازية"([1]).

بل ينقلون عن أحد كبار أسرة روتشيلد المصرفية اليهودية أنه قال: "علموا هؤلاء الأميركيين الوقحين درسًا لا ينسونه ليعودوا إلى حالة الاستعمار التي كانوا عليها".

وأنوه هنا إلى مقال جميل كتبه قبل عامين الأستاذ عبد الله السلطان بعنوان "الرؤساء الأميركيون واليهود"، لكن المهم أن تحذيرات أولئك الآباء ذهبت أدراج الرياح بسبب عدم استماع الأميركيين لنصائح حكمائهم، وها هي الولايات المتحدة تستنزف نفسها وتستنزف العالم من أجل من شهدت عليهم الأرض والسماء بأنهم ألأم أهل الأرض، ودائمًا وأبدًا ها هي مآلات من لا يحبون الناصحين.



([1]) ينظر: https://www.albayan.ae/opinions/2002-04-27-1.1316377 .


المرفقات

  • {{__('blog.Noattachements')}

Comments

Leave a comment

Blog categories

عربة التسوق

Loading...